تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

القاضي الافتراضي (التحكيم الإلكتروني):

مصدر الصورة
SNS


معدودة تبقى الوسائل التي اخترعها الإنسان بهدف تلبية حاجة ملحة لديه لتطوير نمط عيشه وزيادة رقعة نفوذه على الحياة والطبيعة, والتي تحولت في وقت قصير نسبياً ليس أداة يضعها في خدمته فحسب, بل إلى عامل حسم يحدد نمط عيشه بالذات ووجهة نموه. ألم تكن الحال هذه مثلاً مع الهاتف والتلفزيون والمعلوماتية حيث الحلم والخيال أنتجا حقيقة تاريخية بمعنى الكلمة! وهذه الحقيقة أعطت مصداقية للحلم والخيال, فشحذتهما على قاعدة تناقضات جديدة وأسئلة مصيرية لا بل قدرية جديدة. 

وهاهو العالم اليوم مع شبكة الانترنت, إزاء حقيقة تاريخية جديدة حُبلى باحتمالات تاريخية تبدو أكثر غنى وتعقيدا من سابقاتها بكثير. ولئن كانت تتصل بالأخريات اللواتي سبقتها برباط الرحم التكنولوجي ذاته, لكن من الواضح أنها استوعبتهن جميعاً، بل إنها فوق ذلك تفوقهن بما لا يقاس من حيث قدراتها الخارقة على أن تلعب دورين في الوقت ذاته، لم يكونا يوماً مترابطين بهذا القدر قبل (الانترنت)، دور الأداة أو الوسيلة من جهة, ودور ترسيم جغرافيا جديدة للأرض وساكنيها، وربما للكون بكليته ـ من يدري ـ من جهة أخرى. وهو ما ساهم في اختراق كوكبة مهيمنة من المفاهيم والأفكار العلمية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية، والى تفجير ـ أو على الأقل في المدى المنظورـ زعزعة عادات وتقاليد ونظم سائدة.

وهذا التطور المتسارع لشبكة الانترنت هو برأي البعض في طريقه لأن يُحدث تحولًا مجتمعياً سوف يطبع القرن الحادي والعشرين، ويمكن مقارنته بالتحول الذي أحدثته الثورة الصناعية في العالم، أو ثورة سكك الحديد أو ثورة الكهرباء. ويذهب البعض الآخر إلى حد المبالغة بالقول إنها ثورة أكثر عمقاً ويمكن مقارنة ما أحدثته من تطور بما حدث عند اكتشاف "العملة" الكتابية, أو اختراع المطبعة, أو حتى ظهور أحرف الأبجدية... فقد صممت لكي تكون وسيلة نقل معلومات على نطاق محدود، لكنها تحولت وفي وقت قصير إلى فضاء جديد لتبادل المعلومات بكافة أشكالها على النطاق الكوني. وفي الوقت ذاته تحولت إلى سوق عالمية باهرة لإتمام المعاملات والصفقات ذات الطابع التجاري والى أداة فعالة في تسويق السلع والخدمات والترويج لها.

        وفي موازاة هذا التحول, سرعان ما نمت الحاجة إلى إيجاد الوسائل القانونية والتقنية التي تضمن أمن التبادل والمتبادلين على حد سواء في هذه الشبكة العالمية المشرَّعة, وتقي من الاعتداءات المحتملة على الحقوق فيها. وهذا ما يقتضي بالضرورة البحث عن الآليات التي تساعد في حل النزاعات التي تنشأ من جراء استخدام الإنترنت. وقد اعتبر أحدهم أن الملايين من البشر عبر العالم يتصلون فيما بينهم ويقومون بأشغال وأعمال عبر الشبكات المعلوماتية، فلا مجال بالتالي لتفادي وقوع النزاعات التي يتعين تصور أشكال جديدة لحلها، وتوفير حلول سريعة لها تتناسب مع طبيعة الشبكات المعلوماتية الدولية التي تأبى الخضوع  للقواعد التقليدية وتتجنب بطئ إجراءات المحاكم الغارقة في الاختناق ومحدوديتها...

