تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

"البوركينـي".. واحتـرام حريـة الاعتقـاد فـي فرنسـا..؟!

مصدر الصورة
محطة أخبار سورية

أثارت الصورة التي نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي - قيام عناصر الشرطة الفرنسية بإجبار إمراة محجبة ترتدي البوركيني على الشاطئ بخلع هذا اللباس وفي الوقت نفسه تجاهلت وجود عدة راهبات يجلسن على الشاطئ دون الطلب منهن خلع لباسهن ومعاملتهن كما تم التعامل مع المرأة المحجبة – أثارت أزمة في الشارع الفرنسي وخلقت استياءً عاماً وجدلاً واسعاً  بين المواطنين، حتى أنها دفعت بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لاستقبال رئيس الجالية المسلمة في فرنسا لاحتواء الجدل حول الحادثة، على اعتبار أن تصرف عناصر الشرطة يشكل تمييزاً على أساس ديني وانتهاكاً لحرية المعتقد، ويخالف الدستور الفرنسي وقيم جمهورية إعلان حقوق الإنسان والمواطن ومهد الثورة التي احتلت الصدارة في العصر الحديث من حيث تأثير مبادئ تلك الثورة ومفاهيمها وأفكارها في التطور السياسي والاجتماعي للمجتمعات الأوروبية وغير الأوروبية؛ حيث جاء في المادة التاسعة من إعلانها المشهور أنه: لا يلاحق أحد بسبب عقائده حتى الدينية منها، على ألا تؤدي ممارستها إلى الإخلال بالنظام العام المقرر قانوناً. وهذا الاعلان ما زال معمولاً به حتى الآن في ظل دستور الجمهورية الخامسة، ونصت مقدمة الدستور الفرنسي الحالي الصادر سنة 1958 على تعلق الشعب الفرنسي وتمسكه بالحريات والحقوق المبينة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789 والمكملة بإعلان 1946.

من هنا يمكننا طرح السؤال التالي: هل الفعل المنسوب للشرطة الفرنسية والمرجح أنه قائم على أساس تمييزي يمكن أن يشكل جريمة الاضطهاد المنصوص عليها في المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نظراً لما تنطوي عليه من تمييز شديد في المعاملة، خاصة وأن هذه الجريمة تسمى عند بعض الفقهاء بأنها من جرائم الكرهHate Crimes؟  

للإجابة عن هذا التساؤل لابد من تحديد  المفهوم الدقيق لهذه الجريمة الذي ما يزال غامضاً على الرغم من ذكرها في جميع قوائم الجرائم ضد الإنسانية، نتيجة لعدم الاهتمام بحسن صياغة تعريفها. كما ساهم عدم وجود جريمة تحت هذا الاسم في أنظمة العدالة الجنائية الكبرى في التأخير في تحديد أهم معالم هذه الجريمة.

يشير مصطلح الاضطهاد بشكل عام إلى الممارسات التمييزية، سواء تلك التي يرتكبها الأفراد في حق بعضهم، أو تلك التي ترتكبها الدول بحق الأجانب. وسنحاول فيما يلي إيضاح الجوانب المختلفة لجريمة الاضطهاد التي تقوم على الأركان؛ الشرعي والمادي والمعنوي إضافة للركن المتعلق بالجماعة المستهدفة، مستعينين بالسوابق القضائية للمحاكم الجنائية الدولية؛

يمكن أن نجد النص على الركن الشرعي لجريمة الاضطهاد باعتباره شكلاً من أشكال التمييز، في كثير من النصوص العالمية التي تتضمن حماية حقوق الإنسان وحرياته، خاصة وأن انتهاك الحقوق قد يمس الأقلية أو الأغلبية. ومن هذه النصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لعام 1979، واتفاقية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 1951، وكذلك اتفاقية حظر الإبادة الجماعية لعام 1948 التي حرَمت التمييز بكافة أشكاله وجرمته عندما يؤدي إلى نتائج معينة ووفق شروط قانونية معينة.

وعلى صعيد القضاء الجنائي الدولي، عاقبت جميع مواثيق المحاكم الجنائية الدولية على جريمة الاضطهاد المرتكبة لأسباب عرقية أو دينية أو سياسية، ابتداءاً من ميثاق نورمبورغ الذي أشار نص المادة (6/ج) منه إلى الاضطهاد، وكذلك نظامي المحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغسلافيا ورواندا، وأخيراً ما جاء في المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة السابعة في فقرتها (1/ح)، حيث عرفت الاضطهاد بأنه:

"اضطهاد جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو أثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعرّف في الفقرة 3 أو لأسباب  أخرى من المسلّم عالمياً بأن القانون الدولي لا يجيزها وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة، أو بأية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة".      

