تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

تأجير الأرحام ...في القانون والشرع


 

يطالعنا تطور فن الطب وتقدمه بمظاهر جديدة، قد تبدو للوهلة الأولى دخيلة على النظام القائم، الذي يهدف إلى حماية كيان الإنسان المادي والمعنوي. إلا أن طبيعة هذا الفن ـ المتجدد والمتطورـ أثارت الجدل لدى رجال القانون والطب عندما تصطدم القواعد القانونية المجردة بالاعتبارات الطبية، ولاسيما عندما تمس هذه الاعتبارات حياة الانسان وجسده. إذ يثور التساؤل حينئذ حول إعمال قواعد المسؤولية القانونية أو أن تطور العلم وخدمة الإنسانية مبرران كافيان لتعطيل النصوص القانونية، وتحديداً عندما يصبح الإنسان سلعة تباع وتشترى، ويستخدم الطب الذي ينبغي أن يسعى لخدمته ورفاهيته أداة في هذه التجارة من قبل أشخاص توحي هيئتهم أنهم من جنس بني البشر وهم في الحقيقة وحوش كواسر، لا يروي ظمأها ولا يسكّن جوعها إلا منظر المال والدم، فلا ضمير يردعها ولا خلق أو دين يمنعها.

فبعد تجارة الأعضاء البشرية ونقل الخلايا الجذعية من جسد إنسان حي لإنسان حي آخر برزت ظاهرة طبية جديدة هي تجارة الأرحام والأم البديلة، حيث يتم بيع البويضة والنطفة ليتم التلقيح، ومن ثم وضع الناتج في رحم آخر، وعند ولادة الجنين يسلّم الطفل إلى أصحاب النطاف مقابل حفنة من المال. وهذه الظاهرة لم تعد حكراً على الغرب.

فقد جاء في أحد المواقع الإلكترونية المصرية إعلان بعنوان (رحم للبيع وبأرخص الأسعار). وفي التفاصيل، أن سيدة مصرية تبلغ من العمر تسع وعشرين عاماً تقيم في القاهرة وترغب في تأجير رحمها مقابل خمسة عشرة ألف جنيه للحمل الواحد وبنفقة شهرية ثلاثمائة جنيه عن كل شهر حمل، وتعرض رحمها لأي شاري راغب في الإنجاب وتشترط أن يكون الراغب أو الراغبة في الاستئجار من الجنسية المصرية أو العربية فقط، وهي على أتم الاستعداد لنشر كافة التفاصيل الصحية مع التحاليل الطبية والشعاعية التي أجرتها على الرحم، وذلك للتأكد من خلوها من جميع الأمراض. وأضافت أنها تتمتع بخصوبة عالية جداً استناداً إلى شهادات ووثائق طبية أصولية. وورد في موقع منافس آخر، عرض مغري وجذاب يقول إن العارضة رحمها لا تحمل إلا الذكور وهي على استعداد لتخفيض القيمة عن صاحبة العرض الأول. وفي المقابل أعلن موقع آخر في لبنان عن حاجة امرأة تطلب أم بديلة لأنها غير قادرة على الحمل بسبب تشوهات في رحمها وتتمنى أن تحمل طفل بين ذراعيها لتربيته!!

لكن هذه الإعلانات التي تبدو مدعاة للسخرية والاستهجان والرفض لاقت من يدافع عنها ويرحب بها، ومن يعارضها وينكرها، وانقسم الفقه والفقهاء بين مؤيد لها ومعارض.

فالاتجاه القائل بالإباحة يستند في ذلك على قياس صحة تأجير الرضاعة باعتبار أن الرحم ليست سوى وعاء لجنين في طريقه إلى الاكتمال والتشكل تماماً كثدي المرضعة الذي يمد الرضيع بما يلزم من الحليب لنمو العظم واللحم. ويرى أنصار هذا الرأي أن في تأجير الأرحام حل لمشكلة آلاف النساء بالاستفادة من العلم دون المس بثوابت الدين.  

