تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية (2)

 

الطبيعة القانونية للجريمة المعلوماتية وخصائصها في ظل المرسوم التشريعي  رقم (17) للعام 2012!!

 

المعلومات مورد لا يقل ولا ينضب, تتزايد دوماً ولا تتناقص بالاستخدام أو تستهلك, وترتبط بالزمان والمكان وتتفاعل مع التطور, وعلى  متلقيها ومدى علاقتها بحاجته تتوقف إلى حد كبير قيمتها. وهي في الحقبة المعاصرة مفتاح للموارد الأخرى, وسلعة أو خدمة تباع وتشترى, ومصدر قوة اقتصادية وسياسية لمن يُحسن جمعها وتنسيقها واستخدامها. ولارتباطها بمختلف مجالات النشاط الإنساني وتداخلها في كل جوانب الحياة المعاصرة, أصبح توفيرها وحسن استغلالها من المقومات الضرورية لدفع عجلة التقدم في الأمم والمجتمعات, وصار تدفقها وانسيابها بمثابة النبض والعصب لجهود التنمية والتحديث والرقي المعرفي والحضاري, وبات الوعي بأهميتها مظهراً ومقياساً لتقدم الدول.  

ومع هذه الثورة, وما نجم عنها من تحولات اقتصادية واجتماعية ترافقت ببزوغ فجر مجتمع المعلومات, تزايد استخدام الحاسب كأداة لتخزين ومعالجة واسترجاع المعلومات، وكمعاون هام في العملية الإدارية، حيث لم يعد ثمة مجال اقتصادي أو اجتماعي أو صناعي أو إداري إلا وتباشر الحاسبات وتقنية المعلومات دوراً رئيساً في أدائه وتطويره. وغدا العالم بذلك أشبه بمجتمع كبير تتدفق بين أرجائه المعلومات في مختلف صورها وأشكالها, وتتلاشى فيه الحواجز الجغرافية والمسافات فتضعف قبضة الأمن والمراقبة والتحكم, وتزدهر عمليات التجسس على المعلومات المعالجة الكترونياً وسرقتها، لتشكل تهديداً بالغاً لسائر المنظمات الحكومية والخاصة التي تعتمد في أعمالها على التقنية المعلوماتية. وترتفع مخاطر إساءة استخدام الحواسب والتلاعب في البرامج والملفات المعلوماتية المخزنة آلياً بقصد الحصول على الأموال أو أصول أو خدمات غير مستحقة، وتهيئ مجالاً واسعاً للعبث في الأنظمة والشبكات وتبرز كأهداف لعمليات التخريب والإرهاب.

        ومنذ الحالة الأولى الموثقة عام 1958 لجريمة معلوماتية ارتكبت في الولايات المتحدة وحتى الآن, كبُر حجم هذه الجرائم وتنوعت أساليبها وتعددت اتجاهاتها وازدادت خسائرها وأخطارها، حتى صارت من مصادر التهديد البالغة للأمن القومي للدول, خصوصاً تلك التي ترتكز مصالحها الحيوية على المعلوماتية وتعتمد عليها في تيسير شؤونها. بإيجاز تحولت هذه الجرائم من مجرد انتهاكات فردية لأمن النظم والمعلومات إلى ظاهرة تقنية عامة ينخرط فيها الكثير ممن تتوافر لديهم المهارة والمعرفة في مجال المعلوماتية.  

وأمام هذا الشكل الجديد للإجرام الذي يستعير من المعلوماتية أساليبها وأدواتها, تبرز صعوبات ناجمة عن تحديد الطبيعة الخاصة لهذا النوع من الإجرام في ظل ما تشهده من تفريغ وسلب لمادية السلوك بالاعتماد على نظريات تقليدية وضعت في ظل تفكير كان يقتصر إدراكه على الثروة الملموسة والمستندات ذات الطبيعة المادية، مما يتعذر معه تطبيقها لحماية القيم غير المادية المتولدة عن المعلوماتية. من هنا كانت الحاجة لبيان نوع الجريمة وهل هي مجرد جريمة عادية محلها الاعتداء على الأموال، أم جريمة من نوع خاص وطبيعة مختلفة بالنظر إلى الآثار المترتبة عليها والقطاعات المستهدفة فيها؟

        ومن خلال الوقوف على الإحصائيات والنشرات الدورية التي تكشف عن حجم الخسائر التي تنجم عن جرائم المعلوماتية، قدّرت الخسائر الناتجة عن جرائم الحاسوب في الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تتراوح بين 3 إلى 5 مليارات سنوياً. وذكرت المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI  في نهاية الثمانيات أن جريمة الحاسوب الواحدة تكلف حوالي 600 ألف دولار سنوياً في المتوسط، في حين تكلف السرقة الواحدة تحت الضغط أو تهديد السلاح ما يقارب 3000 دولار سنوياً. وفي دراسة أجراها أحد مكاتب المحاسبة الأمريكية تبيّن أن 240 شركة أمريكية قد وقعت ضحية لجرائم الغش بالحاسوب.

