تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الـتأصيل القانوني لحق الأم في الحضانة..!!


 شرّع الله الزواج وسيلة للاستقرار والتناسل ولهذا جعله أبدياً تستقر فيه نفس كلا الزوجين. وقد تتباين طبائع الزوجين وتختلف أخلاقهما فلا ينشأ التوافق والانسجام ولا يحقق الزواج هدفه الغريزي. وبصورة عامة يمكن ألا تتحقق المحبة والمودة بين الزوجين. وبما أن رفع الظلم عن كلا الزوجين في هذه الحال أمر واجب، فإن الشرع والقانون أعطى للمتضرر منهما حق طلب الطلاق. وإذا أثمرت هذه العلاقة عن وجود أطفال، فهذه إشكالية تفرض نفسها عند انفصال الرابطة الزوجية بين الأب والأم حيث يبدأ التنافر والتبارز للفوز بالصغار والاستئثار بهم دون الآخر. وهو ما يعرف بحق الحضانة التي ليست حقاً ووقفاً على طلب الحاضن وإنما هي حق للمحضون، وبالتالي تعتبر مسائل الحضانة من النظام العام التي يتوجب على القاضي فيها اتخاذ كافة التدابير التي فيها مصلحة المحضون.

وإزاء هذا المسؤولية كان لا بد من معرفة العلة في تقرير حق الحضانة للحاضن والغاية منه والتثبت من موقف الدين الإسلامي الذي هو مصدر التشريع، والذي يتفق مع حقائق الاجتماع والعقل السليم، حيث عبرت عنه امرأة بمنافحتها ودفاعها عن حقها في حضانة طفلها في عهد رسول الله(ص) بقولها: "يا رسول الله، إن ابني هذا كانت بطني له وعاء وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله (ص) أنت أحق به ما لم تنكحي".

وهو ما سار عليه قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة(139) فقرة /1/ "حق الحضانة للأم...". وما كانت الأم في هذا الوضع المتمايز في استحقاقها لحضانة طفلها الذي أضيف إلى الحياة إلا لأنها أكثر عاطفة وأعمق حناناً وأقوى شعوراً وأصبر على وليدها في المرحلة الأولى المحددة لمعالم شخصيته النائية به عن التعقيدات النفسية والرواسب المعنوية ولعل هذا الملمح الأصيل لدى الأم هو الذي صوره القرآن بدقة في قصة أم موسى (ع) بقوله: " فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن"، لما أودعه الله فيها من خصال العطف والمحبة الفياضة.

ولا يحسبن أحد أن إضفاء الشرع الإسلامي هذا الحق للأم، إنما منحه للأم المسلمة بصفتها معتنقة الإسلام، فهذا غير صحيح لأن الإسلام ساوى بين المرأة المسلمة واليهودية والنصرانية دون تفرقة بينهن جميعاً؛ فالغاية عنده هي المودة والرحمة في الزواج وبناء الأسرة.

واتساقاً مع هذا النهج الإنساني، فإن المشرع استشعر حاجة الأم غير الكتابية كما استشعر حاجة الأم المسلمة إلى تعميق مشاعر الأمومة لديها تجاه طفلها، فخولها حق الحضانة يهودية كانت أم نصرانية، فهي بوصف الأمومة أهل لتولي الحضانة دون أن يؤثر اختلاف الديانة بينها وبين وليدها على الحدب عليه ورعايته بمجامع فؤادها وأحاسيسها.

 والفقه، سار على هذا الدرب الناصع لرحابة الإسلام إلى المدى الذي يقف عند حدود طمس الأم الحاضنة لمعالم الهوية الإيمانية للطفل أو الانحراف به عن تنشئته الإسلامية، وتلقينه تعاليم دين آخر غير دين الإسلام، أو تعويده شعائر غير المسلمين. فإذا أقدمت الزوجة غير المسلمة على ذلك، سقط حقها في حضانة وليدها، لأنها افتئتت على حق دينه وخرجت عن حدود مهمتها في التربية والتهذيب بالسعي إلى اعتناق دينها ونكوصه عن دينه، وهي بذلك قد خانت الأمانة التي ائتمنها عليها الإسلام واستغلته لمراميها الخاصة ومقاصدها الخفية.

أما إذا واظبت على أداء رسالتها تجاه طفلها وأحسنت ذلك، استقام لها حقها فيه، وظلت متمتعة بهذا الحق حتى بلوغه السن التي ينتهي عندها حق الحضانة.

