تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الإطار القانوني للمعاملات الالكترونية (4)


القانون الواجب التطبيق على العقد الالكتروني في ظل القانون رقم (3) للعام 2014

في ظل شيوع استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات في انجاز الأعمال القانونية وإبرام العقود (وتنفيذها أحياناً), لابد أن يتجه التفكير إلى تسوية منازعاتها بذات الوسائل، ويجد هذا المنطق أساسه في أن طبيعة شبكات الاتصال الإلكترونية التي يجري من خلالها التعامل، والتي تتجاوز الحدود الجغرافية للدول، تأبى الخضوع الكامل للتعامل بالقواعد التقليدية سواء فيما يتعلق بتكوينها أو فيما يتصل بتسوية منازعاتها. فالطابع العالمي لشبكة الإنترنت التي يجري عبرها التعامل, يجعل تركيزه في مكان محدد أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً بالنظر إلى غياب التنظيم التشريعي العالمي الموحد لشبكة الإنترنت. وبالرغم من الجهود المبذولة في هذا المجال من قبل الأمم المتحدة التي عملت على إعداد نماذج تشريعية استرشادية تسهم في توحيد القواعد القانونية لدى الدول الراغبة في إصدار تشريعات بهذا الخصوص، وهو ما يعرف بقانون "الأونسترال النموذجي"،  فإن غياب الصفة الإلزامية لهذه القواعد تقتضي منا العودة إلى القواعد التقليدية في القانون الوطني الذي ينظم هذه التعاملات والمعروفة بقواعد القانون الدولي الخاص والتي أشار إليها القانون رقم/3/ لعام 2014  في المادة/11/ منه:

(ما لم يوجد اتفاق بين أطراف العقد الإلكتروني على القانون الواجب التطبيق، يطبق على القانون الواجب التطبيق قواعد القانون الدولي الخاص المنصوص عليه في القانون المدني)  والمادة/20/ من القانون المدني والتي تنص:

(يسري على الالتزامات التعاقدية, قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً, فإن اختلفا موطناً سرى قانون الدولة التي تم فيها العقد. هذا ما لم يتفق المتعاقدان أو يتبيّن من الظروف أن قانون آخر هو الذي يراد تطبيقه).   

ومن الملاحظ أن المشرّع السوري قد ترك للمتعاقدين حرية اختيار القانون الواجب تطبيقه على عقدهما، غير أنه لجأ إلى قوانين أخرى في حال تخلّف الإرادة، مما يحملنا على التساؤل عن كيفية إعمال هذه القوانين عندما تكون واجبة التطبيق. وأكثر ما يثير الانتباه في هذه المواد أن المشرّع ربط بين قانون الإرادة وبين الالتزامات العقدية. فهل يعني ذلك أن الالتزامات العقدية الناشئة عن العقد وتعتبر من آثاره، تخضع وحدها لقانون الإرادة دون بقية الجوانب الموضوعية الأخرى في العقد؟

إن القاعدة التي اختارها المشرّع في هذا النطاق من التعامل الالكتروني هي أن إرادة المتعاقدين هي التي تختار القانون الواجب التطبيق على العقد، وهي ما تعرف بسلطان الإرادة في العقود الدولية؛ أي القانون الذي اتفق عليه المتعاقدان بصورة صريحة، كأن يذكر في العقد عبارة (يسري أو يخضع هذا العقد للقانون السوري أو الفرنسي أو الألماني...الخ). وتقوم هذه القاعدة على أساس احترام مبدأ سلطان الإرادة لا في إطار القانون الداخلي فحسب، وإنما في إطار علاقات الأفراد المشتملة على عنصر أجنبي التي تخضع لقواعد القانون الدولي الخاص. لأن الإرادة قادرة على خلق التزامات والتقيد بها في إطار التعامل الوطني أو خارجه. لذلك لابد من حماية هذه الإرادة بموجب القانون, أي عن طريق قواعد الإسناد بتمكين الأفراد من اختيار القانون الذي يحكم علاقاتهم التعاقدية, سواء من حيث شروط الانعقاد أو الآثار, طالما أن ذلك يحقق مصالحهم ولا يؤدي إلى الإضرار بالغير أو بسيادة الدولة. 

        لكن تطبيق هذه القاعدة على العقود المبرمة عبر الإنترنت ليس سهلاً؛ فهي تَنشأ وتُنفذ عن بعد بين متعاقدين متمركزين في دولتين في ظل غياب الحضور المادي للمتعاقدين. وعند غياب الإرادة الصريحة في اختيار القانون يجب على القاضي أن يتحرى عن القانون الواجب التطبيق على هذا العقد انطلاقاً من جملة مؤشرات وظروف تدل على نية الأطراف وإرادتهم في هذا الشأن.

