تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

"زهايمر" القارة العجـوز..!

مصدر الصورة
محطة أخبار سورية - خاص

بديــع عفيــف

لو أنّ أحداً توقع قبل شهرين ما يحدث في فرنسا هذه الأيام، لكان الجميع وصفه بـ"العته" والجنون وحتى الغباء؛ إذ كيف يجرؤ أحد على مجرّد تخيل أنّ "عاصمة النور" والثقافة يمكن يحصل فيها ما حصل في الشهر الماضي، وآخره يوم السبت، الثامن من كانون الحالي؛ مَن كان يصدّق أنّ عاصمة "الحرية" و"الديمقراطية" و"حرية الرأي" و"الفكر" يمكن أن تتحوّل في أيام إلى عاصمة للتخريب والحرق والتكسير والسرقة والنهب والغازات المسيلة للدموع، والمدرعات والاعتقالات، وأنْ يعلن وزير مالية فرنسا أنّ الوضع كارثي، وأنْ يطالب وزير خارجيتها الرئيس الأمريكي بعدم التدخل في الشؤون الفرنسية، وأنّ يتم البحث عن متهم خارجي لتحميله مسؤولية ما يجري؟! وبالطبع، ليس من فراغ أن "يشمت" الرئيس ترامب بالفرنسيين أو أن يرفع الرئيس التركي أردوغان عقيرته ويرفض أن "ينظّر" أحدٌ عليه بعد اليوم بـ"الديمقراطية"..؟!!

لقد أثبتت الأحداث في فرنسا أنّ ردّة الفعل الشعبية تكاد تكون واحدة، لا فرق بين دولة من العالم الثالث أو من العالم الأول؛ عندما تتعرض مصالح الناس ولقمة عيشها للخطر، فإن ردّة فعلها ستكون متشابهة؛ بل نكاد نجزم أنّ ردّة فعل شعوب العالم الثالث تكون أقل قسوة لأنها تستطيع تحمّل الحرمان والفقر وشظف العيش بشكل أكبر، وقد اعتادت عليه.

سمّه ما شئت؛ الربيع الفرنسي؛ الشتاء الفرنسي؛ الفوضى الأوروبية الخلاقة... الخ؛ لم تعد مهمة التسميات، فتسليط الضوء على ما يجري في فرنسا وبقية أوروبا، يوضّح أنّ القارة العجوز أصابها الخرف وهي تسير في طريق الانحدار الشديد، ولكن ما لا نعرفه هو مدى السرعة التي ستمضي بها إلى القعر وتصطدم بالجدار، ولنلاحظ بعض ما يجري بهدوء؛

أولاً، لم تعد الوحدة الأوروبية حلماً للشعوب الأوروبية كما كان يتم تصويرها، بل إنّ العديد من هذه الشعوب، ولاسيما في الدول الغنية، تعتبر أنّ البقاء في الاتحاد الأوروبي يشكل عنصراً ضاغطاً عليها وخطراً على مستقبلها وتطلعاتها ويجب التخلص منه؛ وليس البريطانيون وحدهم من يريد الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ إذ لو فٌتِح المجال أمام الآخرين لربما سبقوا البريطانيين في الخروج من هذا الاتحاد البيروقراطي العقيم؛

ثانياً، رغم سنوات الوحدة الأوروبية الطويلة، فما زالت الخلافات بين الدول الأوربية كبيرة، والفجوة تتزايد اتساعاً بين الأغنياء والفقراء، وفي الفكر والثقافة وغيرها، وما زال الشعور الوطني في كل بلد متفوقاً على الشعور  بالانتماء "لأوروبا" الموحدة، وما زال كل كيان يبحث عن مصالحه أولاً، حتى ولو كان على حساب مصالح الشركاء الآخرين؛ هل نسأل عن الفوارق بين اليونان وألمانيا وإيطاليا وغيرها...؟! أضف، أنّ إدخال أعضاء جدد من حلف "وارسو" السابق في الاتحاد الأوروبي ساهم في زيادة مشاكل الاتحاد والأعباء الاقتصادية عليه، وخلق مشاكل جديدة تراكمت فوق تلك القائمة وزادتها تعقيداً.

ثالثاً، إنّ العلاقات عبر الأطلسي لم تعد كما كانت في العقود السابقة؛ التنافس بين الحلفاء الغربيين يضاهي نظيره بين أوروبا وكل من روسيا والصين؛ "أمريكا أولاً"، شعار رفعه الرئيس الأمريكي القادم عبر عالم الانترنيت و"تويتر"، جعل أوروبا تشعر، وللمرة الأولى منذ عقود، أنها وحيدة، مسؤولة عن اقتصادها وعن أمنها وعن مستقبلها، وأنّ الشريك الأمريكي يريد منها أن تدفع ثمن كل ما قد يقدمه لها وهو بالمناسبة قليل جداً، إذ أنّ "السكافي حافي" كما يقول المثل الشعبي؛ فالمصالح الأمريكية لم تعد متطابقة تماماً مع المصالح الأوروبية وقد رأينا تبادل التهديد بالعقوبات والمطالبات الأمريكية للأوروبيين بالدفع، شأنهم شأن السعودية أو أي دولة من دول الخليج، وأنّ ترامب المتغطرس لا يكنّ الكثير من الاحترام للشركاء الضعفاء.

رابعاً، إنّ وضع أوروبا في المجال الأوراسي ليس بأفضل حال، لاسيما في ظل التعاون الروسي الصيني المتزايد، والذي يتطور رويداً رويداً وبخط تصاعدي ليشكّل في الشرق، قيادة اقتصادية عسكرية جديدة للعالم، تمتلك الموارد المتنوعة والثروات والأسلحة والإرادة والعزم والقدرة على المنافسة وجذب الاستثمارات وتحقيق التقدم والتنوع، وبدون تلك البصمة الاستعمارية للغرب، وهذا بدون أدنى شك سيكون على حساب الأوروبيين أيضاً. وليس عبثاً أن تتجه ألمانيا وبريطانيا لعقد الاتفاقيات مع المارد الصيني، أو أن تحاول الولايات المتحدة محاصرة روسيا بالعقوبات، وعرقلة تقدّم الصين بالحرب التجارية؛ الولايات المتحدة بدأت تدرك أنها لن تستطيع أن توقف زحف الشرق نحو الصدارة والقمة، ولكنها تحاول إبطاءه.

أوروبا مشتتة ومربكة ولا رؤية موحدة لديها، ولا منقذ يقودها ولا مخلّص تعتمد عليه. وحيث أنّ المنافسين كثر وأقوياء، فإن القارة العجوز تسير بدون توازن وكأنها أصيبت في روحها، ومن الصعب التفاؤل بمستقبل أفضل لها وسط هذا الزهايمر المنتشر في أرجائها..؟!!

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.