تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

القانون الواجب التطبيق على الفعل الالكتروني غير المشروع:


    في ظل المرسوم التشريعي17لعام2012(قانون تنظيم التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية)

إن  ظهور الإنترنت وما صاحبه من تكنولوجيا حديثة أدى إلى تغير في الكثير من المفاهيم والقيم التي كانت سائدة في العالم من قبل, والتي تعدّ من المسلّمات في ذلك الوقت. وتجربة الإنترنت أظهرت من الخوف بقدر ما أظهرت من الإعجاب. وكان الخوف قادماً من أن الإنترنت ليس له حدود, ولا قيادة قانونية. بعبارة أخرى ليس له شخصية قانونية معنوية, أو بناء إداري يمثله في مواجهة المستعملين له، أو في مواجهة الغير. وقد رأى البعض في الإنترنت غابة لا يحكمها قانون. وأمام هذا الواقع يجب الاعتراف أننا سنبحث في  ظاهرة إجرامية ذات طبيعة خاصة تتعلق بالقانون الجنائي المعلوماتي. فالجريمة هنا متصلة بالإنترنت؛ هذه التقنية المِعتمدة على المعالجة الإلكترونية للمعلومات والبيانات, وذلك حسب المرسوم التشريعي رقم/17/ لعام 2012 الناظم لعملية التواصل على الشبكة ومكافحة الجريمة المعلوماتية الذي عرف الجريمة المعلوماتية في المادة الأولى منه بأنها:

(جريمة ترتكب باستخدام الأجهزة الحاسوبية أو الشبكة أو تقع على المنظومات المعلوماتية أو الشبكة).

وبما أن المشرّع قد نص في هذا المرسوم على بعض الأفعال واعتبرها جرائم تخضع للقوانين الجزائية السورية، وبالنظر إلى بُعدها الدولي المتجاوز للحدود الجغرافية، فإنها تدخل بالضرورة ضمن نطاق القانون الجزائي الدولي. وهو ما لم يتطرق إليه المشرّع بشكل واضح وصريح في الفصل الخامس من هذا المرسوم في المادة/33/  فقرة/ أ /،  حيث ورد النص على النحو التالي:

(يطبق على الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون الأحكام المتعلقة بالصلاحيات الإقليمية والذاتية والشخصية والشاملة المنصوص عليها في قانون العقوبات).

لذلك فإن  تطبيق هذه المبادئ على الأفعال التي تتم عبر  شبكة الإنترنت تقتضي منا العودة إلى قواعد القانون الجزائي الدولي، وذلك بالنظر إلى الطبيعة الخاصة والمتميزة لهذه الشبكة. ولكن في الوقت نفسه، فإن هذا التطبيق يصطدم بصعوبات عملية وبمعوقات قانونية من شأنها أن تؤدي إلى أوضاع مربكة وأن تصبح تشريعات وأنظمة قانونية مختلفة كلها محتملة التطبيق. ويغدو الأمر أكثر تعقيداً إذا عرفنا أنه عند إدراج المعلومات في شبكة الإنترنت، من الممكن تقنياً الوصول إليها ومعاينتها من أي موقع في أي دولة موصولة بها حول العالم. وهذا سوف يؤدي من زاوية مبدأ المكانية في تطبيق القوانين (نظرياً على الأقل) إلى تطبيق تراكمي لجميع تشريعات الدول الموصولة بشبكة الإنترنت دفعة واحدة. وهو ما يسميه أحد الفقهاء الفرنسيين بتعددية "التمركز الجغرافي" للمعلومات في شبكة الإنترنت، التي تكتسب هي الأخرى وصف "الوجودية" في كل مكان فتؤدي إلى تعددية مفرطة في الارتباطات تنتج بفعل التنازع الايجابي بين القوانين. 

   إن تطبيق هذه القواعد لا يثير صعوبات تذكر إذا كانت الواقعة قد تمت في دولة واحدة، وهو ما يسمى (التمركز البسيط)، كأن تكون المعلومات الضارة أو غير المشروعة الموضوعة على شبكة الإنترنت وضعها سوريون وتطال أشخاص سوريين أو أموالهم، وقد تمت معاينة هذه المعلومات من قبل مستخدمين سوريين للشبكة. لكن المسألة لا تكون على هذا القدر من البساطة إذا كانت عناصر الإسناد المذكورة تحيل إلى دولتين أو أكثر, وهو ما يسمى هنا بعناصر (التمركز المزدوج) أو (المتعدد).  

