تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الإطار القانوني للمعاملات الالكترونية (3)

(تعيين زمان ومكان العقد  عبر شبكة الانترنت) في ظل القانون رقم (3) للعام 2014

يثير العقد المبرم عبر شبكة الانترنت ذات الإشكالية التقليدية التي تطرحها العقود الجارية بين غائبين أو التي تسمى عقود المسافة حيث يفصل إرسال الإيجاب عن  تلقي القبول فاصل زمني أو مكاني.

لذلك تبرز أهمية تحديد زمان انعقاد العقد بين غائبين ومكانه عند حدوث النزاع بين أطرافه  بشأن ما قد يترتب من حقوق والتزامات, وفي تحديد  اللحظة التي لم يعد بإمكان أي من المتعاقدين العدول عن التعبير الصادر عنه سواء أكان هذا التعبير إيجاباً أو قبولاً، لكون العقد قد صار واقعاً حالاً وباتاً ومبرماً ولم يعد من الجائز العدول عنه أو نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو في الأحوال التي يقرها القانون (م 148 ف1 "قانون مدني" ق- م )، مما يعني حسم التاريخ المولّد لإنتاج الآثار القانونية للعملية التعاقدية. فالشخص قبل إبرام العقد حرّ في الالتزام من عدمه، أما بعد قيام العقد فهو مسؤول عن الشروط الواردة فيه ويصبح ملزماً بالتعويض على الطرف الآخر عند الإخلال بها ( م158 ق- م)، ومؤيداً بالوسائل التي يمنحها القانون له لحماية حقه والتي منها الدعوى البوليصية وحق الاحتباس وحق طلب حجز ما لدى المدين عند الغير،  وإلى الوقاية من التصرفات المضرة بدائني المدين الذي يشهر إفلاسه، والتي تتم خلال فترة الريبة وهي ما بين توقفه عن الدفع  وتاريخ صدور حكم بالإفلاس. فلا تنفذ بحق الدائنين ويكون لأي منهم التنفيذ على الأموال التي خرجت من ذمة المدين بسبب تلك التصرفات.

وهذه الأدوات القانونية لا يستطيع الاستعانة بها أو تفعيلها قبل نشوء العقد وبذلك فإن تعين تاريخ  انعقاد العقد يعتبر الحد الفاصل بين استحقاق الحق أو عدمه، علاوة على أنه يسهم في تحديد القانون الواجب التطبيق من حيث الزمان، لاسيما وأن آثار العقد تبقى خاضعة لأحكام التشريع النافذ وقت انعقاده ما لم يتضمن التشريع الجديد قواعد آمرة أو قواعد تتعلق بالنظام العام، فتكون تلك القواعد واجبة التطبيق بأثر فوري. ومن التجليات القانونية لهذا المبدأ أنه إذا صدر تشريع جديد يتعلق بالأهلية فغدا بموجبه أحد أطراف العقد ناقص الأهلية، فإن هذا التشريع الجديد لا يسري على العقود التي تمت قبل نفاذه. ويبقى العقد منتجاً لكافة مفاعليه القانونية ولا يطبق إلا على العقود التي تبرم في فترة نفاذه. لكن الآثار التي تتم في ظل التشريع الجديد تخضع لأحكامه وهذا ما جاء في المادة/7/ من القانون المدني السوري:

(1-           النصوص المتعلقة بالأهلية تسري على جميع الأشخاص الذين تنطبق عليهم الشروط المقررة قانوناً.

 2- وإذا عاد شخص توافرت فيه الأهلية بحسب نصوص قديمة ناقص الأهلية بحسب نصوص جديدة  فإن ذلك لا يؤثر على تصرفاته السابقة) .

ولابد من الإشارة إلى المشكلات التي تنشأ عن موت أحد المتعاقدين أو نقص أهليته عند التعاقد بين غائبين. فالتعبير يكتسب وجوده المادي بمجرد انفصاله عن صاحبه، إلا أن هذا التعبير لا يصبح منتجاً لآثاره القانونية إلا بعد استلام القبول، ولكن ثمة فرضية هي موت مُصدر التعبير أو فقدان أهليته قبل ذلك، فما هو الحل؟

