تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الإسلام ومشكلة السيادة في الدولة

كلما ارتقت رؤيتنا الإنسانية، ارتقت معها قدرتنا على التسامح وتقبل الآخر. وكلما سما فكرنا السياسي أصبحنا أكثر قدرة على ممارسة الديمقراطية بمفهومها الأشمل والأحدث. وكلما اتسمت دراستنا بالموضوعية والحيادية، كنا أقدر على استجلاء الحقائق وتوليد الأفكار.

وليس من قبيل المبالغة بأن تاريخ الكتابة العربية هو تاريخ الأزمة, يسير وفق سلسلة من حلقات مترابطة لا تنفك تتجاذب، يتوالى حراكها لحظة الإمساك بأي مفصل من مفاصلها المتمحورة حول الدين والسياسة والعقل. فما أن يبدأ الحديث عن الحاضر الراهن حتى نجد مِدادنا سال تلقائياً وجهة الماضي القديم والموروث المنقول الذي مازال حياً فاعلاً مؤثراً بعنفوانه وشبابه بعد مضي أربعة عشر قرناً، شهدنا خلالها تحولات جذرية هزت أركان الحضارات والثقافات من حولنا، وتجلت بنتاج معرفي يتحرك وفق أنساق ديناميكية تترك الفرصة متاحة دائماً لتجاوز الرؤية التحليلية التاريخية التي مهرت العقل العربي السكوني النقلي المقيد بمناهج ثابتة، وُجِدت في الأساس لتجاوز محدودية النص وانقطاع الوحي.

ولعل التطبيق الأمثل لهذا الجدل الذي يبرز علاقة الإسلام بالسياسة والحكم من خلال محددات وحقائق قدمها علماء القانون الدستوري عبر قرون طويلة، يظهر الأزمة التاريخية والوجودية التي نعيشها اليوم في سورية، والتي أورثت اشتباكاً محتدماً في مسائل لم تعد من قبيل الترف الفكري أو الجدل القانوني، بل واقعاً وحديثاً يومياً للمواطن والمفكر والسياسي في المجتمع السوري. وهي مفهوم الدولة وشكلها ونظام الحكم فيها والمرجعية فيه, مما أوجد الاعتقاد بأن هذا الحراك هو معركة بين نقيضين وتيارين مختلفين هما الدين والعلمانية, في حين أن الحقيقة أنها معركة للحفاظ على الجوهر الإنساني للرسالة السماوية والمقاربة بينها وبين منظومة المثل والقيم السائدة في المجتمع السوري والوافدة إليه. وفي غمرة هذا الحراك الدامي كان مفهوم السيادة والبحث عن الهوية هو العنوان الأبرز، والبحث في، هل الإسلام هو دين أم دولة، وما هو الرابط بينهما؟ وما هو مفهوم الانتماء المواطنة في هذه الدولة؟ فكثيراً ما استوقفني منظرُ الشيشاني والأفغاني القادم إلى سورية لإعلاء كلمة الحق في بلاد الشام وإقامة دولة الإسلام فيها!  وكان ذلك دافعاً بالنسبة لي للوقوف عند الأساس الفقهي والقانوني في مقولة هذا الفريق، ومن ورائهم من مفكرين نادوا بفكرة الدولة الإسلامية منذ عقود، فضجّت المراجع والكتب بأبحاثهم ونظرياتهم. ولكن هل هم من اخترع البارود كما يقول المثل في ضوء النظريات الدستورية الراسخة في علم القانون؟ 

في الحقيقة أن دراسة علمية دقيقة ومختصرة لفكرة السيادة في الإسلام نجدها تتوزع بين رأيين متعارضين يتنازعان الإجابة عن هذا السؤال:

فالرأي الأول: يقول بأن السيادة لله وزعيم هذا الرأي هو الفقيه الباكستاني أبو الأعلى المودودي وتتلخص نظريته التي شرحها في كتابه نظرية الإسلام السياسية فيما يلي:

1ـ أن السيادة أو (الحاكمية) هي لله وحده وبيده التشريع وليس لأحد، وإن كان نبياً أن يأمر وينهي دون أن يكون له من الله سلطان. والنبي أيضاً لا يتبع إلا ما يوحى إليه (أن اتبع إلا ما يوحى إلي) وما وجب على الناس طاعة النبي إلا لأنه لا يأتيهم إلا بالأحكام الإلهية (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله). فسلطة التشريع, وبوجه عام سلطة إصدار أي أمر من الأوامر، إنما يختص بها الله وحده (إن الحكم إلا لله أمرَ ألا تعبدوا إلا إياه)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)، فهذه الآيات جميعاً تدل بصورة بيّنة ـ فيما يرى ذلك العالم الباكستاني ـ على أن السيادة لله وحده.

2ـ الحكومة الإسلامية ثيوقراطية (أو حكومة إلهية)؛ فالحكومة في الإسلام – كما يقول – "لا تعدّ ديمقراطية بل ثيوقراطية أي حكومة إلهية"، لكن هذه الحكومة الإسلامية الإلهية تختلف بنظره عن الثيوقراطية الأوروبية اختلافاً كلياً. فأوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة (البابوات والقساوسة) بالتشريع، وهو تشريع يضعونه بأنفسهم ثم يقولون إنه من عند الله. أما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة, وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها وفق ما ورد في كتاب الله وسنّة رسوله وإن كان قد سبق المودودي إلى هذه النظرية أحد العلماء الهنود واسمه (أبدور رحيم)؛ حيث ذكر أن (السيادة صاحبها ابتداءً هو الله, ولكن بما أنه فوّض إلى الأمة سلطة التشريع ورقابة شؤون الحكم والإدارة, فإننا يجب أن نقرر أن الشعب أصبح بعده هو الذي يملك السيادة).

ويمكن لنا أن نورد على هذا الرأي ملحوظتين، الأولى: إن هذه النظرية تعدّ وسطاً بين نظرية سيادة الأمة (التي بمقتضاها يعدّ الحكام أنهم يستمدون سلطتهم  من الأمة)، ونظرية التفويض الإلهي (التي بمقتضاها يعدّ الحكام أنهم يستمدون سلطتهم من الله). وهي نظريات معروفة في فقه القانون الدستوري وليست جديدة. فلقد سبق أن قال بها في أوروبا في القرن السادس عشر، بعض كبار رجال الدين المسيحي، (أمثال سواريز وجوريو)، إذ قالوا بأن السلطة تأتي من الله بطريق غير مباشر، ولكنها تأتي من الشعب بطريق مباشر، إذ أن السلطة ـ ولو أن أصلها من الله ـ ولكنه لم يجعل منها منحة لفرد معين، وإنما منحها لجمهور الشعب. فالحاكم يستمد سلطته من الشعب بطريق مباشر، ويستمدها من الله بطريق غير مباشر. وهذه النظرية لا تتعارض مع ما يرى (العميد دوجي) حيث تنشأ الديمقراطية في نظره بناءً على إرادة الله؛ أي ديمقراطية مقدسة.

 أما الملحوظة الثانية، فقد ذكر أبو الأعلى المودودي أنه ما وجب على الناس طاعة النبي إلا لأنه لا يأتيهم إلا بالأحكام الإلهية. إن في هذا القول جانباً من الصواب وجانباً من الخطأ؛ فإذا كان الرسول قد أتى إلى الناس بأحكام إلهية يجب طاعتها فقد أتى إليهم كذلك بتعاليم ليست جميعها مما يجب طاعتها كتلك التي صدرت بمقتضى الخبرة الإنسانية والتجارب في الشؤون الدنيوية في شؤون الزراعة أو الطب أو الحرب مثلاً.