ومثل هذا الوضع ليس جديداً على أهل القانون, فقد تنبّه واضعو المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري لهذه المسألة وفضلوا تركها للاجتهاد القضائي. وخير مثال على ذلك في الواقع العملي، حوادث التلوث التي تمتد لأكثر من بلد متجاور؛ فبالاستناد إلى قانون محل وقوع الفعل الضار، فإن العادة جرت على إعلان اختصاص قانون دولة مصدر التلوث إذا كانت الدولة المعنية تطبق قاعدة قانون مكان وقوع الفعل المسبب للضرر, أو إعلان اختصاص قانون دولة اتساع رقعة التلوث. كما  يميل بعض الفقه الفرنسي إلى ذلك أو إلى مكان وقوع آخر واقعة قبل حصول النتيجة كما يرى فريق من الفقهاء الأمريكيين.

وفي ذات السياق، انقسم الفقه حول فرضية وقوع الخطأ في دولة وتحقق الضرر في دولة أخرى؛ ثمة من يرى وجوب الأخذ بمكان وقوع الخطأ على أساس أنه يجب مساءلة الفاعل وفق القانون الذي كان بالإمكان معرفته، أو كان من المفروض أن يعلم به عند الإقدام على ارتكاب الفعل. بالمقابل، هناك فريق آخر يدعو إلى وجوب الأخذ بمكان وقوع الضرر وذلك على أساس أنه في هذا المكان تتجسد بصورة ظاهرة عناصر الفعل الضار، وهو الرأي الذي يأخذ به الفقه السوري على اعتبار أنه يحقق التوازن بين حقوق الأفراد والغرض المبتغى من تنظيم المسؤولية.

فالقانون السوري يكون هو الواجب التطبيق حسب المادة /15/ من قانون العقوبات والتي أشارت إليها المادة /33/ من المرسوم التشريعي رقم /17/ لعام2012 على جميع الجرائم المقترفة على الأرض السورية. وتعد الجريمة مقترفة على الأرض السورية إذا تم على هذه الأرض أحد العناصر التي تؤلف الجريمة, أو فعل من أفعال جريمة غير متجزئة, أو فعل اشتراك أصلي أو فرعي, أو إذا حصلت النتيجة على هذه الأرض أو كان متوقعاً حصولها عليها.

وهذه القواعد عند تطبيقها على الأضرار الحاصلة بواسطة شبكة الإنترنت، فإنه ينبغي إما أن نطبق قانون الدولة التي انطلقت منها المعلومات أو الرسائل غير المشروعة, وإما قانون الدولة التي صار فيها تلقي أو استقبال هذه المعلومات. ولكن عند التدقيق في عناصر الربط بين القانون والفعل الضار الذي تم عبر شبكة الإنترنت، حيث الأضرار التي تنتج عن رسالة واحدة قد تمتد رقعتها لتشمل دولاً عدة، مما يعني أن تكون كل قوانين العالم دفعة واحدة صالحة للتطبيق، وهو ما يسميه الفقه بتفجر الاختصاصات في قوانين الدول المتصلة بالواقعة. وهذا سببه التطبيق الضيق لهذه القواعد على شبكة الإنترنت, الأمر الذي يمكن أن يقود من وجهة نظر عملية, نحو أوضاع معقدة يخشى معها أن تكون الحلول التي تقدمها هذه القواعد التقليدية حلولاً ظاهرية, أكثر منها فعلية أو ذات فعالية, بالنسبة إلى هذه المنازعات من جراء استخدام الشبكة.

ولئن كانت الصعوبة التي تطرحها عملية تنظيم شبكة الإنترنت تتصل بالبعد الدولي والعالمي, فمن الخطأ التفكير أنه لا وجود لأجوبة عليها في القانون؛ فالقانون  لم ينتظر الإنترنت للتفكير بما هو دولي أو عالمي، إذ نمتلك عبر القانون الدولي الخاص, وعبر القانون الجزائي الدولي, أدوات فعالة تسمح بالإحاطة بالوضعيات الدولية المتعددة التمركز على المستوى الجغرافي. لكن حتى ولو كانت هذه الأدوات تسهّل إيجاد القانون أو القاضي المختص من أجل مواجهة النزاعات  الدولية في شبكة الإنترنت والفصل بها, فإنها لن توفر أمناً قانونياً بالكامل. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تجاوز النظام التقليدي، وإلى تصور أدوات وآليات قانونية وتنظيمية أخرى بعضها يوضع خصيصاً لفضاء الإنترنت.

