تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

نهـاية وهــم الدويــلات..!!


4/7/2015

كتب الأدميرال الأمريكي الفريد ماهان أحد القادة العسكريين الذين وضعوا الاستراتيجية الإمبريالية في العصر الحديث عام 1904 "إن منطقة البحر الأبيض المتوسط لن تكون إلا لسيد واحد. ولا يمكن أن تقع إلا تحت هيمنة قوة عظمى وحيدة. ستدفع بامتيازاتها في هذه المنطقة في جميع الاتجاهات أو أنها ستكون مسرحاً لصراع دائم".

واليوم بإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تشكيل تحالف دولي يضم دول المنطقة ومنها السعودية وتركيا الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة للتعاون مع حكومة الجمهورية العربية السورية في مكافحة الإرهاب والتعبير عن الدعم الروسي المطلق للرئيس بشار الأسد وإبداء الاستعداد للعمل معه لإنجاز إصلاحات سياسية، نكون أمام لحظة تاريخية ومفصلية في تاريخ المنطقة، وهي انحدار النفوذ الأمريكي على منطقة البحر الأبيض المتوسط وصعود النفوذ الروسي قوة وحيدة فيها، وهو ما يعبر عنه في لغة البيان الانتقال من التعريض إلى التصريح وبالتالي انتهاء أحلام البعض من الداخل والخارج بإقامة دويلات وإمارات وأشباه دول أو ما يُعبر عنها بأضغاث التقسيم وخارطة سايكس بيكو الجديدة للمنطقة.

وما عويل الرئيس التركي أردوغان "بمنع" إقامة دويلة كردية على حدود بلاده في المناطق السورية إلا من باب إعلان الطاعة وتقديم أوراق الاعتماد لسيد المنطقة الجديد، وأنه جاهز ليكون جندي في خدمته، وهو من اعتاد التسول على أبواب الزعماء.. وإن زيارة ولي العهد السعودي لموسكو ولقاء الرئيس الروسي وتوقيع معاهدات للتعاون في مجال التسليح والفضاء إلا إشارات لهذا التحول التاريخي، وإن كان البعض من السوريين ـ ومن الأكراد تحديداًـ لم يقرؤوا السياسة الدولية وتاريخها جيداً ولم يستفيدوا من تجارب الماضي، ووقعوا في الخطأ للمرة الثالثة خلال أقل من خمسين عاماً، وهو ما عبر عنه أحد الرسميين الإيرانيين الكبار زمن الشاه عام 1975 عندما جرى إطلاع الإسرائيليين على الاتفاق بين الشاه وصدام حسين في الجزائر، وعتب المسؤول الإسرائيلي لخيانة الشاه للأكراد والتخلي عنهم في حربهم مع صدام، بالقول: "إن ضعف إسرائيل يكمن في أنها تسمح للمشاعر بالتدخل في السياسة فلا يجب اعتبار مساعدة الأقليات هدفاً بحد ذاته، وإنما وسيلة للحصول من خلالها على تنازلات من الغالبية وفي هذه الحالة من العراقيين. كما يجب أن يعرف رجال السياسة الحقيقيون متى يضعون حداً لمساعدتهم الأقليات بغية الحصول على التنازلات الرئيسية من الغالبية".

فالولايات المتحدة التي كان الأكراد يعتقدون أنها تساندهم عبر طائرات التحالف الأمريكي في حلمهم بإقامة دولة كردية لهم في مناطق سيطرتهم قامت بالإيعاز إلى أردوغان لتسهيل دخول عناصر من داعش عبر الأراضي التركية إلى معاقلهم في عين العرب. وأما يسمى "إئتلاف الدوحة" الواهم بالسيطرة على الدولة السورية، والذي سعت الولايات المتحدة لاستصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتباره الممثل لتطلعات الشعب السوري، وعقدت ما يربو على أكثر من عشرة مؤتمرات دولية لما يسمى أصدقاء سورية، فقد انتهى به الحال مدرجاً على لوائح الارهاب الدولي والمنع من دخول أراضي الولايات المتحدة الأمريكية وبات طريداً للعدالة الأمريكية؛ فأين احترام قرارات الشرعية الدولية في ذلك؟!

        فأمريكا التي فشلت في تطبيق نظرية فراغ القوة عقب الانسحاب من العراق، انتقلت إلى سياسة حافة الهاوية عند التلويح بضرب سورية بذريعة البرنامج الكيميائي السوري. وعندما أُسقطت من يدها تلك الذريعة وأدركت أنه لا محالة مغادرة المنطقة، وينبغي عليها الاعتراف بالسيد الجديد والإقرار بتغير المناخ الدولي الاستراتيجي الذي كان يحذر منه هنري كيسنجر، وعودة الإمبراطورية الروسية إلى ساحة القرار الدولي كشريك أساسي ومقرر، وليس مجرد حليف أو تابع، كما كانت ترجو وتخطط بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

وكانت تريد تفادي مصير فرنسا وبريطانيا عقب حرب السويس والاستمرار في لعب دور القرصان الشهير مورغان الذي تقوم فلسفته على أن القرصان العادي هو الذي يُغير على السفن التجارية المسافرة فيقتل ركاباً أبرياء وينهب حمولتها من الأشياء والنقود.. أما القرصان الذكي فإنه لا يُغير إلا على سفن القراصنة الآخرين ينتظرهم قرب مكامنهم عائدين محملين بالغنائم مجهدين من القتل والقتال، ثم ينقض عليهم محققاً جملة من الأهداف:

يحصل على كنوز عدة سفن أغار عليها القراصنة العاديون في رحلة شاقة وطويلة فيما القرصان الذكي يحصل عليها جاهزة وبضربة واحدة.

