تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ضوابط إفشاء الأسرار الزوجية في القانون والفقه..!!


2/11/2014

لا جرم أن في حياة كل فرد العديد من الأسرار التي يجب أن يُطوى عليها في صدره حيناً من الدهر، ويحرص أن يظل السر خفياً فلا يبوح به أبداً. ومما لا شك فيه أيضاً أن كتمان الأسرار من أهم عوامل زرع الثقة بين الناس، كما أنها تكسب صاحبها احترام الآخرين، وقد قيل: إن كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال فلا تخلو حياة البشر من الأسرار؛ فمنها ما يتعلق بالإنسان ذاته، ومنها ما يتعلق بالآخرين وما أودع لديه. وما نحن بصدده هنا هو تلك الأسرار التي فرض القانون على حامليها عدم إفشائها أو البوح بها، وقد لا تختلف التشريعات من بلد إلى آخر في تجريم تلك الحالات، وربما تتفاوت فيما بينها في العقوبة المقررة لكل حالة حسب طبيعة كل مجتمع وظروفه.

ونبدأ بالأسرار المتعلقة بالدولة والتي يتطلب حفظها صدور الرجال الأكفاء، ويعدّ إفشاءها أو التفريط بها لدولة أجنبية أو معادية من الجرائم الكبرى، إذ تشكل تلك الأسرار أهمية بالغة في مصالح الدولة العليا، ولربما أدى إفشاؤها إلى ضرر جسيم بالدولة. ونذكرُ الأسرار التي تؤول إلى بعض الأشخاص بحكم ممارستهم لتلك الأعمال كالأطباء والمحامين ومن في حكمهم، وهؤلاء فرض عليهم القانون ـ فضلاً عن الالتزام الأخلاقي ـ عدم إفشاء تلك الأسرار إلا بضرورات محددة حصرتها النصوص وجرّمت ما عداها. وهي يعرف بالسر المهني والمنصوص عليها في المادة 565 من قانون العقوبات. وعليه، يبقى الحق في احترام الحياة الخاصة وحفظ أسرار الشخص من أهم الحقوق اللصيقة بالشخصية، فلا يجوز لأحد أن يناله أو ينشر عنه شيئاً إلا بإذنه الصريح أو وفقاً للقانون.

ولقد رفع المشرع الدستوري الحق في الخصوصية إلى مصاف الحقوق الدستورية باعتباره من الحقوق الملازمة لصفة الإنسان في المادة 36 من الدستور الحالي التي تنص على أنه: "للحياة الخاصة حرمة يحميها القانون". وما جاء في المادة 52 من القانون المدني التي تنص على أنه: "لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق الملازمة لشخصيته أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر".

ومن أكثر هذه الأمور التصاقاً بالإنسان وشخصيته "الأسرار الزوجية"؛ تلك الأسرار الشديدة الحساسية لما لها من خصوصية تستوجب عدم إفشائها البتة. وقد بيّن الرسول (ص) أهمية ذلك في حديثه الشريف، فقال: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة رجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها". ويستشف من الحديث الشريف مدى حرص النبي على عدم إفشاء الأسرار الزوجية، وقد عاقب إحدى زوجاته لإفشائها سرّ أودعه إياها بالطلاق ثم مراجعتها بعد ذلك، وفي هذا درس تربوي بالغ الأهمية. والحكمة فيه تتجلى في الحفاظ على ما بين الزوجين من مودة ورحمة، وما كان بينهما من علاقة خاصة فجعل لها واجب الحماية.

 على أن القانون تحلل من تلك الحماية حال أودت الخلافات الزوجية بتلك العلاقة وانفصمت عرى المودة والمحبة ووصلت الخلافات بينهما إلى قاعات المحاكم، فصار إفشائها ضرورة بما يقتضي حسم النزاع القضائي بينهما. وفي هذا السياق نصت المادة 67 من قانون البيّنات السوري على أنه: "لا يجوز لأحد الزوجين أن يفشي بغير رضاء الآخر ما أبلغه أثناء الحياة الزوجية ولو بعد انفصالهما إلا في حالة رفع دعوى من أحدهما على الآخر أو إقامة دعوى على أحدهما بسبب جناية أو جنحة وقعت منه على الآخر".

وهكذا نجد أن المشرع أضفى على الأسرار الزوجية "قدسية" ولم يصرّح بإفشائها حتى بعد انتهاء العلاقة الزوجية إلا في أحوال ألزمتها الضرورة؛ فلا يجوز لأحد الزوجين البوح بها أو نشرها عبر الإنترنيت أو غير ذلك. وقد استقر اجتهاد محكمة النقض السورية على إعفاء المحكّمين في الدعاوى الشرعية من تعليل قرارهما صوناً للأسرة وحرصاً على أسرار الحياة الزوجية وعدم إذاعتها. 