ولا يعارض حق الأم في حضانة طفلها أو يحول دون القيام بأعبائه، حق الأب في الولاية على نفس الصغير. ولا ينبغي أن يحتج بحق الأب على حق الأم، لأن كلاً منهما ولاية لها مجالها ونطاقها الذي تعمل فيه في ظل تخوم وحدود تتأبى على النزاع وتستعصي على الشقاق عند من فقّهها. فالحضانة ولاية على الصغير تعمل على تواصل العلاقة بينهما امتداداً للعلاقة السرية الضاربة بجذورها منذ أن كان جنيناً وقطعة من الأم، وكان هو نفسه دماً يجري في عروقها. فإذا أضافته إلى الوجود ووضعته جنيناً فحقها في رعايته وتنشئته النشأة السوية يظل لصيقاً بها لا ينفك عنها، خاصة وأن العهد قريب وجل اعتماده عليها في مطعمه وملبسه وتوطنه، ناهيك عن الحاجة النفسية والمعنوية إليها وما أعظمها من حاجة لا يمكن لكائن من كان ـ ولو كان الأب ـ أن يحل محلها. وقد فقه الصديق أبو بكر(ر) هذه الحقيقة بقوله لعمر: عندما اختصم إليه مع زوجته من الأنصار وعاصم ابنه في حجرها، وأراد عمر انتزاعه منها، فقال الصديق: مسها وحجرها وريحها خير له منك حتى يشب الصغير فيختار لنفسه.

ومؤدى ذلك أن الشرع والقانون بتقريره حق الأب في الولاية على نفس الصغير إنما أراد تكامل الرعاية والقيام على أمرة شؤونه الحياتية صحياً واجتماعياً واقتصادياً؛ بمعنى أن يتولى الأب تزويجه وتثقيفه وتعليمه وسد رمقه وتوفير المسكن والملبس له والنأي به عما يزعجه ويقلقه وتعليمه حرفة يتعيش منها. وهذه الولاية بهذا المحتوى لا تطغى أو تتجاوز على حق الحضانة المقرر للأم؛ فالحضانة امتزاج واتصال ومعايشة بين الأم ووليدها, تكون في المرحلة المبكرة من العمر التي تعقب مرحلة ولادته ويقتضيها وضعه على درب التمييز والادراك الصحي والصحيح فهي تكون في سن الطفولة المبكرة والتمييز، بينما الولاية على النفس المقررة للأب وأن تزامنت معها، فإنها تتطاول إلى سن يتدرج معه النمو البدني والعقلي حتى البلوغ فبينهما تواصل وتكامل وليس تباعد وتنافر.  

وبهذا الفهم تتضح الحقيقة والعلة من إقرار حق الحضانة للأم والولاية للأب فلا تعارض بينهما وليست إحداها في مواجهة الأخرى أو إزائها بحيث لا يتأتى القيام بأحدهما إلا بالتضحية بالأخرى، فالعكس صحيح.

 وحيث أن الخلاف قد دبّ بين طرفي هذه الأسرة فإن القانون وضع نصب عينيه الضمانات التي من شأنها أن تحمي حقوق الصغار وأن تعصمهم من النكاية والعسف واللدد الذي يمارسه أحد الطرفين في مواجهة الطرف الآخر، فأقام لذلك التوازن بين الحقوق عند مبارزة كل طرف بها ضد الآخر واشتداد حلبة المنافسة بينهما، وأسسه على معيار العدالة والمصلحة الموضوعية التي أسبغ عليها الشارع حمايته ومد عليها مظلته. وكان السبيل إلى ذلك هو تغليب مصلحة الطفل والانتصار لحقه في الحياة الصحية الصحيحة، لأنه المقصود الأساسي من تشييد الرابطة الزوجية المقدسة، ولكونه الطرف الضعيف المستحق للحماية في منظومة الحياة الأسرية بأسرها، وتأسيساً على أن العناية بالطفل تجسيد لاستشراف المستقبل؛ فهو يمثل الإقبال على الحياة على حين يستدبرها الوالدين وهو ما يجعل رعاية حقه أجدر وأولى. لذلك ترجح هذه النظرة التي تفترض ضمانة حتمية لحماية حق الطفل في أن ينشأ النشأة الصالحة في بيئته الطبيعية وفي أحضان من هي أقدر على العطاء وعلى إمداده بعناصر التوازن النفسي والعاطفي، وهي الأم. وبهذا يستبين لنا وجه الحقيقة بين السلطة في الحضانة والولاية على النفس، فلا يتزاحمان ولا يتصارعان بل يتكاملان ويتواصلان لمصلحة الطفل.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.