تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

أمريكا هناك خلف المحيط البعيد.. والعالم يتغيّر..!!

مصدر الصورة
محطة أخبار سورية

 

تتطور العلاقات الدولية بشكل غريب، وتسير نحو تبدلات واسعة ستقلب موازين القوة وتموضعها في العالم، وستحدث فرقاً هائلاً في المستقبل. التحديات العالمية والمشاكل التي تقف في طريق الدول لممارسة وظائفها، تفرض عليها إعادة النظر(rethinking) من جديد بالسلوكيات التي كانت تتبعها والتي عليها اتباعها في المستقبل؛ لم يعد للخصومات التاريخية بين الدول الكثير من الاعتبار، ولا للشراكات التاريخية الماضية القيمة الكبيرة؛ تحديات اليوم التي تبدأ بالفقر والأمراض والمناخ والبيئة، وتمرّ بالإرهاب العالمي وصولاً إلى خطر السلاح النووي... الخ، تجعل من الصعب على كل دولة مواجهة مثل هذه التحديات (challenges) بمفردها؛

التهديدات العصرية، متشعبة وكبيرة وخطيرة، والدول ـ الكبيرة منها قبل الصغيرة ـ  مهما امتلكت من قدرات وإمكانات، لا يمكن لهذه القدرات أن تواجه مثل هذه التهديدات بشكل منعزل؛ ولنأخذ مثالاً حوادث الإرهاب التي ضربت القارة الأوروبية في العام الماضي، وما تزال الجماعات الإرهابية تهدد بتكرارها.

أمر آخر مهم، يجعل من العالم وكأنه كتلة واحدة تقريباً، هو العلاقات الاقتصادية واعتماد اقتصادات البلدان على بعضها وترابطها بشكل يجعل أي خلل في أحدها، ينعكس تلقائياً على الاقتصادات الأخرى؛ مثلاً، العقوبات الأمريكية ونتائج انهيار الليرة التركية على الاقتصاد الأوروبي وغيره. ومع ذلك ما زال العالم يتشظّى (fragments) بشكل كبير..!!

لكن المشكلة الحقيقية أنّ الكثيرين من قادة العالم ما زالوا يواجهون التحديات الكونية (Global) الجديدة بعقلية الماضي وتجربة الحرب الباردة وغيرها من التجارب والصداقات والعداوات، ويحكمون على الأشياء برواسب الماضي وخلاصاته التي لا تصلح للحاضر ولا للمستقبل المعقّد "المنفلش" من القيم التقليدية. ولذلك، فإننا سنشهد من الآن وفي العقود المقبلة، صعود دول جديدة تتسيّد على المسرح الدولي وتراجع دول أخرى وانكماشها.

وفي هذا السياق، تبرز تجربتان جديدتان متناقضتان في بلدين مهمين وكبيرين، لهما وزنهما ودورهما القيادي على الساحة الدولية؛ الولايات المتحدة وروسيا، وتجربة الصين بخصوصيتها المعهودة.

أولاً، الولايات المتحدة؛ لقد تمتعت الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي بفائض من القوة، جعلها القوة الوحيدة على المسرح الدولي بدون منازع؛ لسنوات كانت الولايات المتحدة تمارس الأحادية القطبية ودور الشرطي العالمي كما يحلو لها؛ غرور القوة منع الولايات المتحدة من التفكير الإيجابي والتعاطي مع الدول الأخرى بمنطق الاحترام والتعاون الدولي لمعالجة المشاكل الدولية؛ كانت السمة البارزة لحقبة الأحادية القطبية هي قيام واشنطن بشنّ الحروب وفرض الإرادة الأمريكية على الجميع. وما تزال عقلية الهيمنة الأمريكية (hegemonic) مستمرة بأشكال مختلفة عبر ممارسة الضغوطات والعقوبات وشنّ الحروب على الدول الأخرى؛ ضد كوريا الديمقراطية والصين وروسيا وإيران وتركيا وسورية وفنزويلا وكوبا، وحتى دول أوروبا الشركاء في حلف الأطلسي (الناتو)... الخ. ماذا كانت النتيجة؟! تأليب العالم على الولايات المتحدة والفوز بالمزيد من الأعداء وخلق المزيد من العداوات، وزيادة الصعوبات الاقتصادية والتجارية، ونصب المزيد من الحواجز والخلافات بين الدول، وتوتير العلاقات الدولية وبالتالي جعل العالم أقل أمناً واستقراراً، وتهديد السلم العالمي.

ثانياً، الاتحاد الروسي؛ في فترة الزهو الأمريكية، كانت روسيا تعيد ـ بهدوء ـ بناء نفسها من جديد وعلى كل الأصعدة، في البنية التحتية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية. نهضت روسيا بعد تعب وتخلصت من مشاكل الاتحاد السوفيتي، وانطلقت برؤية جديدة مختلفة كلياً؛ الانفتاح على العالم والتخفيف من الخلافات مع الدول الأخرى قدر المستطاع والبناء على نقاط التوافق القائمة ومحاولة تعزيزها؛ ماذا كانت النتيجة؟! أنّ روسيا أصبحت في السنوات الأخيرة محجاً للعديد من قادة الدول، وبعضُ هؤلاء ممن كانوا يصنفون في خانة الأعداء.