انطلاقاً من هذا الواقع اتجه التفكير إلى الاستفادة من الإمكانات التي تتيحها الشبكة في تسوية منازعاتها باستخدام نفس التقنية لتكون التسوية أيضاً إلكترونية، فتتم إجراءاتها عبر الشبكة (ON Line) دون حاجة لتواجد أطراف العملية التحكيمية في مكان واحد، مما يسمح بحسمها سريعاً وبأقل النفقات, مع مراعاة الضمانات الأساسية للتقاضي، خصوصاً حقوق الدفاع وتسبيب قرارات التسوية. وإذ تحتاج التجارة الإلكترونية إلى نماذج جديدة لتسوية منازعاتها، فإن نطاق عملها لابد وأن يتجاوز الحدود الجغرافية للدول مما يجعل قواعد وإجراءات الاتفاقيات الدولية المتعلقة بتسوية المنازعات التقليدية غير متلائمة مع طبيعة التجارة الإلكترونية، وبالتالي تحتاج إلى مراجعة وتعديل لمواكبة هذه الأنماط من السلوكيات الاقتصادية الجديدة.

ولما كان تطوير مثل هذه الاتفاقيات يحتاج إلى وقت طويل ويخضع لإجراءات معقدة فقد بادر أصحاب الشأن من المعنيين بشؤون التجارة الإلكترونية إلى وضع تنظيمات ذاتية تحكم تسوية منازعاتها ومنهم على سبيل المثال (الجمعية التحكيمية الأمريكية American Association Arbitration ) التي أعدت مشروعاً للتحكيم المباشر عبر شبكة الانترنت، وصِف بأنه طليعي وسُميَ مشروع القاضي الافتراضي (irtual Magistrate Project V .M.P). وقد أصدرت أول حكم افتراضي لها في 8 أيار 1996. وقد انخرطت المنظمة العالمية للملكية الفكرية في هذا الاتجاه حيث وضعت نظاماً لتسوية منازعات أسماء الحقول (الدومين) عبر شبكة الحواسيب الآلية. على أن أهم التنظيمات الذاتية لتسوية المنازعات الكترونياً نجده في نظام المحكمة الفضائية (Cybar Tribunal) التي بدأت إرهاصاته الأولى بالمشروع التجريبي الذي طرحه مركز أبحاث القانون العام بكلية الحقوق جامعة مونتريال بكندا، وأعلن رسمياً عام 1998، ويتجه إلى تقديم خدمات الوساطة والتحكيم عبر قنوات ووسائط إلكترونية.

ووفقاً لهذا النظام تجري الإجراءات بالطرق الإلكترونية على الموقع الشبكي للمحكمة بداية من ملء نموذج إلكتروني لطلب التسوية ومروراً بالإجراءات التي تُفرغ في أشكال إلكترونية وانتهاءاً بإصدار الحكم، ومن ثم قيده على الموقع الشبكي للقضية. وتدور إجراءات المحاكمة عبر الشبكة بواسطة البريد الإلكتروني عبر ملء نموذج متوفر في موقع هذه المحكمة الافتراضية على الشبكة وعلى القضاة المعينين أن يعطوا أحكامهم مبدئياً خلال مهلة 72 ساعة بعد قبول العريضة أو الشكوى. وقضاة هذه المحكمة غير مقيدين بتطبيق قانون محدد. ويستهدف نظام المحكمة الفضائية, الذي طورته هيئات غير حكومية، وضع قواعد سلوك تستجيب لطبيعة التجارة الإلكترونية وتكفل سلامة بياناتها من ناحية, وتسوية منازعاتها بموجب نظام يكفل مصداقية الإجراءات الالكترونية، وينضم إليه أطراف ويتحقق الارتباط به بموجب إطار تعاقدي من  ناحية أخرى. وبثاً للثقة في النظام، تصدر المحكمة الفضائية شهادات مصادقة على المواقع الشبكية التي تستوفي الشروط المطلوبة، وهي شهادات تفيد التزام أصحاب المواقع أو مديروها بتسوية منازعاتهم مع المتعاملين معهم وفقاً للائحة إجراءات المحكمة. ويرتبط منح هذه الشهادة بالالتزام بقواعد سلوك تتضمن المبادئ التي يتوجب احترامها من قبل المتعاملين على المواقع الشبكية المطلوب إصدار شهادة تصديق عليها.