2ـ لا يرتكب بالقراصنة جريمة لأنه نهب الذين قاموا بالنهب وقتل الذين سبقوه بالقتل، وعليه فإن ما قام به لم يكن جريمة وإنما عقاب عادل، ولم يكن قتلاً ولا نهباً وإنما قصاصاً.

3ـ يصنع لنفسه مكانة وهيبة تذكرها تقارير العهد وتتذكرها حكايات الليل.

ويذكر محمد حسنيين هيكل راوي هذه الحقيقة، أن الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تلعب دور القرصان الذكي أصبحت مثلها مثل بريطانيا وفرنسا، ومثل جميع اللصوص في البلدان المستعمرة، تحولت إلى قرصان عادي يقوم بالاعتداءات وينفذ أبشع عمليات القتل والتدمير.. فقد قامت بأكثر من مئتي عملية اعتداء، ومنها الاعتداء على سورية والعراق وغيرهما الكثير. وأرادت أن تعيد لعب دور القرصان الذكي مع تركيا وقطر والسعودية وأدواتهم من المعارضة السورية خلال الأزمة السورية، لكن الزمان تغير والشعوب والقادة المؤمنين بتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم أنهوا تلك التراجيديا المسماة "الربيع العربي"، فلم تحقق الولايات المتحدة الأمريكية مرادها بالحصول على تنازلات من القوى الجديدة في المنطقة، وبات عليها انتظار وصول السيد لافروف ليطلعها على نتائج مباحثاته مع القيادة السورية ومدى قبولها لتعويم حلفائها وحفظ ماء وجهها وعدم ملاحقة القراصنة الصغار الداعمين والممولين للإرهاب الدولي.   

وكان على حلفاء واشنطن تذكُر تحذير بيرجينسكي من عدم لعب الشطرنج مع روسيا.. وكان استشعاراً بخطأ السياسة الأمريكية تجاهها بالقول: "لا ينبغي أن تلعب الشطرنج مع روسيا حيث هو الرياضة الوطنية, إنهم مدربون فكرياً جيداً على ألا يرتكبوا الخطأ الذي ينتظره الخصم منهم، وهو بهذه المناسبة التصرف بحماقة، رداً على الاستفزازات غير ذات المعنى الاستراتيجي. ولكي نحسن تقييم ما تستطيع روسيا أن تجلبه من إيجابيات للعالم الحالي، علينا أولاً أن نفهم لماذا كان لها كل هذا النفوذ القوي على العالم السابق؛ فروسيا ذات مزاج عالمي والمساواة مسجلة في قلب الهيكل الأسري بقاعدة وراثة متسقة".

وسعي الاستراتيجيون الأمريكيون إلى إقناع العالم والروس بانتهاء مرحلتهم الإمبراطورية انتهى، فهم كانوا في الحقيقة يكشفون بوجه خاص عن دواعي قلق الامبراطورية الأمريكية ذاتها التي تحولت من حامية إلى طائر كاسر. وفي ذات الوقت الذي كفت فيه فائدتها السياسية والعسكرية عن أن تكون واضحة، أخذت تتبين أنها لا تستطيع الاستغناء عن الخيرات التي ينتجها الكوكب، لكن العالم واسع وكثير السكان ويتعرض لقوى غير محكومة، وما من استراتيجية أياً كان ذكاؤها يمكن أن تتيح لأمريكا تحويل وضعها شبه الإمبراطوري، إلى إمبراطورية بحكم الواقع والقانون؛ فهي أضعف من ذلك اقتصادياً وعسكرياً وإيديولوجياً.. وهذا هو السبب في أن أي حركة ترمي إلى إعادة قبضتها على العالم تولّد ردود فعل سلبية تزيد من ضعف وضعها الاستراتيجي. ومن يتابع نصائح هنري كيسنجر في كيفية التعامل مع روسيا الإمبراطورية وضرورة احتواء عودتها إلى الساحة الدولية وتشكيل نظام مسؤول عن التعاون معها وتقوية الآليات الاستشارية السياسية ضمن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا ((OSCE، وذلك برفعها حتى المستوى الرئاسي وأن تجتمع دورياً لمراجعة الوضع الدولي، يدرك أنّ ما فعلته الولايات المتحدة في الأعوام الأربعة الماضية تجاه روسيا هو عكس ذلك.

إن عودة روسيا إلى سابق عهدها الإمبراطوري لم تكن مرتجلة، بل كانت مخططة ومدروسة بشكل منظم مسبقاً بدليل أن الرئيس بوتين كتب عن ذلك في اليوم الذي سبق وصوله لكرسي الرئاسة عام 2000: "سوف لن يحدث أبداً تحول روسيا إلى نسخة ثانية للولايات المتحدة أو بريطانيا... بالنسبة للروس إن الدولة القوية ليست شذوذاً يجب التخلص منه، بل على العكس تماماً فهم يرونها وكأنها ضامن للنظام وممهد للقوة الدافعة الرئيسية لأي تغيير". ولقد ترسخ هذا الشعار في القضية السورية، وبات الحديث عما يقرره الروسي، وليس على الأمريكي سوى انتظار المبادرات الروسية. لقد ولى الزمن الذي كان فيه الأمريكي سيد العالم وقطبه الأوحد.

وبالنهاية، فإن سورية مهد الحضارات وعلى أسوارها تزول الإمبراطوريات بدءاً من الهكسوس والفرس والتتار والصليبين ومن بعدهم العثمانيين والفرنسيين والإنكليز وأخيراً الأمريكان.. وصدق من قال "سورية الله حاميها" لأنها كانت وستبقى عصية على أحلام التقسيميين وتجار الأوطان؛ فهل يدرك الواهمون انتهاء حلم الدويلات وأن ساعة التاريخ باتت تضبط اليوم على توقيت دمشق وليس غيرها؟


إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.