تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الإجهاض حلّ أم مشكلة..!!


الإجهاض كان ومازال إحدى المسائل التي تشغل بال المشرّعين والمفكرين حيث مازال النقاش والاختلاف فيه محتدماً وقائماً. فهذا الفعل معروف منذ القدم وإن اختلفت غاياته ودوافعه، وسواء أكان بسبب عوامل اقتصادية أم دينية أم أخلاقية أم كوسيلة للحد من تكاثر النسل، على الرغم من النصوص الإلهية القاطعة بتحريمه. ويذكر أن أبقراط نهى الأطباء في قسمه الشهير عن إجهاض النساء أو ارشادهن إلى ذلك أو وصف الدواء المجهض. واليوم لم تعد معالجة مسألة الإجهاض مقصورة على علماء القانون والطب، بل تخطى الأمر ذلك، وهو ما دفعنا لأن نضع عنوان مقالتنا الإجهاض حلّ أم مشكلة؟ 

والاجهاض الذي نخصه بالبحث هنا هو الذي يؤدي إلى إنهاء حالة الحمل قبل موعد الولادة الطبيعي، دون أن يكون هناك خطر يهدد حياة المرأة الحامل أو يمسّ سلامتها الصحية، وهو ما يعرف بـ "الإجهاض الجنائي" الذي عاقبت عليه معظم قوانين العقوبات في العالم، ومنها قانون العقوبات السوري وذلك من خلال المواد (من 525 إلى 532) الواردة في الباب السابع منه تحت عنوان: "الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة"، وبها أفصح المشرّع السوري عن موقفه الصريح ضد إباحة حالات "الإجهاض الجنائي" محدداً أركانها وعقوباتها حسب اختلاف الصور من خلال جريمة الإجهاض، والتي هي حسب نص القانون:

1ـ إجهاض المرأة الحامل لنفسها عن طريق وسائل تستعملها بذاتها.

2ـ إجهاض المرأة الحامل لنفسها من قبل غيرها برضاها.

3ـ إجهاض المرأة الحامل لنفسها من قبل غيرها بدون رضاها.

وبالتالي يمكن تصنيف الإجهاض في ضوء العقوبة المقررة على هذا الفعل، إلى نوعين هما:

أولاً- الإجهاض المخفف: نصت عليه المادة (531) والذي يقضي باستفادة المرأة الحامل أو أحد فروعها أو أقربائها حتى الدرجة الثانية من العذر المخفف في حالة ارتكابهم إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين (528 ـ 529)، وذلك إذا كان الدافع إلى ارتكاب الجرم هو المحافظة على شرف المرأة الحامل. واشترط المشرّع أن يكون هذا الحمل نتيجة اتصال جنسي غير مشروع.

ثانياً- الإجهاض المشدد: نصت عليه المادة (532) وفقاً للمادة (247)، وهو في حالة ارتكاب إحدى الجنح المنصوص عليها في هذا الصدد من قبل طبيب أو قابلة أو صيدلي أو مستخدميهم فاعلين أكانوا أم محرضين أم متدخلين. ويمكن الحكم على المجرم بالإضافة إلى العقوبة بالمنع من مزاولة مهنته أو عمله بإقفال المحل. وتشديد العقاب في هذه الحالة نابع من صفة الجاني الذي هو أحد المشتغلين بالمهن الطبية سواء كان مرخصاً له بذلك أم لم يكن.  

وبعد هذا العرض الموجز لموقف القانون، يبقى السؤال الأهم: هل الإجهاض حل أم مشكلة؟

بعض فقهاء العصر ومفكريه يميلون نحو إباحته، في حين يتشدد بعضهم الآخر ويقف ضد إباحته، ولكل منهم حججه التي يستند إليها. وقد بدا ذلك جلياً وواضحاً في المؤتمر الذي عقدته الأمم المتحدة في القاهرة عام 1994 للسكان والتنمية. حيث كان ذلك الموضوع محل البحث وتحول إلى سوق عكاظ تبارى فيه المفكرون والباحثون تحت عنوان علني هو: الإجهاض والسكان، في حين كان عنوانه الضمني الدين والدنيا. وقد ظهر اتجاهان واضحان فيه أحدهما يدعو إلى إباحة الإجهاض ويعتبر أصحابه أن في ذلك حلاً سليماً لمعالجة الانفجار السكاني المرتقب، واتجاه يعارضه بشدة ويرى فيه خروجاً على التعاليم الدينية والقيم الأخلاقية.

