تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ما بعد الإمبراطورية الأمريكية..!!

 14/6/2015

توشك الولايات المتحدة الأمريكية أن تغدو مشكلة العالم. لقد حاولوا اقناعنا أن نرى فيها حلاً يضمن الحرية السياسية والنظام الاقتصادي طيلة نصف قرن, لكنها تبدو الآن بصورة متزايدة عامل اضطراب دولي, تجر ـ حيثما استطاعت ـ الشك والنزاع؛ إنها تطالب الكوكب بأسره أن يعترف بأن دولاً ذات أهمية ثانوية تمثل محوراً للشر وينبغي محاربتها والقضاء عليها مثل كوريا الشمالية وسورية وإيران التي تشكل الهاجس المستهدف.

واستفزت الولايات المتحدة الصين بقصف سفارتها في بلغراد أثناء حرب كوسوفو, وبدسّ (ميكرفونات) يسهل اكتشافها في طائرة بوينغ كانت موجهة إلى قادتها. وبين ثلاثة عناقات عامة واتفاقي نزع سلاح نووي، استفزت روسيا برعايتها ـ من خلال إذاعة أوروبا الحرة ـ إذاعاتٍ باللغة الشيشانية، وبإرسالها مستشارين عسكريين إلى جورجيا، وبإقامتها قواعد دائمة في آسيا الوسطى في مواجهة الجيش الروسي، ومن خلال التدخل السافر في الأزمة الأوكرانية.. وأخيراً جاءت الذروة النظرية لهذا الاضطراب العسكري عندما سرّبت وثائق تتحدث عن ضربات نووية لدول غير نووية.

وهكذا تطبق حكومة واشنطن الاستراتيجية التقليدية ـ وغير الكفؤة ـ "استراتيجية الجنون" التي توصي بأن تبدو غير مسؤول في نظر الخصوم المحتملين حتى تخيفهم أكثر. أما عن إقامة الدرع الفضائي, الذي يحطم التوازن النووي والذي يسمح تطويره النهائي للولايات المتحدة بأن تسود العالم بأسره بالرعب, فأنه يجبرنا على الدخول في عالم أقرب إلى روايات الخيال العلمي. فكيف إذن نندهش من موقف الشك والخوف الجديد الذي ينتاب ـ واحداً بعد الآخر ـ كل أولئك الذين يقيمون سياستهم الخارجية على مبدأ مطمئن هو: أن القوة العظمى الوحيدة هي في نهاية الأمر دولة مسؤولة.  

ويزيد من قلق الحلفاء والعملاء التقليديين للولايات المتحدة أنهم يجدون أنفسهم قريبين من المناطق التي يصفها قائدهم بأنها حساسة؛ فكوريا الجنوبية تذكر في كل مناسبة بأنها غير مهددة من جارتها الشيوعية المتشددة في الشمال؛ ودول الخليج تؤكد أنها ليست في حالة نزاع مع إيران. ولم تعد لروسيا والصين وإيران - وهي ثلاثة دول أوليتها الأولى التنمية الاقتصادية ـ سوى شاغل استراتيجي هو مقاومة الاستفزاز الامريكي, وألا تفعل شيئاً سوى أن تكافح  من أجل استقرار العالم. أما كبار حلفاء الولايات المتحدة فتتزايد حيرتهم, ويتزايد ضيقهم؛ ففي أوروبا ـ حيث كانت فرنسا وحدها تتباهى بالاستقلال أضحت أكثر تابعية من السعودية.. ونلحظ بقدر من الدهشة ألمانيا الساخطة والمتمردة والمملكة المتحدة ـ الوفيه بين الأوفياء ـ قلقة صراحة.

وفي الطرف الآخر من العالم يعبّر صمت اليابان عن استياء متزايد أكثر منه التحاماً لا يتصدع. فالأوروبيون لا يفهمون لماذا ترفض أمريكا تسوية القضية الفلسطينية في حين أنها تملك القدرة المطلقة على ذلك. ويبدأون التساؤل عما إذا لم تكن واشنطن راضية في الجوهر عن استمرار بؤرة للتوتر في الشرق الأوسط. وأن تبدي الشعوب العربية عداءً متزايداً للعالم الغربي، والدليل على ذلك أن منظمة  القاعدة ـ وهي عصابة من الإرهابيين المرضى ـ خرجت من منطقة محددة ومحدودة في الكوكب, وهي السعودية وبإشراف الاستخبارات الأمريكية والسعودية، حتى أن ابن لادن ومساعدوه جندوا عدة منشقين مصريين, وحفنة من الضائعين القادمين من الضواحي في أوروبا الغربية. لكن أمريكا اليوم تسعى جاهدة إلى تحويل القاعدة وتفرعاتها من "نصرة وداعش" إلى قوة ثابتة بقدر ما هي شريرة.