وعلى عكس الوساطة الالكترونية, فإن نظام المحكمة الفضائية ترك لأطرافها حرية وضع إجراءاتها. وهذا النظام وضع قواعد إجراءات التحكيم الإلكتروني, وهي قواعد استُمدت أساساً من القانون النموذجي للاونسترال بشأن التحكيم التجاري الدولي لعام 1985، وقواعد التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية, مع إدخال تعديلات عليها مما تقتضيه طبيعة القنوات الإلكترونية التي يجري من خلالها التحكيم. غير أن سريان إجراءات التحكيم بموجب نظام المحكمة الفضائية سوف يصادفه تحدٍّ صعب رغم قبول أطراف النزاع تطبيقه, إذ أن النظام المذكور يعتمد في تشغيله على أدوات سواء فيما يتعلق بالكتابة أو التوقيع أو نقل المستندات أو اصدر الحكم،  تختلف عن تلك التي تقوم عليها قواعد التحكيم التقليدية.

من هنا، ثمة احتمال أن يواجه الاعتراف بالحكم وتنفيذه في الدول التي لم تعتمد نظام المحكمة  صعوبات كثيرة, ذلك أن محاكم الدول عادة لا تطبق إلا قوانينها والاتفاقيات الدولية الملزمة لدولها, وهي غير ملزمة بإنفاذ أحكام التحكيم التي تصدر بناء على اتفاقات خاصة بين أطراف النزاع أو بناءً على أنظمة انضموا إليها، إذا لم تستوف هذه الاتفاقات أو الأنظمة الأشكال المنصوص عليها في المرجعية الملزمة لمحاكم هذه الدول. من هنا جاءت الدعوة إزاء انتشار تقنيات معلومات الاتصال في انجاز المبادلات التجارية, إلى توسيع المرجعية الملزمة لمحاكم الدول بحيث تغطي هذه المرجعية عمليات التحكيم وغيرها من أساليب التسوية التي تتخذ إجراءاتها عبر شبكة الانترنت. وقد أعطت أجهزة الاتحاد الأوربي الضوء الأخضر للدول الأعضاء لتطوير تشريعاتها في اتجاه اعتماد آليات تسوية المنازعات من خلال القنوات الإلكترونية خارج المحاكم، وبالتالي كفالة أدائها لمهامها على نحو ايجابي وفعال سواء على صعيد القانون، أو على المستوى العالمي، وهو الاتجاه الذي تبنته بعض المنظمات المعنية بشؤون التحكيم مثل الاونسترال ومجمع لندن المعتمد للمحكمين.

وقد  تضمنت قائمة الملاحظات التي أصدرتها الاونسترال بشأن تنظيم إجراءات التحكيم 1996 توصيات باستخدام القنوات الإلكترونية في نقل المستندات وتبادلها وحجيتها في الإثبات. كما اعتمد مجمع لندن المعتمد للمحكمين بروتوكول استخدام تقنيات المعلومات في إدارة عملية التحكيم بموجب اتفاق المحكمين وأطراف النزاع. ويهدف البروتوكول ضبط مناهج استخدام تقنيات المعلومات في تبادل المستندات وغيرها من المعلومات بين أطراف النزاع، وذلك بموجب قواعد يمكن إدخال تعديلات عليها باتفاق المحكمين وأطراف النزاع، وبما يلائم احتياجات العملية التحكيمية.  لكن فكرة القاضي الافتراضي هذه لا تحظى بالإجماع؛  فالبعض يرى هذه الفكرة سابقة لأوانها وتعكس رؤية حالمة في الانترنت، ويتساءل عن صدى آراء هذا الأخير وفعالية أحكامه المجردة من أية قوة تنفيذية. فإذا لم تتكون هيئات تحكيمية ذات فعالية بالمعنى القانوني، فلا يمكن أن تحظى قرارات القاضي الافتراضي بالصيغة التنفيذية، أو أن تُنفذ، إلا بصورة إرادية أو طوعية. لكن في المقابل يجد البعض أنه إذا تبين جدوى هذه التجارب لاحقاً، فإن محاكم وهيئات تحكيمية فعلية مرشحة للظهور مباشرة عبر الشبكة، تكون قادرة على مراعاة الفوارق والحساسيات بين الدول.