واستناداً إلى وثيقة العمل المقدمة لهذا المؤتمر والدعوات الصريحة إلى إباحة الإجهاض وجعله قانونياً وربطه بمسألة الزيادة السكانية والفقر الذي تعاني منه بعض دول العالم لاستحالة التنمية فيها, فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح على نقاش البحث في الحقيقة، هو: هل تحول الإجهاض من حالة استثنائية تتعرض لها بعض النساء أحياناً إلى حالة علاجية أصلية ذات مضامين سياسية واقتصادية؟ وهل صحيح أن القنبلة السكانية - كما يسميها بعض المفكرين الغربين والأمريكيين- لا يكمن معالجتها إلا بالإجهاض؟

الإجهاض في معظم الدول المتقدمة لم يعد معاقباً عليه، بل إن هذه الدول أزالت القيود التنظيمية والقانونية التي تمنعه، وفصلت بين قضايا الزواج والجنس والانجاب وعدّتها قضايا منفصلة عن بعضها البعض، ونظرت إلى الإجهاض على أنه قضية تتعلق بالحرية الشخصية للأفراد. وهذه الدول ترغب اليوم في نقل هذه التجربة إلى خارج حدودها، وتلح في ذلك لتعممها على الدول النامية التي مازال الإجهاض فيها يرتبط بالعقائد التي تتبناها شعوبها، وأصبح هذا الارتباط متأثراً بعوامل أخرى كسياسة زيادة عدد السكان، وتدخل الدول المتقدمة بهذه السياسة كأثرٍ من آثار تعلقها بأمنها القومي، وممارسة الضغوط الشديدة على الدول النامية لاتباع سياسة الإجهاض حلاً لمشكلات الدول النامية السكانية والاقتصادية والمالية وجعله أمراً اعتيادياً.

وقد جاء هذا التدخل في نص الوثيقة التي قدمت إلى مؤتمر السكان والتنمية المنعقد في القاهرة حيث اعتبرت هذه الدول أن الزيادة السكانية في الدول النامية تؤلف خطراً على مستقبلها،  وهذه النظرة من الدول الغربية كشفت عنها وثيقة سرية تعتبر أن تكاثر السكان في الدول النامية يؤلف خطراً على الأمن القومي الأمريكي وإعلان حرب غير مباشر على مصالحها الاستراتيجية، لأن استمرار النمو السكاني في هذه البلدان سيؤدي إلى زيادة قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية مما يؤدي إلى تهديد المصالح الأمريكية، وقد تم الإشارة إلى هذه الوثيقة في صحيفة تشرين السورية الصادرة في 10 /9/ 1999.

وعلى الرغم من كل ما قيل في الإجهاض سلباً أم إيجاباً، فإنه يبقى مشكلة وجريمة في آن واحد. فهو مشكلة قائمة بذاتها لما يتركه من آثار صحية وجسدية ونفسية على حياة المرأة، ومن زيادة التكاليف الاقتصادية على المرأة التي يقع عليها، أو تقوم به. وفضلاً عن ذلك، وكما هو ثابت لم يحل ولن يساعد على حل أزمة السكان وتنظيم الأسرة، ولا مشاكلها الاقتصادية. ويؤكد ذلك أن الدعوات لتحديد النسل في بداية القرن الماضي لم يكتب لها النجاح، فضلاً عن أن مأساة حقيقية أصابت البشرية في اتباعها هذا الأسلوب لأن الاحصائيات العالمية تدل على أن أكثر من خمسين مليون حالة إجهاض سنوية لم تكن آمنة.

وهو جريمة أيضاً لأنه يخالف الشرائع السماوية والوضعية واعتداء على حرمة النفس وقتل للأبرياء، فقد أكدت إحصائية أجرتها الأمم المتحدة وفاة نصف مليون امرأة سنوياً نتيجة الإجهاض غير الآمن فقط في الدول النامية.

وإزاء هذا الواقع لابد من معالجة هذا الموضوع من قبل المشرّع والتدخل فيه من خلال تشريع يتناول حالات الإجهاض الناشئة عن عمليات الاغتصاب والحمل، وما يعرف "بجهاد النكاح" المرتكبة على الأرض السورية، وما نتج عنها من آثار مختلفة سوف تظهر لاحقاً، وألا يترك الأمر حتى يصبح مشكلة حقيقة تواجه المرأة الضحية وأسرتها ومجتمعها.


 

  

 

 

  

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.