تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

قراءة في التنظيم القانوني لشبكة الإنترنت: محاولات "أمركة" الشبكة وقوانينها؟!

مصدر الصورة
SNS-خاص


فهم الإنترنت للقانون.. أم فهم القانون للإنترنت: من عليه فهم الآخر؟!

        سؤال طالما جال في فكر رجال القانون عند محاولة البحث عن القانون الواجب التطبيق على الشبكة المعلوماتية الدولية. وقد استعرضنا في مقالات سابقة بعض هذه المحاولات وكيفية التعامل معها، والإشكاليات التي أفرزتها، والتي تضع القانون والإنترنت وجهاً لوجه وكأنهما ندان متخاصمان أو بالعكس، تضعهما على أنهما لاعلاقة لأحدهما بالآخر.

وقد عبر الفقيه الفرنسيCharles Jolibis  عن هذه الجدلية بالقول: (ليس على الإنترنت أن يفهم القانون، بل على القانون أن يفهم الإنترنت... إذ أن التكنولوجيا تسبق القانون بشكل شبه دائم, والقانون يسعى غالباً لمواكبتها من أجل أن ينظم مفاعليها. وقد يخطئ القانون أحياناً إذا سعى لأن يلجم التكنولوجيا، لكن سرعان ما يتبين له أن هذه الأخيرة قد تجاوزته من جديد، فيعي القانون أن دوره ليس أبداً وقف التطور العلمي، بل على العكس دوره أن يجتهد لكي يؤنس تطبيقاتها الخيّرة).

      هذه الأسئلة وغيرها، بدأ البحث فيها مع توسع استخدام شبكة المعلوماتية على نطاق واسع جغرافياً وتعاظم الإمكانيات والتطبيقات التي توفرها في الخدمة، فضلاً عن مقدراتها التي لا تزال قيد التجربة أو الاكتشاف. وهو نقاش لا يزال حاراً وسوف يستمر زمناً بدون شك، توصلاً لحل الإشكاليات المتعددة والمختلفة الناتجة عن اختلاف المفاهيم في النظر إلى شبكة الإنترنت والتعامل معها دولياً وعالمياً، ومع طرق ومفاعيل استغلالها المتعددة والمتنوعة. وهو ما دفع البعض إلى اقتراح تكوين قانون دولي خاص بشبكة الإنترنت ينطلق من العدم؛ قانون يُعنى بتنظيم الإنترنت ومحتوى الخدمات والمعلومات فيها. وإذا كان مثل هذا الاقتراح يبقى نظرياً لأنه يستلزم تناغماً وتنسيقاً بين تشريعات الدول المعنية جميعاً، وهو أمر يبدو متعذراً في الوقت الراهن لاختلاف المذاهب التشريعية بين الدول من جهة, واختلاف مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى, فأي سبيل أو حلّ  يمكن اعتماده إذاً في تنظيم الانترنت؟

يمكن اختصار الآراء الفقهية التي تناولت هذا الموضوع وتصنيفها في إطار نظريتين مختلفتين؛ الأولى، منشؤها أمريكي تقول بوجوب (المراهنة على حرية الأفراد). والثانية، منشؤها أوروبي تقول بوجوب (احترام سيادة الدول).