        أما تحديد الركن المادي لهذه الجريمة أو الأفعال التي يمكن أن تدخل في تكوين الركن المادي لجريمة الاضطهاد، فهو من أكثر المسائل تعقيداً، إضافة لما يرتبط به من صعوبة تحديد ماهية الحقوق الجوهرية التي يتم الحرمان منها، وتحديد متى يكون الحرمان من هذه الحقوق شديداً. وعلى هذا، يمكن القول وبالاستناد إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بوجود نوعين من الأفعال ينطبق عليها مفهوم الاضطهاد؛ الأول، هو الأفعال اللاإنسانية بحد ذاتها التي تشكّل انتهاكاً لأحكام القانون الجنائي الدولي؛ والثاني، هي الأفعال التي لا تشكل بحد ذاتها أفعالاً لاإنسانية والتي أكدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة على التفرقة بينهما، بالقول: إن الأفعال المذكورة في الجرائم ضد الإنسانية والمسماة عادة الجرائم من نموذج القتل لتمييزها عن جرائم الاضطهاد، يمكن أن تحاكم على أنها جريمة حرب إذا تم استيفاء الدافع التمييزي المطلوب، بينما تحاكم على أنها واحدة من الجرائم ضد الإنسانية الأخرى في حال عدم استيفاء الدافع.

وهذا في الحقيقة ما أراده المفاوضون في مؤتمر روما من ربط اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالانتهاكات الخطيرة للقانون الجنائي الدولي، وليس بانتهاكات حقوق الإنسان عن طريق اشتراط أن تنطوي الأفعال المكونة للاضطهاد على حرمان شديد من الحريات الأساسية؛ حيث رفضت المحكمة اعتبار كل إنكار لحق من حقوق الإنسان اضطهاداً؛ وعرفت الاضطهاد في قضية KUPESKIC، بأنه: إنكار جسيم وصارخ على أسس تمييزية لحق أساسي ثابت في القانون الدولي العرفي أو الاتفاقي، يصل من حيث خطورته وجسامته إلى درجة وخطورة وجسامة الأفعال الأخرى المحظورة الواردة في تعريف المادة الخامسة.

أخيراً، تتطلب جريمة الاضطهاد، إضافة إلى القصد الجنائي العام المتمثل بالعلم والإرادة، وجود دافع لارتكاب الجريمة؛ فلا يكفي في جريمة الاضطهاد استهداف مرتكب الجريمة الضحية لمجرد كونه فرداً عادياً من مجموع السكان المدنيين، بل يجب أن يكون استهدافه لانتمائه إلى جماعة معينة من إحدى الجماعات المحددة في المادة السابعة (1/ ح).

وكلامنا ينسجم مع موقف القضاء الفرنسي الذي حسم قبل يومين الموقف القانوني من أزمة البوركيني، إذ قرر تعليق قرار حظر لباس البحر الإسلامي؛ فالقرار الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي، أعلى سلطة قضائية في البلاد، أكد أن قرار منع البوركيني، الذي اتخذه رئيس بلدية فيلنوف - لوبي (جنوب - شرق)، يشكّل "انتهاكاً خطيراً للحريات"، في غياب "مخاطر مثبتة" على النظام العام، مشيراً إلى أن "القرار المثير للجدل شكّل انتهاكاً خطيراً وغير قانوني للحريات الأساسية المتمثلة في حرية التنقل وحرية الضمير والحرية الشخصية". وذكّر مجلس الدولة رؤساء البلديات الذين استندوا إلى مبدأ العلمانية لاتخاذ قراراتهم، بأن قرار منع ارتياد الشواطئ لا يمكن أن يصدر بناءً على أي "اعتبارات أخرى" غير مبدأ الحفاظ على النظام العام، مع ما يعنيه ذلك من "سلامة الوصول إلى الشاطئ وأمن السباحة، بالإضافة إلى الصحة العامة والحشمة".

وبناء على ما تقدم، نخلص إلى نتيجة مفادها أن تصرف عناصر الشرطة الفرنسية في هذه الواقعة، وإن كان لا يصل إلى حد ارتكاب جريمة الاضطهاد باعتبارها من الجرائم ضد الإنسانية التي توجب إحالة الفاعلين والمسؤولين عنها إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن ذلك لا يخفي الانتهاك الشديد لحقوق الانسان في هذه الواقعة، وبالتالي تسقط هذه الأفعال ورقة التوت وأقنعة الرياء عن الغرب، وخاصة فرنسا التي طالما تشدقت بحقوق الإنسان، وتكشف الوجه الاستعماري القبيح لهذه المجتمعات التي مازالت مسكونة بالعنصرية والفوقية والنفاق الحضاري. وخير دليل على نفاقها موقفها من معاناة الشعب السوري من الإرهاب، واحتضانها للإرهابيين ودعمهم تحت ذريعة دعم المطالب بالحرية والعيش الكريم، في الوقت الذي لا تستطيع فيه احتمال إمراة على شاطئ البحر برداء يحقق لها شيئاً من احترام معتقدها ويمنحها حقّها في الاستمتاع بالبحر؛ أنها حقاً ديمقراطية العم سام وليست ديمقراطية مونتيسكيو وجان جاك روسو..؟!

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.