 يجمع الفقه على أن موت المخاطب قبل وصول التعبير إلى علمه يحول دون أن ينتج التعبير آثاره القانونية، رغم وجوده المادي بصدوره من الموجب، فيسقط التعبير عندئذ لأن سلطة البت به لا تنتقل إلى نائبه القانوني إلا في حالة نقص الأهلية أو فقدها. وهي تختلف عن حالة الموت لأن الموت يعدم الشخصية وينهي أهلية الوجوب فضلاً عن أهلية الأداء ويحول دون أن ينتج التعبير أثره لاستحالة اتصاله بعلم المخاطب. أما في حالة نقص الأهلية أو فقدها فلا أثر لذلك على شخصية المخاطب ويقتصر الأثر على حرمان فاقد الأهلية من القيام بالتصرفات القانونية وانتقال سلطة ذلك إلى نائبه القانوني. أما في حالة الموت فإن الحقوق والالتزامات تنتقل إلى الخلف العام إلا إذا كان لشخص الميت دور في تنفيذ العقد.

ومن الآثار المتفرعة أيضاً عن مسألة تحديد زمان ومكان العقد تلك التي تتعلق بتحديد مُهل بدء التقادم ووقفه وانقطاعه وانقضاءه (م 8  ق- م) وتحديد سريان بعض المواعيد المتعلقة بدعوى الغبن (م 130 ق - م) وتحديد أسباب انقضاء الالتزام كاستحالة التنفيذ لسبب أجنبي (م 160 ق- م) وهذه المسائل جميعها لا تثور عندما يكون المتعاقدين في مجلس عقد واحد عند انفضاض المجلس دون تلاقي الإيجاب والقبول بنفس اللحظة (م 95 ق – م). لكنها تُطرح على مجال البحث عند التعاقد بين غائبين حيث يكون كل طرف في مكان أو دولة ولا يجمعهما مجلس واحد، وإنما يتم تبادل الإرادات عن بعد، وهو ما يعرف بالتعاقد بين الغائبين، أو ما يطلق عليه اصطلاحاً "عقود المسافة". وهذا الوضع عالجه القانون المدني ووضع الحلول له ونظمه في ضوء التقنيات المعروفة وقت صدوره. والسؤال هنا: هل تعد العقود الجارية عبر الإنترنت ضمن هذا النطاق أو تخرج عنه؟ وهل يعد البريد الإلكتروني أو استخدام وسيط ضمن هذا السياق؟

في الحقيقة يجمع الفقه الحديث على اعتبار العقود المبرمة عبر الإنترنت هي صورة من صور التعاقد بين غائبين وذلك بدلالة المادة (93 ق – م) والمادة الأولى من القانون رقم/3/ لعام 2014 .

وفي ضوء هذه النتيجة فإن ما يطرح من إشكاليات قانونية تتعلق بتحديد زمان ومكان انعقاد العقد عبر الإنترنت، هي ذاتها في العقود التقليدية السابقة؛ بمعنى آخر هل ينعقد العقد وقت صدور القبول من المُخاطب حيث يكون الإيجاب قد التقى بقبول المعني به، أم ينعقد في الوقت الذي يعلم فيه كلا المتعاقدين الغائبين بالتقاء إرادتيهما، أي بوصول القبول إلى علم الموجب كما يحدث بمجلس العقد بين حاضرين؟

للإجابة على هذه التساؤلات، فقد برزت عدة نظريات فقهية حاولت أن تحدد لنا زمان انعقاد العقد ومنها:

1- نظرية إعلان القبول: حيث يرى أنصار هذا المذهب أن التعاقد بين غائبين يتم في الزمان والمكان الذي يصدر فيه القبول من المخاطب سواء كان ذلك بتحرير رسالة عادية أو إلكترونية أو برقية أو تلكس. ووفقاً لهذه النظرية فالعقد يبرم بمجرد أن يعبّر القابل عن إرادته بقبول مطابق للإيجاب، ولو لم يقم بإرسال هذا القبول إلى الموجب، وسواء علم به أو لم يعلم. لذلك يرى منتقدو هذه النظرية أن الموجب قد يعدل عن إيجابه ولا يصل هذا العدول إلا بعد قبول المخاطب وانعقاد العقد، وبذلك تهدر إرادة الموجب ويكره على عقد أصبح لا يريده، وهذا من شأنه الإخلال بالتوازن بين إرادة المتعاقدين وفيه تفضيل لإرادة القابل على إرادة الموجب.