هذه الحماية المقررة بالمادة 67 قاصرة على الزوجين فقط، فلا تشمل غيرهما من الأقارب مهما كانت درجة القرابة، ولا يمتد شمولها إلى فترة الخطوبة، فلا يعتبر من الأسرار الزوجية ما كان قد أسرّه أحد الزوجين للآخر إن تم في فترة الخطوبة. كذلك لا تشمل فترة الطلاق التي تقع بين الزوجين إلا إذا تم ابلاغ السرّ أثناء العدة في فترة الطلاق الرجعي، حيث ما تزال روابط الزوجية قائمة ولم تنته بعد، إذ من حق الزوج إرجاع زوجته ولا يغير من الأمر شيئاً إذا لم يتم إرجاع الزوجة وذلك حماية لما قد يسرّه أحد الزوجين للآخر في هذه الفترة في سبيل إعادة عرى الزوجية.

ويشترط لقيام الحماية أن لا يكون السرّ شائعاً أو معروف عند الغير وإلا فقد خصوصيته كسرّ، ولا يعتبر من قبيل شيوع السرّ علم الطبيب الذي يعالج أحد الزوجين بالسرّ أو علم أسرة أحد الزوجين به، كعلم أم الزوجة بأن ابنتها كانت مزالة البكارة قبل الزواج. وقد اختلاف الرأي فيما إذا كانت الدعوى قد أقيمت بسبب إزالة البكارة، فالبعض قال أن إقامة الدعوى بإزالة البكارة لا يجعل هذا السرّ شائعاً لأن هذه الدعاوى تعقد بصورة سرية، ولكن فات هذا الرأي أن الحكم يصدر بصورة علنية لذلك فإن أغلبية الفقه ترى أن السرّ فقد طابعه بسبب إقامة الدعوى.

لكن هذه الحماية لا تشمل الأسرار التي اطلع عليها الزوج عن الزوج الآخر من الغير لأن هذا السرّ يكون قد فقد طبيعته لإطلاع الغير عليه.

والأمر يختلف إذا كان الزوج قد تلقى السرّ من صاحب مهنة كالطبيب الذي يخبر أحد الزوجين عن مرض زوجه، لأن الضرورة هنا هي التي اقتضت باطلاع الزوج على مرض زوجه. أما الأسرار التي يحصل عليها الزوج عن زوجه بطريقة غير مشروعة، فقد اختلاف الرأي في حمايتها أو عدمه، ولم أجد ما يرجح أحد الرأيين وأن كنتُ أميل إلى حمايتها لأن الأسرار التي حصل عليها الزوج عن زوجه بشكل مشروع حماها القانون، ومن باب أولى أن تحمى الأسرار التي احتفظ بها الزوج حتى عن زوجه ولم يسرها إليه، وكشفها بطريق غير مشروعة، فالسرّ هنا لا يفقد طبيعته باعتباره من الحقوق اللصيقة بالحياة الخاصة والتي حماها القانون.  

وهكذا تتضح أهمية الأسرار في الحياة الزوجية ويتبين مدى أهمية كتمانها وخطورة إفشائها على من يفعل ذلك وما قد يتعرض له من عقاب، وعلة التجريم هنا هي حق كل شخص في أن تُكفل لحياته الخاصة حرمتها وأن تحاط بسياج من السرية فلا ينفذ منه شخص إلا برضاء من صاحب هذه الحياة. والركن المعنوي المطلوب توافره هنا لقيام هذه الجريمة هو القصد العام والمكون من العلم والإرادة، فيكفي علم الجاني بأن ما يقوم بنشره من أخبار أو صور أو تعليقات تتصل بأسرار الحياة الخاصة أو العائلية للمجني عليه وأن تتجه إرادته إلى نشرها وبالتالي يتحقق توافر الركنين المادي والمعنوي لجريمة إفشاء الأسرار. 

ولا شك أن كتمان السرّ فضيلة سامية وخلق قويم وحفظ لحسن العلاقات بين الأفراد والجماعات وإفشائه إضرار بها، ومن العجيب أن الجواهر كلما كثرت خزائنها كان أوثق لها، وأما الأسرار فكلما كثرت خزائنها كان أضيع لها، وكما قال أحد الحكماء كم من إظهار سرّ أراق دم صاحبه ومنعه من بلوغ مأربه.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.