وتنطلق النظرية الأمريكية من الرهان على حرية الأفراد وتعتبر القانون الكلاسيكي بمعناه الواسع المرتكز على مفهوم المكانية وإلزامية التطبيق الداخلي للقوانين الوطنية للدول غير متفق مع طبيعة شبكة الإنترنت وطابعها الدولي. وتدعو إلى إفساح الطريق أمام مستخدمي الشبكة أنفسهم لخلق قواعد خاصة بهذا الفضاء العالمي الجديد تتكون - حسب  الفقه الأمريكي من خلال قول الفقيه الكندي Trudel-  نتيجة الضغط الاجتماعي غير المنظم بشكل واضح، وتكون نتيجة تلاقي مجتمعات ومجموعات مختلفة حول مصالح ومراكز اهتمام مشتركة، وإن لم يتقيد بها كل الوافدين من بيئات وآفاق مختلفة بشكل كامل. وهذه القواعد القياسية أخذت في التكون، حيث يؤكد الباحث في ذات السياق، أنه ينبغي التسليم بأن قدراً كبيراً من القواعد المنظمة للصفقات الجارية عبر شبكة الإنترنت ليست ذات منشأ إقليمي، وهي بكل حال غير مشمولة بقرارات السلطات الداخلية للدول. والحري بشبكة الإنترنت التي أوجدت هذه القواعد أن تكون جديرة في تنظيمها. ومن هذه القواعد قاعدة التهذيب السلوكية والاحترام المتبادل التي كان المستخدمون الأوائل لشبكة الإنترنت من باحثين وجامعيين يمارسونها. وهي ترتكز على الأخلاقية الشخصية التي تعني أن مستخدم شبكة الإنترنت معني بها في تعامله، لأن دوره غير سلبي كما في وسائل إعلامية أخرى كالتلفزيون والإذاعة والصحافة، وهو يحسن المقارنة بينها لأنه سيد في اختيار المواقع التي يرتادها، ولأن بإمكانه أن يمنع اتصاله بالمواقع المشكك بها فلا يجازف بالدخول إلى مواقع غير آمنة.

لكن نظرية (المراهنة على حرية الأفراد) الأمريكية، التي تنادي بسيادة مستخدمي الإنترنت أو سيادة الشبكات وتقول بحرية التعبير وحرية انتقال المعلومات وغيرها من العبارات الأمريكية المنشأ تطلق إشكالية دقيقة: فمثل هذه العبارات وإن كانت تبهر للوهلة الأولى، تبقى غامضة ويتأتى عنها مخاطر شتى لاسيما إذا صحت توقعات الذين يتذكرون دائماً الماضي العسكري لشبكة الإنترنت وتحديداً شبكة أربانت Arpant، الجد الأول للإنترنت. ويعتبر هؤلاء أن هذه النظرية التحررية تخفي طموحاً أمريكياً بالرغبة بالتحكم بشروط لعبة العصر الرقمي من جانب واحد، وبالاستبعاد المسبق لكل خطوة قد تتخذها دولة سيدة لحماية مفاهيمها وقيمها وقوة اقتصادها.

وتبرز على النطاق العالمي مخاوف جدية من أن تكون هذه العبارات المبهرة المتذرع بها تخفي ما يروِّج له منذ سنوات، العديد من المفكرين والمخططين الاستراتيجيين الأمريكيين حول دور الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، وتحديداً قول ريتشارد هاس في كتابه الشهير (الشريف رغماً عنه)، والذي يقترح فيه أن تتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى شريف الكرة الأرضية. أو قول ايرفينغ كريستول حول انبثاق الإمبراطورية الأمريكية من خلال وجوب السعي إلى تسويق مجموعة من القوانين التي تلتزمها الولايات المتحدة، أو القول الأخطر الذي عبر عنه كلام ديفيد روثكوف حين يقول أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأمة التي لا غنى عنها لقيادة أمور الكون ومن مصلحتها السهر على أن تكون اللغة الإنكليزية هي اللغة المشتركة إذا قرر العالم اعتماد لغة مشتركة، كما أنه من مصلحتها إذا اتجه العالم نحو تبني قواعد مشتركة في مجال الاتصالات والأمن والنوعية،  أن تكون هذه القواعد أمريكية، وأن تكون البرامج أيضاً أمريكية، وعلى أن تكون القيم المشتركة هي أيضاً قيم الأمريكيين أنفسهم.  ويبرر روثكوف (أحقية بلاده في قيادة العالم) بالقول إن هذه الأمة هي من بين كل الأمم في تاريخ العالم الأكثر عدالة والأكثر تسامحاً والأكثر رغبة في إعادة النظر في نفسها والتحسن باستمرار وأنها النموذج الأفضل للمستقبل.