روسيا تبني علاقاتها على قاعدة المصالح المشتركة والتعاون وتبادل المنفعة؛ أيُ دولة أو زعيم في العالم تهمه مصالح شعبه ويحرص عليها، يستطيع أن يرفض يداً ممدودة إليه لتساعده؟! ومن خلال هذه السياسة المعاكسة لنظيرتها الأمريكية استطاعت روسيا أن تقرّب تركيا بعد عداوة، واستطاعت خلق روابط مع النظام السعودي المملوك أمريكياً، ودخلت إلى دول الخليج، قطر والإمارات العربية المتحدة. لكن الأهم، ربما، هو اللعب في الحديقة الخلفية لأوروبا: خطوط التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري المفتوحة مع ألمانيا "الأطلسية" تتحوّل لتكون أقوى من تلك التي تربط بين ألمانيا والشريك الأمريكي. وعلى نفس المنوال تسير فرنسا وآخرون نحو موسكو؛ وفي الأفق يبدو أنّ تحالفاً "غير معلنٍ" يتبلور بين روسيا وتركيا وألمانيا، أساسه المصالح المشتركة ومواجهة العقوبات الأمريكية؛ وهو إنْ تم، سيعتبر تحولاً هائلاً في توزع القوة والتوازن الدولي والعلاقات الدولية؛ روسيا ومعها الصين تنقلان مركز القوة إلى المدار الأوراسي، بعيداً عن "قارة كولومبوس" الأنانية العدوانية البعيدة وغير المتوازنة. ولا تستطيع أوروبا إلا أن تتبع مصالحها وتتجه شرقاً وهو ما يفعله القادة البرغماتيون في أوروبا، قبل السقوط المريع واتساع الصدع بين ضفتي الأطلسي بشكل أكبر وأخطر.

 ثالثاً، الخصوصية الصينية؛ الصين أمة متكاملة بتاريخ وحضارة وتجربة غنية. الصين تتقدم بخطى واثقة نحو صدارة القوى العظمى، لاسيما من الناحية الاقتصادية؛ الصين تتمدد في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا، والمساعدات والمشاريع الصينية تغطي عشرات الدول، ولاسيما في أوروبا، والقواعد الصينية بدأت بالانتشار والتزايد، في جنوب أسيا وشرق إفريقيا غيرها. وكما تفعل روسيا، تتقدم الصين على قاعدة علاقات التعاون والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة (mutual interests).

ولقد أدركت الولايات المتحدة الخطورة الصينية فبدأت الحرب التجارية عليها. هل أتى الرد الأمريكي متأخراً؟! ربما، فالخسائر الأمريكية من العقوبات التي تفرضها واشنطن على بكين توازي الخسائر الصينية، وربما تزيد. ولكن كما في العلاقات بين الأشخاص، فالعلاقات بين الدول تتوثق بالتعاون والاحترام وليس بالتهديدات والحروب والاعتداءات.

ليس كلّ العالم يسير على رأسه كما يخيّل للبعض؛ في عالم اليوم قادة كبار يقرأون التغيرات، وأبعاد الثورة التكنولوجية، وتراجع تأثير الحدود، وتوفر المعلومات الهائلة لمن يريد؛ قادة يسبقون الزمن وينهضون بدولهم نحو المستقبل البعيد المزدهر. القواعد المثلى التي يطبقونها تقول بالاعتماد على الذات وتعزيز القدرات الذاتية إلى أقصى الحدود الممكنة؛ الحفاظ على الأصدقاء الحقيقيين وخلق المزيد منهم؛ التقليل من الأعداء قدر المستطاع؛ تحقيق المصالح المشتركة والتعاون مع الآخرين بما يزيد من تعزيز الروابط والأمن والاستقرار والسلام؛ الأحاديث عن التعاون بين المستشارة الألمانية والرئيس الروسي تغطي على موقع ألمانيا في حلف "الناتو" ومع الولايات المتحدة.. فيما يتراجع دور ومكانة المملكة المتحدة لتصبح تابعاً صغيراً يدور في الفلك الأمريكي المهتز.

ربما لم تنتبه أوروبا إلى أنّ توسع الاتحاد الأوروبي كان خطأ قاتلاً وعبئاً سيقود إلى الانهيار، لاسيما في عهد "أمريكا أولاً" الذي اضطرّ الأوروبيين للبحث عن أمنهم الخاص واستقلالهم القسري عن الولايات المتحدة التي أظهرت أنّ القارة العجوز.. عاجزة أيضاً.. !!

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.