        وفيما يختص بشكل العقد، فإن القانون الدولي الخاص غالباً ما يأخذ بقانون محل الإبرام مادة/21/ ق- م سوري وهذا الاتجاه مؤيد بالمادة/9/ من اتفاقية روما حول تعيين القانون الواجب التطبيق بشأن الالتزامات التعاقدية الصادرة بتاريخ 19/6/1980، لكن شكل العقد لا يطرح إشكاليات كبرى في مجال الإنترنت، لأن جميع العقود الخاضعة إلى أشكال خاصة (كعقد الزواج أو الوصية أو الهبة أو عقد البيع العقاري... الخ) ليست شائعة الاستعمال في هذه الشبكة، في حين أن العقود الشائعة في الحياة المدنية والتجارية البسيطة ـ لاسيما وأن أغلب الدول تقر بمبدأ أن العقود ـ  تنشأ بمجرد تبادل الرضا دون وجوب مراعاة أية شكليات أخرى.

        أما فيما يخص موضوع العقد، فإنه عند غياب الإرادة الصريحة أو الضمنية للمتعاقدين في اختيار القانون الواجب التطبيق، يجب على القاضي وبحسب المادة /20/ ق- م،  وبحسب اتفاقية روما المشار إليها أعلاه، اعتماد  القانون الأكثر صلة بالعقد، والذي غالباً ما يحيل إلى اختصاص قانون مكان إقامة المتعاقد الملزم بتقديم العمل الأساسي بالعقد. بمعنى أن القانون الذي يرجَّح لحكم العقد الجاري في إطار شبكة الإنترنت, يكون عنوان إقامة التاجر المتمركز على الشبكة. وعلى القاضي أن يتحرى عن القانون الذي يجب أن يحكم علاقات المتعاقدين تبعاً لاقتصاد العقد، ولظروف القضية.

وفي هذا المجال يعتبر مكان إنشاء العقد أو تنفيذه مؤشرين رئيسين يعتمد عليهما القاضي في تكوين قناعته باتجاه تحديد القانون الواجب التطبيق. ويمكن للقاضي أن يأخذ شكل العقد ولغته كمؤشرين تكميليين عند انعدام وجود المؤشرين الرئيسين أو عدم كفايتهما. وأحياناً تركّز بعض المحاكم على شخصية المتعاقدين أو محل إقامتهم كمؤشرات تنشئ القرائن الدالة على القانون الواجب التطبيق على العقد.

أما محكمة النقض السورية، فقد قررت بشكل واضح وصريح: (أن حل التنازع على القانون الواجب تطبيقه يستتبع التحقق من اتحاد المتعاقدين موطناً أو اختلافه عند صدور الإيجاب والقبول باعتبار أن التشريع المحلي آثر تطبيق قانون الموطن المشترك إذا اتحدا موطناً وانزلهما على حكم قانون الدولة التي تم فيها العقد عند اختلاف الموطن). غير أن تطبيق هذا الاجتهاد القضائي في معرض التعاقد بين غائبين وهو حال المتعاقدين عبر شبكة الإنترنت، يصطدم بمشكلة تعيين مكان إبرام العقد.  وفي مثل هذه الحالة وعند غياب الإرادة الصريحة لابد من العودة إلى القواعد العامة في القانون المدني وقانون المعاملات الإلكترونية لتحديد لحظة انعقاد العقد، وبالتالي تعيين القانون الواجب التطبيق عليه. هذا، مع الإشارة إلى أن تطبيق المعايير والمؤشرات السابقة ممكن بشأن العقود الإلكترونية، التي قد تنشأ وتُنفّذ عن بعد بين متعاقدين متمركزين في دول عدة. إذ من المنظور القانوني والدولي يمكن للعقود الإلكترونية أن تنشأ في دولة وتنفذ في دولة أخرى، وأن يجري الدفع في دولة ثالثة والتسليم في رابعة...      

وفي هذا الإطار، يمكن الجزم عند طرح نزاعات جديدة عبر الشبكة المعلوماتية الدولية, أنّ المحاكم سوف تقوم بجهود أكيدة بهدف ملاءمة المعايير التقليدية للقانون الدولي الخاص مع المتطلبات الجديدة لهذه الشبكات. لكنَّ هذا المسار لن يكون سهلاً وآنياً، لأن الاجتهاد, وبمؤازرة الفقه, سوف يحيك خيوط القضايا المعروضة عليه تدريجياً. وقد تنقضي أعوام عديدة قبل أن يتسنى لرجال القانون الإمساك بقراراتٍ مرجعية في هذا المجال.

ونختم بالقول، إنه في الحالات الكثيرة التي يصار خلالها إلى إعلان المحاكم في دولة معينة اختصاصها للنظر بشأن نزاعات معروضة أمامها ـ وذلك بالاستناد إلى جملة اعتبارات أو أسباب قد يكون لها ما يبررها من وجهة نظر القانون الداخلي لهذه الدولة ـ فإنه تبقى, بالنتيجة, احتمالات أن تواجه الأحكام أو القرارات القضائية الصادرة عنها برفض منحها الصيغة التنفيذية في الخارج, أي في الدولة أو الدول الأجنبية المعنية بها, لا سيما حين تعلن محاكم هذه الأخيرة أنها مختصة بدورها للنظر في النزاعات ذاتها. مع الإشارة إلى أن تطور القانون الدولي الخاص يفترض لزوماً تطوراً في العلاقات والمبادلات الدولية، وهما عاملان يسهلهما بقوة الانترنت.  

القانونية: أمل عبد الهادي مسعود

 

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.