فالإرهاب الذي تنشره كلّي الوجود، من البوسنة إلى الفلبين، ومن الشيشان إلى باكستان، ومن لبنان إلى اليمن مروراً بسورية ـ مضفية بذلك الشرعية على أي إجراء عقابي في أي مكان وأي زمان. إن رفع الإرهاب إلى وضع القوة العالمية يعطى طابعاً مؤسساتياً لحالة حرب دائمة على مستوى الكوكب. حرب عالمية رابعة على حد قول بعض الكتاب الأمريكيين الذين لم يعودوا يخشون من السخرية باعتبارهم الحرب الباردة الحرب الثالثة.. وكأن الولايات المتحدة تسعى ـ لسبب غامض ـ إلى الإبقاء على مستوى معين من التوتر الدولي, حالة حرب محدودة لكنها متوطنة، والحال في سورية واليمن وأوكرانيا خير مثال على ذلك.

فالعالم بعد أحداث 11 أيلول عبّر عن رغبة تعد الأكثر عمقاً في الوجدان الأممي، وهي التطلع إلى وجود قوة عظمى ومقبولة، تعترف أن التنظيم الرأسمالي للحياة الاقتصادية وديمقراطية الحياة السياسية هما الوحيدان المعقولان والممكنان. فالجميع أدان الاعتداء وروسيا انتهزت الفرصة لتبين أنها تريد في المقام الأول علاقات طيبة مع الغرب وفتحت أمام القوات المسلحة الأمريكية المجال الاستراتيجي الذي لا غنى عنه في آسيا الوسطى, ولولا مشاركة روسيا النشطة لكان الهجوم الأمريكي في أفغانستان مستحيلاً.

لقد أبهر اعتداء 11 أيلول الأطباء النفسيين! فانكشاف هشاشة أمريكا أثار الاضطراب في كل مكان تقريباً لا بين الكبار فقط وإنما بين أطفالهم.. وعرّت أزمة نفسية حقيقية حينئذ البناء الذهني للكوكب، وغدت الولايات المتحدة وهي القوة العظمى والوحيدة، في حالة لا وعي.

          وكان أنصار أمريكا وأعداؤها كالأطفال الذين حُرموا السلطة التي يحتاجونها إما للخضوع لها أو لمكافحتها. باختصار كشف اعتداء 11 أيلول الطابع الطوعي لعبوديتنا. وتحققت بشكل رائع نظرية القوة اللينة لجوزيف ناي: إن أمريكا لا تحكم فقط ـ أو حتى أساساً ـ بالسلاح وإنما بمكانة قيمها ومؤسساتها وثقافتها. وبعد ثلاثة شهور بدا أن العالم قد استعاد توازنه العادي, فقد انتصرت أمريكا وعادت ـ بقوة بضع غارات ـ شاملة القدرة. وظن الأتباع أنهم يستطيعون العودة إلى شؤونهم الاقتصادية والداخلية، واستعد المنازعون إلى أن يستأنفوا تنديداتهم بالإمبراطورية الأمريكية وتعاويذهم الأبدية من النقطة التي تركوها فيها.

كنا ننتظر أن يؤدي جرح 11 أيلول النسبي للغاية إلى تقارب أمريكا من المصير المشترك للبشرية وأن يجعلها حساسة لمشاكل الفقراء والضعفاء. لقد عاش العالم حلماً وهو اعتراف كل الدول بأن شرعية سلطة الولايات المتحدة ستؤدي إلى ظهور إمبراطورية خيرة حقاً حيث يتقبل اسياد الكوكب سلطة مركزية, ويخضع السادة الأمريكيون لفكرة العدالة.

فالحرب على الإرهاب كان من شأنها أن تضفي طابعاً مؤسساتياً على شرعية الولايات المتحدة لو أنها دارت بصورة متواضعة ومعقولة, لكن حلت صورة الولايات المتحدة اللامسؤولة والنرجسية والعدوانية والمستثارة, محل صورة الدولة الجريحة التي تثير التعاطف والتي لا غنى عنها لتوازننا وهذا ما نحن عليه الآن.