        وقد شرع المشرّع السوري في السير بهذا الاتجاه من خلال جملة من التشريعات المتخصصة بالإنترنت والمعلوماتية. لكن الاتجاه الذي ذهب إليه في التعليمات التنفيذية والتوضيحية للمرسوم التشريعي رقم /17/ لعام 2012 والصادرة بالقرار /290/ تاريخ 7/5/2012 عن وزير الاتصالات والتقانة بخصوص المادة /33/ والمتعلقة بالاختصاص القضائي، والمشار إليها فيما سبق, لم يعالج تلك المسائل.

فقد جاء في تفسير المادة المذكورة: (ت1- الغرض من هذه الفقرة توسيع الاختصاص القضائي حسب الصلاحيات الإقليمية والذاتية والشخصية والشاملة المنصوص عليها في قانون العقوبات النافذ (الفصل الثاني من الباب الأول من الكتاب الأول) ويسمح ذلك  بنظر كثير من القضايا المنصوص عليها في القانون أمام القضاء السوري سواء أكانت الأفعال قد ارتكبت داخل أو خارج الأرض السورية من قبل السوريين أو الأجانب).

فالقارئ لهذا النص يلحظ  اهتمام المشرّع السوري بملاحقة الجريمة المعلوماتية في أصقاع العالم أجمع، وأن يساق كل مجرمي الكون إلى المحاكم السورية(؟!) فقط لأن رغبة الجهة واضعة التعليمات التنفيذية أرادت توسيع الصلاحية، وهي تتجاهل أن للدول سيادتها وقضائها وقوانينها وأن سورية من أكثر بلدان العالم احتراماً لسيادة الدول ومؤسساتها، فكان الحري بواضع التعليمات التنفيذية العمل على وضع قواعد أكثر دقة تساعد القاضي في استنباط القواعد والمؤشرات ذات الارتباط الوثيق بين الفعل المعاقب عليه وبين القانون السوري، لاسيما وأن المادة المذكورة قد وردت تحت عنوان الاختصاص القضائي وليس البحث عن توسيع الصلاحيات. فالقاضي يعرف حدود صلاحياته ويحترمها، ولكن السؤال الأهم هو متى يكون القانون السوري هو الواجب التطبيق؟! إذ يُفترض بواضع التعليمات التنفيذية ـ وهي الجهة المعنية بقطاع الاتصالات والمعلوماتية عند الحديث عن الاختصاص القضائي ـ وضع خارطة الطريق للاستدلال والاستعانة بها عند النظر في النزاعات الناشئة عن استخدام الشبكة المعلوماتية.  ولكن للأسف لم يقم بذلك، وكان كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء.

وحبذا لو أخذ المشرّع بالصياغة القانونية الواردة في المادة /21/ من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة على أنه:

(يسري هذا القانون على كل من وجد في الدولة بعد أن ارتكب في الخارج بوصفه فاعلاً أو شريكاً في جريمة تخريب أو تعطيل وسائل الاتصال الدولية أو جرائم الاتجار في المخدرات أو في النساء أو الصغار أو الرقيق أو جرائم القرصنة أو الإرهاب الدولي).

ويكون بذلك أكثر انسجاماً مع نص المادة /23/ من قانون العقوبات السوري التي تنص:

(يطبق القانون السوري على كل أجنبي مقيم على الأرض السورية أقدم في الخارج سواء أكان فاعلاً أو محرضاً أو متدخلاً, على ارتكاب جناية أو جنحة غير منصوص عليها في المواد /19/ و/20/ و/21/ إذا لم يكن استرداده قد طلب أو قبل).

وعندها يكون المشرّع قد أحسن الأخذ بفكرة عالمية قانون العقوبات وتطبيق فكرة التضامن الدولي لمكافحة الإجرام والإرهاب الدوليين تجنباً لإفلات المجرمين من العقاب, وحمى مصالح رئيسية تهم شريحة كبيرة من الناس في عدة دول، يشكّل الاعتداء عليها اعتداء على عدة أشخاص في دول مختلفة, ومنها وسائل الاتصال الدولية.      

   من هنا كانت الحاجة إلى الدعوة لإيجاد قواعد جديدة تراعي الطبيعة الخاصة للشبكات المعلوماتية الدولية بشكل دقيق من أجل  تطبيقها كحلول مستقبلية على هذا النوع من النزاعات ذات الطابع الدولي.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.