2- نظرية إعلان  القبول: لا تختلف هذه النظرية عن سابقتها سوى بإضافة اشتراط تصدير القبول إلى الموجب، بحيث أنه لا يملك أن يسترده، كمن يقوم بالنقر على زر الإرسال في البريد الإلكتروني أو وضع الرسالة في صندوق البريد؛ فالعقد ينعقد بمجرد الإرسال ولو لم يصل هذا القبول نهائياً إلى الموجب، وسواء كان ذلك عائداً لخطئه، أو لأسباب تقنية؛ كأن يقع خطأ من القابل أثناء إدخال العنوان البريدي الخاص بالموجب. وقد أخذ القانون السوري بها في المادة/98/ من القانون المدني حيث نص على أنه: (يعتبر العقد ما بين غائبين قد تم في الزمان والمكان اللذين صدر فيهما القبول, ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك). 

3- نظرية العلم بالقبول: وتقضي هذه النظرية بأنَّ العقد بين غائبين لا ينعقد من حيث الزمان والمكان إلا بعد أن يعلم الموجب بقبول القابل، وبذلك فإن للقابل أن يعدل عن قبوله قبل أن يصل هذا القبول إلى علم الموجب، غير أنه يؤخذ على هذا المذهب أن علم الموجب بالقبول أمر شخصي يتم له منفرداً دون تدخل من القابل، ولن تتوفر للقابل وسيلة لإثبات هذا العلم أو تحديد زمانه أو مكانه، وبذلك يتعذر معرفة زمان ومكان انعقاد العقد.

4- نظرية استلام القبول: وتلتقي مع سابقتها في ضرورة علم الموجب بقبول القابل، إلا أنها تختلف بالاكتفاء بتسلم الموجب القبول كقرينة على علمه به. لذا أطُلق على هذه النظرية "مذهب العلم المفترض". ولا تشترط هذه النظرية تسلم الموجب القبول فعلاً، بل يُكتفى بتسليمه إياه في موطنه أو مركز تجارته؛ بمعنى أن يُكتفى بمجرد وصول الرسالة إلى المخدّم الذي يوجد فيه حساب البريد الإلكتروني للموجب، ولو لم يقم الموجب بتشغيل جهاز حاسوبه وطلب الحصول على البريد الإلكتروني الذي وصله من المخدّم. وقد أخذت اتفاقية فيينا للبيع الدولي للبضائع سنة 1980 في المادة/24/ منها بهذه النظرية، حيث اعتبرت أن الإيجاب والقبول يكون قد بُلّغ للمخاطب عندما يوجه إلى المخاطب به شفوياً أو يسلّم بأية وسيلة أخرى إليه بالذات، أو يسلّم  إلى مكان عمله، أو إلى عنوانه البريدي. فإذا انتفيا، فلمحل إقامته المعتاد. غير أن المادة/23/ من الاتفاقية تعتبر العقد قد تم في المكان والزمان اللذين يصدر فيهما القبول.

وقد أخذ قانون المعاملات الالكترونية السوري رقم/3/ لعام 2014 في المادة/10/ منه بهذه النظرية حيث جاء فيها أنه: (يعد العقد الإلكتروني قد تم في المكان والزمان الذي استُلم فيه القبول ما لم يتفق على غير ذلك). وبهذا فإن قانون المعاملات الإلكترونية قد نحى إلى المذهب الشائع في التشريع التجاري الدولي، مخالفاً بذلك المذهب الذي أخذ به القانون المدني السوري. وهو حسناً قد فعل إذ أنه من غير الممكن لتاجر أن يكون ملزماً بإرسال بضاعة إلى مشتري لمجرد إرساله رسالة إلكترونية يعرض عليه فيها بعضاً من بضائعه، ومن ثم قيام المشتري بالقبول فيما بينه وبين نفسه أو مع زملائه الجالسين معه، ومن دون وصول هذا القبول إلى التاجر، الأمر الذي يجعل النظرية الذي أخذ بها القانون الجديد هي الأصلح للتطبيق وأكثر انسجاماً مع قواعد التجارة الدولية، وتحقق غاية القانون وهدفه في استقرار التعامل وتنظيمه بما يحقق الرضا والعدالة.