الرأي الثاني: القائل بأن السيادة للأمة، وقد قال به الكثير من العلماء والباحثين في هذا العصر وتتلخص وجهة نظرهم فيما يلي:

إنَّ الأمة ـ في الإسلام ـ هي "صاحبة أو مصدر السيادة"، وإن المسلمين هم أول أمة قالت بأن الأمة مصدر السلطات، قبل أن يقول ذلك غيرهم من الأمم. ودليلهم ـ أن دعائم الحكومة في الإسلام هي الشورى, ومسؤولية أولي الأمر, واستمداد الرئاسة العليا (الخلافة) من البيعة العامة. ويستدل البعض على سلطان الأمة أو سيادتها بالحديث المعروف "لا تجتمع أمتي على ضلالة". كما يستدلون بأن الله أمر بطاعة أولي الأمر، حيث قال "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". والمقصود " بأولي الأمر"، كما يرى بعض العلماء، هم جماعة أهل الحل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة. أما أهل الحل والعقد فهم الأمراء (أي الولاة) والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة. هؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم، وجب أن يطاعوا بشرط أن يكونوا من المسلمين (منكم) على حد تعبير الآية الكريمة، وألا يخالفوا أمر الله ولا سنّة رسوله التي عُرفت بالتواتر.

الرأيان في كفتي الميزان: 

في الحقيقة إن مسالة البحث فيمن هو صاحب السيادة أو مصدر السلطات لم تبحث من قبل علماء المسلمين القدامى وكذلك كبار علماء العصر الحديث كالإمام محمد عبده. فلم يعرض أحد منهم للبحث في من هو صاحب السيادة، أو إذا كان الإسلام يأخذ بنظرية سيادة الأمة. والواقع أن مسألة البحث فيمن هو صاحب السيادة، هي موضوع نظرية من النظريات، لها مغزى معين وخصائص معينة تنسب إليها, ونتائج مترتبة عليها. وهي نظرية فرنسية الأصل قديمة ولكنها لم تكن قد عرفت بعد في عصر كبار الأئمة، ولا فيما تلاه من عصور علماء المسلمين المجتهدين القدامى. وعلى كل حال فإنه لم تعد بنا حاجة إليها في العصر الحديث ـ هذا فضلاً عن إننا نلاحظ أنه حتى نظرية سيادة الأمة لم تعد اليوم في نظر البعض ضارة، بل خطرة على الحريات وإنْ كانت حين استنباطها قديماً ـ قد أدت بعض الخدمات.  وعليه فإن إثارة بعض علماء المسلمين المعاصرين لهذه النظرية قد أدى إلى وقوعهم في بعض الأخطاء، واليكم تفصيل ذلك:

إن أغلب من عَرضوا لهذه النظرية من علماء المسلمين المعاصرين قد غاب عنهم أن مسالة البحث عن صاحب السيادة هي نظرية فرنسية قديمة صنعها رجال الفقه الفرنسي. فإذا أريد فهم المغزى أو مضمون مبدأ سيادة الأمة، وجب الرجوع إلى الأصل التاريخي لتلك النظرية، حيث ظهرت في العصر الملكي القديم في فترة الكفاح الذي كان يقوم به الملوك في العصور الوسطى, وذلك من أجل الإقرار باستقلالهم الخارجي عن الإمبراطور والباباوات الذين كانوا يعملون على بسط نفوذهم وسيطرتهم على الملوك. ومنذ القرن الرابع عشر أخذ الفقهاء الفرنسيون ينادون بأن الملك يستمد سلطته من الله (أي أنهم ينادون بنظرية الحق الإلهي أو التفويض الإلهي). ولكن اصطلاح السيادة لم يكتمل مدلوله ومغزاه في صالح سلطان الملوك إلا في القرن  السادس عشر. وأصبح يقصد به السلطة العليا التي لا تجد منافساً أو مساوياً لها داخل الدولة، ولذلك فإن تلك السيادة ـ كما يقول الفقهاء القدماء ـ لا يمكن أن تعترف بها فرنسا إلا لملك فرنسا, لأن سلطته وحده فيها هي العليا.