أما المعارضون، فاعتمدوا على معطيات عدة، منها عدم وصول الطب إلى درجة اليقين في أثر الرحم الوراثي على تشكيل الجنين المزروع واحتمال اختلاط الأنساب في حال حدوث معاشرة زوجية بين الأم الحاضنة وصاحب النطاف. فالرحم واستئجاره محرم لكونه يتضمن إدخال نطفة رجل في رحم امرأة لا تربطه بها علاقة زوجية. وعلى هذا الأساس فإن التبرع بالحيوانات المنوية أو البويضات ممنوع لأنه يدخل في باب الزنا ويؤدي إلى النتيجة ذاتها في الزنا وهي اختلاط الأنساب.

ولما كان القانون المدني السوري قد نص في المادة 136 منه على أنه: إذا كان محل الالتزام مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلاً.

وبالتالي لا يمكن إطلاق وصف عملية تأجير الأرحام تلك بالقانونية أو البحث في انطوائها تحت مؤسسة عقد الايجار المعروفة والشائعة في الفكر القانوني، لعدم توافر الأركان المطلوبة لقيام هذا العقد؛ فلا يمكن القول بأنه عقد بين امرأة ورجل ليس زوجاً لها تلتزم به بتأجير رحمها بغية الانتفاع به لوضع حيواناته المنوية عن طريق التلقيح الاصطناعي لمدة معينة هي فترة الحمل لقاء بدل أو أجر معين متفق عليه على أن تسلم المولود لوالده بعد الولادة.

وهذا الرأي هو ما استقر عليه الأزهر الشريف عندما طلب أحد الأشخاص الترخيص لفتح وكالة لتأجير الأرحام حيث رفض مفتي الديار المصرية سيد طنطاوي ذلك، وعلّق عليه بأن هذا المشروع أو الفكرة تتنافى مع الشريعة الإسلامية تنافياً مطلقاً وتتعارض معها؛ فلا يجوز شرعاً أن ينسب طفل لغير أبويه، وإلا كان ذلك زنا صريح. وقد ردّت دار الإفتاء فوراً بالرفض جملة وتفصيلاً. وهذا رأي الشيخ الدكتور علي جمعة الذي أكد أن تأجير الأرحام محرم شرعاً وغير جائز في جميع الحالات، لأن مخاطره أكثر من منافعه، استناداً إلى القاعدة الشرعية التي تقول: إن درء المفاسد مقدّم على جلب المنافع, وإن هذا الأمر يُدخل الناس في دوامة الشك خاصة وإن بعض الأطباء قالوا إن الطفل قد يكتسب صفات وراثية من الرحم الذي ينشأ فيه، الأمر الذي قرر معه مجلس مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بتاريخ 30 /3/2001 بتحريم استخدام رحم امرأة أجنبية أو وضع بيضة من زوج وزوجة، مؤكداً أن ذلك حرام سواء أكان الموضوع في رحم المرأة منياً أو بويضة أو جنيناً.

لكن الأمر الذي يبعث لهذا الجدل هو المشاكل القانونية المثارة التي تنشأ وتتفرع عن عملية تأجير الرحم، وعلى سبيل المثال لا الحصر:

1ـ في حال وفاة المستأجرين للرحم، ماهي الالتزامات المترتبة على الورثة من الناحية القانونية والشرعية.

2ـ في حال مرض أو وفاة المرأة المؤجرة للرحم.

3ـ وضع المولود في حال ولادته غير سليم من جميع النواحي ومدى مسؤولية الأطراف عن ذلك.

4ـ ما الأثر القانوني في حال رغبة المؤجرة في الاحتفاظ بالمولود.

والنتيجة التي نخلص إليها أننا نكون أمام شكل جديد من أشكال النخاسة وتجارة البشر التي يعاقب عليها القانون لما لها من انعكاسات خطيرة على المجتمع والأسرة، ولذلك نرى أنه لابد من تدخل المشرّع السوري بنص صريح يمنع هذا العمل انطلاقاً من دوره الأخلاقي والدستوري في حماية الأسرة باعتبارها الخلية الأولى في المجتمع.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.