وفي دراسة مماثلة أجريت في المملكة المتحدة تبين أن 264 جريمة من جرائم الحاسوب تم ارتكابها وكلفت حوالي 92 مليون جنيه إسترليني، كان نصيب البنوك منها 20 مليون جنيهاً, وأن جزءاً كبيراً من الخسائر يرجع إلى إدخال بيانات غير صحيحة في الحاسوب. وتبيّن الدراسة أيضاً أن المدير والمشرفين والعاملين في مراكز الحاسوب وموظفي الخزينة يحظون بنصيب الأسد من هذه الجرائم. ويأتي العملاء والأفراد من خارج المؤسسات في نهاية قائمة مرتكبي هذه الجرائم.

من هنا يمكن القول إن جرائم الحاسب يمكن تصنيفها ضمن الجرائم الاقتصادية على اعتبار أن حجم الخسائر الهائلة التي تنجم عن إساءة استخدام الحاسب كلها أمور تعود بالضرر على الاقتصاد. وتعرّف الجريمة الاقتصادية بأنها: ((كل ما يفسد الاقتصاد بصفة عامة))، وقد عرّفها قانون العقوبات الاقتصادية السابق رقم /37/ لعام 1966 في المادة الثالثة منه: ((يشمل قانون العقوبات الاقتصادية مجموعة النصوص التي تطال جميع الأفعال التي من شأنها إلحاق الضرر بالأموال العامة وبعمليات الإنتاج واستهلاك السلع والخدمات وتهدف إلى حماية الأموال العامة والاقتصاد القومي والسياسة الاقتصادية)). لكن قانون العقوبات الاقتصادي الجديد الصادر بالقانون رقم/3/ لعام 2013 لم يتطرق لتعريف الجريمة الاقتصادية، وإنما ذكر في المادة /2/ منه هدف القانون هو مكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية وحماية الاقتصاد الوطني والمال العام، في حين يعرفها الفقه السوري بأنها: ((هي كل فعل أو امتناع يعاقب عليه القانون ويخالف السياسة الاقتصادية للدولة)).

وفي ضوء ما تقدم  نرى أن جرائم الحاسب من الجرائم الاقتصادية للأسباب التالية:

أولاً ـ تخالف السياسة الاقتصادية للدولة القائمة على  دعم الثقة والائتمان وتأمين حرية التجارة.

ثانياً ـ لأنها تكشف عن خطورة إجرامية خاصة في شخص فاعلها بالنظر إلى نواياه وأساليب نشاطه التي من شأنها أن تلحق ضرر بالغاً بالتنمية الاقتصادية. وقد أشرنا إلى حجم الخسائر المتولدة عنها وتلك أرقام لا يمكن التعامل معها على اعتبار أنها جرائم فردية تؤثر على فرد أو شركة معينة، وإنما آثارها تجاوز ذلك الفرد وتلك المؤسسة لتصل إلى الدولة ذاتها.

فتكاليف الجريمة الاقتصادية لا تقتصر على التكاليف القصيرة الأجل التي يمكن حصرها وتقديرها كفقدان الدخل العام أو قيمة النشاط غير المشروع بحد ذاته، بل يمكن أن تكون ذات أثر طويل الأجل وأشد تدميراً بكثير. فالجريمة الاقتصادية تقوّض الثقة في مؤسسات الأعمال والمال الرئيسية وهي تتسبب في البطالة وتضخم الأسعار وتدهور المعايير. كما أنها تثير في نفوس الجماهير عندما تقترن بانعدام المراقبة والإبلاغ والمحاسبة مشاعر القلق وسوء الظن. كما أنها تضع عبئاً ثقيلاً على كاهل اقتصاد البلد المعني والذي يتحمل الجانب الأكبر منه في نهاية المطاف الأفراد العاديون ومن أمثلة ذلك: أنّ انهيار مؤسسات الادخار والإقراض في الولايات المتحدة الأمريكية منذ بضع سنوات كلف مبلغاً قدره خمسمائة بليون دولار.  

وعلى ذلك فإن تأثير هذا النوع من الجرائم على المدى الطويل قد يكون أعظم في الواقع وأشد وطأة على الأسواق الناشئة والبلدان النامية منه في الدول المتقدمة. والذي يؤكد صحة ما نذهب إليه من اعتبار جرائم الحاسب من الجرائم الاقتصادية تقرير الأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعالجة المذنبين المنعقد في القاهرة عام 1995 والذي اعتبر أن الجرائم المتصلة بالحاسب شكل من أشكال الجريمة الاقتصادية، لأن هذه الجرائم تتضمن على نحو متزايد استخدام التكنولوجيا المتطورة، بما في ذلك استخدام الحواسيب في تنفيذ الصفقات التجارية غير المشروعة أو في إحداث الاضطرابات في البيانات أو النظم، أو تنسيق عمليات تدليس واسعة النطاق. وفي الوقت نفسه تساعد هذه التكنولوجيا مقترفي تلك الجرائم على إخفاء الوسائل التي نفذوا بها أفعالهم وتتيح لهم فرصاً جديدة أمام سلوك إجرامي يمكن أن يدرّ أرباحاً وافرة لقاء مخاطر قليلة نسبياً. وتقتضي مناهضة هذه الأشكال من الجريمة الاقتصادية قدراً كبيراً من الخبرة المتخصصة والموارد والتعاون الدولي. 