ولما كانت نظرية السيادة قد اصطنعها الفقهاء من أجل تخليص ملوك فرنسا من نير الإمبراطور والحكام الإقطاعيين من بعده، لذلك قيل إن مصطلح السيادة لم يكن يقصد به في بداية الأمر إلا مغزى سلبي؛ أي  أن سلطة الملك العليا لا تخضع لسلطان سلطة آخرى أعلى. كذلك فإن مبدأ سيادة الأمة الذي أقرّته الجمعية التأسيسية (في عصر الثورة الفرنسية)، إنما كان في جوهره ذا مغزى سلبي وذلك من ناحية استقلال أعضاء البرلمان عن إرادة ناخبيهم، أو إرادة الشعب.  ولكن الأمر تطور حتى أصبح يقصد به سلطة شخصية أو جماعة، في القيام بتصرفات معينة بما لها من سيادة. وإذا كان نظام الحكم ـ قبل الثورة الفرنسية ـ قائم على أساس المزج بين شخصية الملك والدولة، والذي عبّرت عنه مقولة لويس الرابع عشر: "أنا الدولة". أما النظام الذي تمخضت عنه الثورة، فقائم على أساس آخر، هو المزج بين شخصية الأمة وشخصية الدولة، إلا أن الرأي الحديث هو اعتبار السيادة ملك الأمة، أو أن الأمة هي مصدر السلطات حيث تكون إرادة الأمة هي السلطة العليا والتي تظهر في صورة قانون أو في صورة نظام الحكم.  فهل نحن اليوم بحاجة حقاً إلى هذا المبدأ الذي يطلق عليه مبدأ سيادة الأمة؟

إن الذي يدفعنا إلى هذا التساؤل الذي يبدو  للوهلة الأولى في غير محله هو زوال الظروف التاريخية التي أدت إلى استنباط تلك النظرية في عصرنا قد أصبحت في ذمة التاريخ، أي لم تعد قائمة؛ فالملوك حين كانوا يدّعون قبل الثورة الفرنسية بأنهم أصحاب السيادة كانوا يقيمونها على أساس نظرية الحق الإلهي ومبدأ سيادة الأمة الذي نادى به مفكرو الثورة الفرنسية وفلاسفتها كسلاح في وجه استبداد الملوك، وضد نظرية الحق الإلهي، إنما كانوا يقصدون أن السيادة ليست للملك، إنما هي للأمة. ونحن  في العصر الحديث لم يعد ثمة حاجة لهذه المقولة (مبدأ سيادة الأمة).

فقد أقلع الحكام (في العالم المتمدن) عن مزاولة السلطان المطلق المستند إلى نظرية الحق الإلهي. وإذا كان مبدأ سيادة الأمة هو المعول لهدم نظرية معينة يستند إليها نظام حكم مطلق، وإذا كانت تلك النظرية قد تم هدمها ولم يبق أثر لها، فما فائدة المعول إذن؟ لماذا نبقي عليه ونلجأ إليه؟ لا سيما إذا عرفنا المضار، بل الأخطار التي تترتب على الإبقاء عليه.  فهو لا يمثل نظاماً سياسياً معيناً ولا يحتم نظاماً انتخابياً معيناً، وهو يتلاءم مع كل الأنظمة السياسية أو الانتخابية؛ فهو يتلاءم مع النظامين الملكي والجمهوري، ومع كل من النظامين الديمقراطيين النيابي والمباشر، وكذلك مع الأنظمة الديمقراطية والديكتاتورية. حتى أن العصر الذي ولد فيه المبدأ وهو عصر الثورة الفرنسية، وفي أول دستور يوضع بعد سقوط الملكية عام 1791، وهو الذي تغنى بمبدأ سيادة الأمة، قد قرر نظام انتخابي مقيد (بشرط النصاب المالي)، ولم يقرر نظام الانتخاب العام، بل قالوا إن مبدأ سيادة الأمة إنما يتطلب منهم ألا يمنحوا حق الانتخاب إلا لمن كانوا أقدر الأفراد على التعبير عن إرادة الأمة، حتى أن نسبة عدد الناخبين لجميع أفراد الشعب كانت لا تتجاوز 16%.