وأمام هذه المخاوف التي تنطوي عليها النظرية الأمريكية وخير شاهد على صحة ذلك ما يسمى بدعة الربيع العربي وما يحمل من الهوى الأمريكي في نشر نظرية إعادة إنتاج القوى الحقيقية (الفوضى الخلاقة).  

من هنا كان لابد من الوقوف على النظرية الأوروبية التي تتمسك بدور الدول الأساسي على هذا الصعيد، حيث تصرّ تلك النظرية على وجوب عدم تخلي الدول عن سيادتها أمام سيادة استخدام الإنترنت، أو سيادة الشبكات. وبخلاف النظرية الأمريكية، يرى الأوروبيون أن على الدول ذات الأنظمة السياسية الديمقراطية بالفعل، الاستمرار في لعب دورها كمرشحة أولى لجهة حقها بالتدخل.

ويعتبر أنصار هذه النظرية أن شبكة الإنترنت ليست في الواقع سوى انعكاس للمجتمعات الحاضرة؛ فهي ليست  بالأفضل ولا بالأسوأ، والاختلافات الثقافية والدينية والمجتمعية والتاريخية بين الدول الموصولة بالإنترنت سوف تبقى قائمة، وأنه يجب أن لا تقبل الدول اعتماد قواعد غير متوافقة مع قيمها الثقافية والأخلاقية والتاريخية، علاوة على أن هذا التنوع والاختلاف هو مصدر غنى يجب المحافظة عليه, وإهداره والتنكر له أمر غير مستحب ومرفوض. لكن في ظل غياب السلطة الكونية أو العالمية للدول، فإنه من الأفضل أن يكون تدخلها موصوفاً بالاتزان والرزانة، وأن تسترشد عند وضع قوانينها الوطنية ببعض المبادئ الأساسية، التي يقول عنها الفقيه الفرنسي Viant إنها تضمن: (من وجهة نظر التنظيم "الماكرو القانوني" تفادي قدر الإمكان ما يسميه علم الاجتماع القانوني بـ(المفعول المقدوني)، وميل المشرّع إلى استخراج قاعدة عامة من حالة استثنائية أو طارئة، والتعويض قدر المستطاع بسلوك التعاون الدولي. فإذا كان لابد على الدول من واجب التدخل إما من أجل تطبيق القوانين القائمة، وإما من أجل تعديلها، أو حتى ابتكار قواعد جديدة، فإن تدخلها يجب أن يوصف بالتدخل المتزن المتبصر والحكيم، واحترام المنطق في مقدمة أولوياتها، عبر فرز المسائل وتفضيل بعضها بالنسبة للبعض الآخر. وهنا، ربما يكون من المفيد إحياء القاعدة القانونية القديمة التي تقول: (أن القاضي لا يجب أن يكترث لما هو تافه وسخيف).

إزاء هذا النقاش الذي يدور منذ ولادة الإنترنت، نسأل عن دور سورية فيه، والعالم العربي من ورائها، وكي لا تقود حرارة هذا الجدل حيال الإنترنت، خصوصاً خارج الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، إلى بقاء شعوب بكاملها خارج المسرح تتفرج على العرض ليس من مقاعد المتفرجين، بل من كواليس العرض؛ فلا دور يسند لهم غير الدور الذي اعتادوا على الاضطلاع به منذ زمن، والذي يراد لهم بقوة المراوحة فيه دون غيره من الأدوار الحضارية. ونعني به دور المستهلك فحسب، وهو ما اختاره غيرهم لهم وعنهم في مواقع السلطة العالمية.