وباعتقادنا أن المشرّع  السوري كان موفقاً بما ذهب إليه في القانون رقم/3/ لعام 2014 الناظم  للمعاملات الالكترونية لجهة الاعتراف القانوني بالنشاط التجاري أو المدني أو الإداري الذي يتم عبر شبكة الانترنت من جهة, ومن جهة أخرى، الاعتراف بحجية الأدلة المستخرجة من الحاسب والنص في المادتين الثانية والثالثة منه على اعتبار الكتابة الالكترونية والأدلة الناتجة عنها متى كان الغير قادراً على استخراج تلك المعلومات وتخزينها والرجوع إليها، متفقاً مع مقتضيات القانون ومقبولة في الاثبات. وهو بذلك يكون قد فتح الباب واسعاً أمام هذا النوع من العمليات الالكترونية، لا سيما وأن قانون التحكيم رقم/4/ لعام 2008  في المادة الأولى منه عرّف التحكيم بأنه: (أسلوب اتفاقي قانوني لحل النزاع بدلاً من القضاء سواء أكانت الجهة التي ستتولى إجراءات التحكيم بمقتضى اتفاق الطرفين منظمة أو مركز دائم، أم لم تكن كذلك).

وفي ضوء ذلك، وبالعودة إلى قانون التحكيم السوري، نجد أنه فتح الباب واسعاً أمام الاعتراف بهذا الشكل الجديد من التحكيم الإلكتروني لحل النزاعات وليس فيه ما يحول دون إكساء الأحكام الصادرة وفق هذا الأسلوب الجديد من التحكيم صيغة النفاذ، وذلك عملاً بالمادة/53/  منه،  وبدلالة المواد( 4ـ 5ـ 22 ـ 23 ) التي كرّست حرية الأطراف في اختيار شكل التحكيم والمحكمين ومنحت حكمهم حجية الأمر المقضي به عند طلب اكساء الحكم صيغة التنفيذ شرط عدم مخالفة محتوى التحكيم لقواعد النظام العام والآداب في سورية.

وإن كان هذا الانفتاح من قبل المشرّع لن ينفي أن ثمة صعوبات سوف تعترض هذا الأسلوب في الحسم الفوري للنزاع، وذلك فيما يخص الإجراءات المتعلقة بالحضور الشخصي  لأطراف النزاع، أو وكلائهم، وربما الشهود، والخبراء، أمام هيئة التحكيم في بعض الحالات، وغيرها من المسائل ذات الصلة، غير أن حسن الصياغة القانونية لهذه التشريعات يساعد على نحو ايجابي في تلافي الكثير من المشكلات التي تثور عند التطبيق العملي، خاصة وأنها اعتبرت الشكل الكتابي متحققاً في تبادل البيانات الكترونياً عبر شبكة الإنترنت، ولم تشترط شكلاً معيناً لتنظيم إجراءات التحكيم وقبول المستندات المرسلة بوسائل الاتصال الحديثة خلال مدة التحكيم، فأجاز تبادل المستندات في شكل إلكتروني.

ولا شك أن هذا النهج من قبل المشرّع سوف يكون له مردود ايجابي في مساندة التعاقد عبر الإنترنت، وبالتالي ازدهار التجارة الإلكترونية، كون التحكيم في مجال التجارة الإلكترونية ينبغي أن يعدّ وسيلة طبيعية لحل النزاعات؛ فليس مستحيلاً إذاً أن تبصر النور أنظمة تحكيم دولية متوافقة مع الشبكة المعلوماتية. وعليه، نعتقد أن جميع قوى الوساطة مفيدة ومجدية.

             

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.