وعلاوة على أن هذا المبدأ لم يقف حائلاً دون الاستبداد، وخير مثال على ذلك الدستور الفرنسي الموطن الأول لهذه النظرية عام 1792. فلم يعرف التاريخ أشد من الإجراءات الاستبدادية التي قامت بها الجمعية النيابية الفرنسية، حيث ارتكبت باسم الأمة وتحت الرعاية السامية لمبدأ سيادة الأمة أفظع الجرائم والاستبداد، حتى أن أحد المؤرخين لتلك الفترة قال (لو لم تعلن نظرية سيادة الأمة في عصر الثورة الفرنسية لكان من المستطاع تجنب كثير من المساوئ بل ومن الجرائم التي ارتكبت في ذلك الحين). ويُطلق الفقه الدستوري على الحقبة النابليونية الديمقراطية القيصرية، وهي حقبة ولدت من رحم مبدأ سيادة الأمة، فلم تمنع الاستبداد وكانت خطراً على الحرية والحياة، وهي تمنح السلطة العليا حق الأمر فتغدو تلك الإرادة من معدن أعلى وأغلى من معدن إرادة الأفراد (المحكومين)، بحيث يكون لإرادة  السلطة العليا واجب الطاعة مما يخشى معه من إهدار الحريات. لذلك يجب الحيطة من استبدادها واتخاذ أقوى الضمانات لدرء ذلك الاستبداد.

وفي ضوء ما تقدم ذكره عن علماء الفقه الدستوري الفرنسي حول نظرية السيادة بوجه عام  ونظرية مبدأ سيادة الأمة بوجه خاص، وهي التي ولدت ونشأت وترعرعت في بيئتهم وتم دفنها في مقابرهم، يغدو قول بعض الفقه الإسلامي فيها نابعاً من عدم إحاطة بأصل النظرية وآثارها، مما أورثهم سلسلة متصلة من الأخطاء، فكان شأنهم على حد التعبير الفرنسي الطريف لأحد الكتاب في تعريف الفيلسوف ـ شأن من يبحث في غرفة ظلماء عن قبعة سوداء غير موجودة بتلك الغرفة!!  

وإليكم بيان تلك الآراء الإسلامية ونقدها وهم في ذلك على مذهبين:    

الأول: يمثله الأستاذ المفتي الشيخ البخيت ويقول (إن المسلمين هم أول أمة قالت بأن الأمة مصدر السلطات وهو يستند إلى ما هو معروف ومتفق عليه بين علماء المسلمين من تنصيب الخليفة إنما يكون بمبايعة أهل الحل والعقد، والخليفة هو وكيل الأمة وأنهم هم يولونه ملك السلطة وأنهم يملكون خلعه وهم أول من طبق مبدأ سيادة الأمة).

والرأي الثاني: يقول به علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام وأصول الحكم بأن مصدر سلطان الخليفة هو الله،  ودليله على هذا المذهب قول الخليفة أبو جعفر المنصور (إنما هو سلطان الله في أرضه)، وهذا الرأي هو تطبيق لنظرية التفويض الإلهي.   

ومما تقدم فإن هذه الأقوال جميعاً تخالف الواقع. فليس صحيحاً أن يقال إنه كان بين العلماء القدامى اتفاق أو اختلاف بصدد مسألة لم تكن بتاتاً موضع تفكيرهم، لأنها لم تكن ظهرت للحياة إلا بعد وفاتهم. والقول إن الخليفة إنما يتقلد مركزه بناء على مبايعة أهل الحل والعقد، فهذا الأمر لم يحدث إلا مرة واحدة في تاريخ الإسلام، هي في بيعة أبي بكر والخلفاء الراشدين. أما بعدهم فهو نظام ملكي وراثي ليس للبيعة فيه إلا الاسم والرسم.

أما الأقوال التي ذكرها الأستاذ علي عبد الرزاق حول  مصدر سلطان الحاكم والخلاف حولها ونظرية التفويض الإلهي، فإن الأسانيد التي جاء بها مغلوطة، ونشير إلى أهمها:

    إن الأستاذ علي يبني رأيه على الاستنتاج الظني الذي ينزل إلى مستوى ما، يطلق عليه الحدس "أي التخمين"، أو الافتراض. ونحن إذا بحثنا مما كان هذا الاستنتاج، فإننا نجد دونه كل عجب!! حيث نجد أن الأستاذ علي يستنتج رأيه من عبارة وردت في إحدى خطب الخلفاء العباسيين، ومن بعض عبارات متناثرة وردت في المقدمات التي كتبت لبعض المؤلفات وكانت تنطوي على عبارات التوقير للسلطان أو الزلفى والتقرب إليه. ثم مما كان ذلك الاستنتاج، هنا نجد أشد إغراقاً في الغرابة وإمعاناً في العجب؛ نجده يستمد رأيه هذا من بعض الأبيات الشعرية نظمها بعض الشعراء في العصر الأموي أو العباسي لنيل بعض الحظوة. ولا أعرف لحظة من الدهشة أو الحيرة كتلك التي أجدني أتساءل فيها كيف نفسّر لآلاف الشهداء وأبناء الوطن الذين قتلوا على يد الإرهابيين بغية إنشاء الدولة الإسلامية، أن السند الذي يسند إليه دعاة الدولة الحاكمية الإلهية هو أبيات من الشعر. فهل يصح شرعاً إذا أردنا أن نبيّن حكمة التيمم الاستعانة ببيت الشعر الذي يقول:

ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها

                                         لما كنت أدري حكمة للتيمم

والبيت ـ كما هو بيّن ـ قاله شاعر ماجن في الغزل!

        أما المرجع الذي يستند إليه في أقوال الخليفة المنصور وإنها تنسب إليه، هو كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه. وهو كتاب قيّم ومعروف من أمهات كتب الأدب العربي، ولكن هل يصح أن تعد كتب الأدب في عداد المراجع في المسائل الفقهية. وحتى إذا سلمنا بصحة ما ورد في هذا الكتاب من أقوال الخليفة المنصور، وأن هذا القول هو الدليل على نظرية التفويض الإلهي، فإن هذا القول إنما هو لتبرير سلطانه وتعظيمه في نفوس الناس لاسيما وأن في عهده كثر الخارجون على الدولة!! فالطبيعي أن يعمد إلى إضفاء صبغة القداسة على سلطانه.

وما يدعيه الأستاذ علي عبد الرازق من أنه كان فريق من العلماء القدامى يقولون بأن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة وإنه قد وجد هذا الرأي صريحاً عند العلامة الكاساني. والواقع  أن أقوال العلامة الكاساني إنما وردت في كتاب "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" تحت عنوان: كتاب آداب القاضي. وفيه يتحدث عمن يصلح للقضاء وبيان آداب القضاء، وذلك لم يشر إليه الأستاذ عبد الرزاق. فإذا كان العلامة الكاساني يريد الكلام عن نظرية له في السيادة، فهل كان من المقبول أو المعقول أن يتكلم عن ذلك تحت عنوان آداب القضاء؟                           

        وعليه من الصعب تحديد موقف في الفقه الإسلامي، واضح وصريح ومحدد لنظرية السيادة، متفق عليها وتحظى برضى التيارات الفقهية السائدة في عصرنا، وذلك لأسباب تتعلق بالمرجعية وآليات إثبات وفهم الموروث النصي من حيث المبدأ، ولأسباب مرتبطة بالموقف من أصحاب الممارسة العملية للأسس والمبادئ المكتوبة.  فالقرآن لم يتحدث في أساسيات الحكم وتنظيمه، ولم ترد فيه إشارات لقضية الخلافة أو طريقة انتقال الأمر بعد النبي. واكتفى بالأمر بالحكم بما أنزل الله، والطاعة لرسوله ولولي الأمر، وذكر الشورى وحض على العدل.

ولذلك يجب أن يدرك الدعاة الجدد للإسلام السياسي أن تراث الفقه السياسي خلا تماماً من مفاهيم المشاركة في القرار والحكم، ولم يلتفت إطلاقاً إلى مسألة تداول السلطة، وابتعد كل البعد عن الحرية والمساواة كقيم إنسانية مقاييسها مهملة للانتماء الديني والعرقي، ولم يتبنى المواطنة كمفهوم ومبدأ. ولا تكفي الإشارة القرآنية والدلالات العملية في السيرة النبوية للشورى كأساس ومنطلق للمشاركة السياسية، خاصة وأن الفقه السياسي أجمع على عدم إلزامية الشورى.

 

                           

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.