إن أشد ما يثير القلق في الوضع الراهن هو في الجوهر غياب نموذج تفسيري مرض للسلوك الأمريكي؛ لماذا لم تعد الدولة العظمى الوحيدة ـ وفقاً للتقاليد التي أرسيت غداة الحرب العالمية الثانية ـ طيبة القلب ومعقولة في الأساس؟ لماذا هي بكل هذا النشاط وزعزعة الاستقرار؟ هل لأنها بالغة القوة؟ أو على العكس لأنها تشعر أن العالم يوشك أن يفلت من يديها؟

قبل الإجابة على هذه التساؤلات، علينا أن نضع نموذج تفسيري دقيق لسلوك الولايات المتحدة الدولي والتي مشكلتها الوحيدة هي إفراط القوة. وقراءة التحليلات التي تنتجها المؤسسة الأمريكية وكتابها مثل صمويل هانتنغتون وبرجينسكي وهنري كيسنجر وروبرت جيلبين نفس الصورة لأمريكا أبعد من أن تكون بلداً لا يقهر، بل عليها الانخفاض المحتوم لقوتها النسبية في عالم يتزايد سكانياً وتنمية. لكننا نجد بول كنيدي في كتابه "صعود القوى الكبرى وسقوطها"، وهو كتاب قديم إذ يرجع إلى عام 1988، تصويراً مفيداً للغاية لنظام أمريكي يتهدده امتداد إمبراطوري زائد، ينبع امتداده الدبلوماسي والعسكري تقليدياً من هبوط نسبي للقوة الاقتصادية. وكان برجينسكي الذي ظهر كتابه "رقعة الشطرنج الكبيرة"، هو الأبعد بصيرة في إدراك القلق من تفكك الإمبراطورية الأمريكية على الرغم من اتهامه بأنه إمبريالي ساذج ومتعجرف ومتوحش. صحيح أن توصياته الاستراتيجية يمكن أن تثير الابتسام وخاصة عندما يحدد أوكرانيا وأوزبكستان كهدفين ضروريين لاهتمامات أمريكا، لكن تصويره للسكان والاقتصاد العالميين المتركزين في دول أوراسيا ـ حلف شنغهاي وبريكس ـ  حيث تنافس الدول الأعضاء فيها الولايات المتحدة على لعب دور ومكانة متقدمة في إدارة الاقتصاد العالمي, حدس صارخ للتهديد الحقيقي الذي يحوم حول النظام الأمريكي. وبالتالي إن انتقال الولايات المتحدة من الاستقلال إلى الاعتماد الاقتصادي هو العامل المؤثر ـ الذي يتيح مقترناً بعامل آخر هو تضاعف الديمقراطيات ـ تفسير غرابة الوضع العالمي حالياً، والسلوك الغريب للولايات المتحدة في بلبلة الدول.

ففي اللحظة التي تبدأ فيها الديمقراطية تضرب جذورها في دول أوراسيا يتحول النظام الأمريكي إلى نظام سيطرة لا متساو في الأساس، وهي ظاهرة تَصورها جيداً ميكائيل ليند في "الأمة الأمريكية التالية". ونجد بشكل خاص في هذا الكتاب أول وصف منهجي للطبقة الحاكمة الأمريكية الجديدة فيما بعد ديمقراطية الطبقة العليا. وهذا الانتقال هو الذي يفسّر صعوبة العلاقات بين أمريكا والعالم, فالتقدم العالمي للديمقراطية يكشف ضعف الديمقراطية الأمريكية في مهدها، وأثر هذا التحول ليس مدركاً جيداً لدى المشاركين في اللعبة الدولية؛

فأمريكا التي تلوك بقوة دائماً ـ بحكم العادة لا بحكم التهكم ـ لغة الحرية والمساواة، تدرك تماماً أن دمقرطة الكوكب أبعد من أن تتحقق. وبالتالي ينبغي توقع وافتراض سلوكيات عدوانية من جانب الفئة الحاكمة وغير المنضبطة فيها، وأن كنا نسلّم بالمبدأ القائل بأن الديمقراطية الليبرالية تقود دائماً إلى السلام، فإننا نسلم أيضاً أن ذبولها يمكن أن يؤدي إلى الحرب.

من المؤكد أن هذه الحال ستجعل من أمريكا عقبة جديدة وغير متوقعة أمام سلام العالم, وعند فهم هذه الوقائع يكون ما من سبب للجزع والتنديد بسلوك الإمبراطورية الأمريكية التي هي في الواقع في مجرى التفكك وأن مثل هذا الوضع لعلاقات القوى العالمية سيقود بالطبع إلى خلق عدة قضايا ذات طابع استراتيجي, لكن لن يكون الهدف فيها هو زيادة كسب هذه الدولة أو تلك, وإنما إدارة أفول أمريكا لصالح الجميع.. وما الربيع العربي إلا شكل من أشكال إدارة هذا الأفول مهما تعددت الأسباب وتغيرت الأدوات والشعارات.  

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.