 وهنا لابد من الإشارة إلى ما جاء في القانون رقم /3/ لعام 2014 لجهة تحديد زمان ومكان الإرسال في المادتين/ 8 – 9/ منه حيث جاء فيهما:

-          تعد الرسالة الإلكترونية قد أرسلت منذ وقت دخولها إلى نظام معلومات إلكتروني لا يخضع لسيطرة المرسل أو من ينوب عنه.. هذا ما لم يتفق المرسل والمرسل إليه على غير ذلك.

-          إذا كان المرسل إليه قد حدد نظام معلومات إلكترونياً لتسلم الرسائل الإلكترونية فتعد الرسالة قد تم تسلمها منذ وقت دخولها إلى ذلك النظام، فإذا أرسلت الرسالة إلى نظام غير الذي تم تحديده، فيعد وقت تسلمها هو وقت اطلاع المرسل إليه عليها أول مرة.

-          إذا لم يحدد المرسل إليه نظام معلومات إلكترونياً لتسلم الرسائل الإلكترونية فيعدّ وقت تسلم الرسالة هو وقت دخولها لأي نظام معلومات إلكتروني تابع للمرسل إليه، حتى لو لم يطلع المرسل إليه عليها فعلاً.

- تعد الرسالة الإلكترونية قد أرسلت من المكان الذي يقع فيه مقر عمل المرسل وأنها استلمت في المكان الذي يقع فيه مقر عمل المرسل إليه، وإذا لم يكن لأي منهما مقر عمل فالعبرة لمكان إقامته هذا ما لم يتفق المرسل والمرسل إليه على غير ذلك.

- إذا كان للمرسل أو المرسل إليه أكثر من مقر عمل، فيعد المقر الأكثر صلة بالمعاملة هو مكان الإرسال أو التسلم، وعند تعذّر الترجيح يعد مقر العمل الرئيسي هو مكان الإرسال أو التسلم وذلك مع عدم الإخلال بالأحكام الخاصة بالشخص الاعتباري.

وفي ضوء ما تقدم لا مبرر للتفرقة التي نادى بها بعض الفقه من ضرورة التمييز بين الوسائل التقليدية في المراسلة كالهاتف والفاكس والبريد العادي وبين الرسائل الإلكترونية، حيث أن الوقت اللازم لوصول القبول في بعضها شبه آني ومتزامن ولا تختلف الرسائل الإلكترونية عنها، ومثال ذلك تبادل الإيجاب والقبول عبر السكايب.

ومن المفيد الإشارة في هذا المجال إلى ما ورد في الاجتهاد القضائي الفرنسي الصادر عن محكمة التمييز بتاريخ 7- 1- 1981 والقاضي بتكريس مبدأ مفاده؛ عند عدم وجود اتفاق معاكس ينشأ العقد من تاريخ إرسال القبول وليس من تاريخ استلامه، وهو مذهب القضاء السوري. في حين أن القضاء البريطاني استمر بالأخذ بنظرية إرسال القبول في العقود الجارية بواسطة البريد العادي، في حين يأخذ بنظرية العلم الفعلي بشأن وسائل الاتصال الأخرى.

وأخيراً نجد أن تحديد زمان ومكان إنشاء العقود عبر شبكة الإنترنت قد اعتمد على القواعد المطبقة في القانون التقليدي، ولكن تبقى فعالية آلية التعبير عن القبول المستخدم من قبل المعنيين ونوعية الاتصال وموثوقيته وسير المعلومات داخل الشبكة هي الأساس، وإن كان ذلك كله يعتمد على قضية جوهرية وحسّاسة وتتصل بأساس استخدام شبكة الانترنت، وهي مسألة الإثبات؛ أي إثبات توجيه رسالة القبول بالفعل، وتحديد الوقت الدقيق لإرسال الرسالة الإلكترونية المتضمنة لهذا الشكل من أشكال التعبير عن الإرادة. فالصعوبة لم تعد في تحديد الزمان والمكان اللذين نشأ فيهما العقد بل في إثبات أن العقد قد نشأ فعلاً.

ويبقى أن نشير إلى أن اختلاف التشريعات الوطنية الداخلية للدول وتباينها في مجال التعامل الإلكتروني يحيلنا بشكل مباشر إلى الإشكاليات العامة التي تطرحها شبكة الإنترنت نتيجة طبيعتها العابرة للحدود والتي سوف نفرد لها مقالاً خاصاً تحت عنوان القانون الواجب التطبيق على العقد الإلكتروني.         

    

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.