وبعد بيان نوع الجريمة وصفتها لابد من استعراض أهم الصفات التي تمتاز بها دون سائر الجرائم الأخرى، وهي :

1ـ سرعة وسهولة التنفيذ: حيث لا يتطلب تنفيذ الجريمة  الكثير من الوقت، فبضغطة واحدة على لوحة المفاتيح يمكن أن تنتقل ملايين الدولارات من حساب إلى حساب آخر، وهذا لا يعني أنها لا تتطلب الإعداد قبل التنفيذ أو استخدام معدات وبرامج معينة.

2ـ تنفيذ عن بعد: لا تتطلب جرائم الحاسب في أغلبها وجود الفاعل في مكان الجريمة، بل يمكن للفاعل تنفيذ جريمته وهو في دولة بعيدة كل البعد عن مكان إقامته، أو مكان تنفيذ جريمته، ويكفي الدخول إلى الشبكة وإلى برنامج متصل بها لتنفيذ عملية اعتراض تحويل مالية، أو سرقة معلومة هامة، أو إحداث تخريب...الخ.

3ـ إخفاء الجريمة: إن الجرائم التي تقع على النظم والحواسيب جرائم مخفية لا يمكن اكتشاف آثارها بسهولة أو التخمين بوقوعها والسبب في ذلك ضخامة الكم الهائل من البيانات المتعيّن  فحصها عند وقوع الجريمة.

4ـ الجاذبية: نظراً لما تمثله السوق المعلوماتية من إغراء كبير للمجرمين بالثروة السريعة والهائلة, تحولت إلى عالم يخفي فيه الإجرام المنظّم عملياته في غسيل الأموال والسرقة والاحتيال وقرصنة أرقام بطاقات الائتمان.

5 ـ عابرة للدول: إن ربط العالم بشبكة من الاتصالات من خلال الأقمار الصناعية والفضائيات والانترنت جعل الانتشار الثقافي وعولمة الثقافة والجريمة أمراً ممكناً وشائعاً وسهلاً لا يعترف بالحدود الإقليمية للدول ولا بالمكان ولا بالزمان، وأصبحت ساحتها العالم أجمع حيث تذوب الحدود الجغرافية بين الدول لارتباط العالم بشبكة واحدة.

6ـ جرائم ناعمة: تتطلب الجريمة التقليدية استخدام الأدوات والعنف أحياناً كما في جرائم الإرهاب والسرقة والسطو، إلا أن الجرائم المتصلة بالمعلوماتية تمتاز بأنها جرائم ناعمة لا تتطلب عنفاً؛ فنقل البيانات من حاسب إلى آخر أو السطو الالكتروني على أرصدة بنك ما أو عميل, لا تتطلب أي عنف أو تبادل إطلاق نيران, وإنما يكفي فيها لمسة حتى ترتكب الجريمة.

7ـ صعوبة إثباتها: تتميز جرائم المعلوماتية عن الجرائم التقليدية بأنها صعبة الإثبات وهذا راجع إلى افتقار وجود الآثار التقليدية للجريمة، وغياب الدليل المادي ((بصمات ـ تخريب ـ آثار عنف ... الخ)، مع سهولة محو الدليل أو تدميره في زمن متناه القصر يضاف إلى ذلك نقص الخبرة لدى الضابطة العدلية. وهذا الأمر يجعل الكشف عن وقوع الجريمة وإثباتها والتعرف على مرتكبها هو أحد أبرز المشاكل التي تواجه جهات التحري والملاحقة. وتتبدى هذه المشكلة بشكل عام في مجالات التخزين والمعالجة الآلية للبيانات حيث تنتفي غالباً قدرة ممثلي الجهات المتخصصة وكاتب التدقيق والمراجعة على أن يتولوا بطريقة مباشرة فحص واختبار البيانات المشتبه فيها. وتزداد حدة هذه المشكلة بوجه خاص في حالات التلاعب في برامج الحاسبات نظراً لتطلب الفحص الكامل للبرنامج واكتشاف التعليمات غير المشروعة الكثير من الوقت والعمل.

        وأخيراً لابد من الإشارة إلى صفة خاصة بتلك الجريمة ـ التي تعد من أهم الخصائص ـ وهي الصفة العالمية؛ فهي جريمة داخلية في حقيقتها مضاف إليها البعد الدولي، تمثّـل ظرفاً مكانياً مصاحباً للجريمة يتعلق بالاختصاص المكاني للقانون الواجب التطبيق. وهذا يستلزم من الدول التعاون لحماية مقومات اقتصادها ضد هذا المد الإجرامي،  والذي تلبّس لدينا في سورية لبوس الإرهاب، فدُمّرت المواقع الالكترونية وعطّلت  الشبكات وتحولت منتديات الإبداع والأدب والثقافة إلى ميادين وغى ومهالك لنشر ثقافة القتل والتحريض والتكفير، وسُخرت العقول في غير غايتها فدنت من السعير بدل النعيم؟     

    

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.