لذلك لابد من أن نبدأ وبسرعة من زاوية وطنية، فندرس في مرحلة أولى الواقع المعلوماتي السوري أولاً بعمق ونحدد الأهداف المرجوّة بدقة بغية التوصل إلى رسم سياسة معلوماتية واضحة تعكس القيمة والدور الحضاري لسورية وموقعها في الثورة المعلوماتية والإنترنت، وسبل مواكبتها ومواجهتها في الوقت ذاته وعلى كافة الأصعدة. وفي هذا المجال لابد من الاستئناس بالوقوف عند النظرية الأوروبية، ولكن من دون إغفال أهمية التنظيم الذاتي واحترام حرية الأفراد في إنتاج قواعد سلوكية ركيزتها الأساسية التهذيب والأخلاق والاحترام المتبادل, وجوهرها الاعتزاز بالهوية الوطنية, وحصنها المنيع احترام سيادة الدولة, فيتحقق التوازن بين احترام حرية الفرد وحقه في التعبير، دون التخلي عن سيادة الدولة وحقها في تطبيق قوانينها الوطنية الخاصة بها.

وفي المرحلة الثانية أن نسعى إلى اعتماد قواعد وحلول تنظيمية متطورة، تراعي خصوصية الإنترنت وطبيعتها العابرة للحدود، وتكون تلك  التشريعات اللبنة الأولى في البيئة التشريعية المشتركة الخاصة مع الدول الأخرى. والسبب هو إنعدام فاعلية التفرد في هذا المجال، ولمواجهة التحالفات العالمية الكبرى وما تحمله من مفاهيم جديدة؛ مثل العولمة، والنظام العالمي الجديد، والفوضى الخلاقة، والربيع العربي، وغيرها من المصطلحات المتداولة، والتي في حقيقتها هي أساليب استعمارية تم التخلي فيها عن القوة العسكرية المباشرة في بعض الأحيان، وارتدت قناع الديمقراطية والحرية في أحيان أخرى. وهذا ما يسمى بحروب الجيل الرابع أو الحرب بالوكالة أو الحروب الإعلامية الافتراضية, الغاية والهدف منها واحد، وهو السيطرة على البشرية ومقدراتها. وهذا ما عبر عنه صراحة ايرفينغ كريستول بالقول: (إن العالم الذي تلفّه الكوابل موضوع في (شبكة) - بمعنى الشرك- تحكمه مجموعة قوى وتكتلات تهيمن على الشبكات الإلكترونية العالمية طيلة الأعوام المائة المقبلة).

وهي أمنية أن تقوم سورية بدورها المساهم في وضع القوانين الخاصة بالانترنيت وتنقل رسالتها الحضارية من خلال هذه المساهمة في الجهود الدولية لوضع قانون مشترك يعكس دورها في اختراع الأبجدية الأولى، نرجو من القائمين على الشأن المعلوماتي الأخذ بها بغية النهوض بالواقع الحالي والقيام بما هو مؤمل من سورية وشعبها ويتناسب وتاريخها ومستقبلها ودورها  الإنساني والحضاري.

ولئن كان الأمل مفقوداً في ولادة قانون دولي فعلي، أو قيام معاهدة دولية كبرى في الوقت الراهن، فإن استمرار الدول في تطبيق تشريعاتها الوطنية على اختلاف مصادرها ومذاهبها القانونية لم يحقق الفعالية المطلوبة في تنظيم الشبكة بشكل مرضي مما أورثها صفة التوجه الأحادي بدل السعي للتنظيم المتعدد المصادر الذي تستلزمه  شبكة الانترنت.

وفي ظل هذا الواقع، فإن التنظيم الأمثل لشبكة الإنترنت يتمثل راهناً في استخدام مختلف الأدوات التنظيمية القائمة ـ التقليدية والمبتكرة ـ أو تلك التي يمكن ابتداعها مستقبلاً لهذه الغاية وفي السعي إلى الجمع بينها ضمن حدود السياسة المعلوماتية المرسومة لدى كل دولة وعدم الاستسلام لفكرة "أمركة" القوانين العالمية.


 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.