تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الإطار القانوني للمعاملات الالكترونية (1)..(التعبير عن الإرادة) في ظل القانون رقم (3) للعام 2014

ا

 

  

شهد النصف الثاني من القرن العشرين ثورة في الاتصالات باختراع أجهزة التلكس والفاكس والحواسيب المتقدمة, التي أسقطت الحواجز المكانية والزمانية بين مناطق العالم المختلفة وساهم العديد من العوامل مثل: (دخول شبكة الانترنت حيز الخدمة المدنية بعد أن كانت مخصصة للاستخدامات العسكرية في الولايات المتحدة؛ سهولة الدخول إلى الشبكة والتعامل معها؛ انخفاض تكاليف الاشتراك بالشبكة)، في خلق البيئة المناسبة لزيادة حجم التجارة الدولية وظهور نوع جديد ومستحدث من التبادل التجاري بين البائعين والمشتريين من مختلف دول العالم, الذين وجدوا في شبكة الانترنت وسيلة سهلة ورخيصة للانتشار والتسوق على مستوى العالم.

فلا يحتاج البائع الآن إلا لمجرد اتخاذ موقع له على شبكة الانترنت أو إنشاء عنوان بريد الكتروني E-mail  لكي تنفتح أمامه آفاق جديدة من المعرفة والتجارة والخدمات, ويصبح على اتصال بالعملاء من مناطق جديدة, كان يتعذر الوصول إليهم  من قبل إلا بشق الأنفس, والكثير من النفقات. وبالتالي، انفتح المجال بيسر وبلا مشقة أو مجهود أمام المشترين للتعامل مع البائعين في الأسواق المحلية والعالمية بضغطة واحدة على جهاز الحاسب لطلب سلعة أو خدمة معروضة دون الحاجة إلى الدخول في علاقة مباشرة مع البائع, الأمر الذي يميّز التجارة الإلكترونية عن التجارة التقليدية, حتى في أحدث مظاهرها بالتبادل التجاري عن طريق الهاتف حيث يظل البائع والمشتري حكماً على اتصال دائم في مجلس العقد رغم تباعد المكان والموقع بينهما.

إذ أن الانتقال من عصر العقد المكتوب بين أشخاص حاضرين نحو عصر العقد غير المكتوب وغير المادي عن بعد بين غائبين لم يكن مبرمجاً أو معداً له بشكل مسبق. لقد أتى ذلك تدريجياً تبعاً لتطور تقنيات التسويق ووسائله المختلفة, وشبكة الانترنت ليست في الواقع سوى وسيط أو أداة جديدة لإبرام العقود المختلفة. وهنا نستعيد الصور المعروفة من العقود الداخلة ضمن نطاق البيع بالمراسلة, وبشكل أوسع عقود المسافة أو العقود عن بعد  فكانت عمليات البيع والشراء وتقديم الخدمات التجارية عن بعد, بالتأكيد ليست ظاهرة جديدة لكن انتشار وسائل الاتصالات على المستوى العالمي أدى إلى تعزيز هذا النوع من المعاملات بين الأفراد, كما بين المؤسسات والشركات حين نمت تقنيات جديدة ومبتكرة في التجارة عن بعد على قدم المساواة مع نمو تقنيات الاتصال الحديثة. وكانت هذه الظاهرة شهدت إقبالاً واسعاً في أوروبا منذ عام 1987 وإن كانت معروفة في الولايات المتحدة من قبل بتسمية التسوق المنزلي بواسطة الشبكات.

ولقد كان صدور القانون رقم/3/ لعام 2014 في سورية هو ناتج طبيعي لمواكبة المشرّع لمستجدات الحياة الاقتصادية، ونقلة نوعية في ميدان العمل القانوني من خلال توفير الأطر التشريعية اللازمة؛ فكان استجابة حقيقية يكمّل بها اللوحة التشريعية الناظمة لهذا النوع من التقنية المعلوماتية بغية خلق البيئة التشريعية المناسبة لهذه الأعمال وتوفير الضمانات القانونية المناسبة للمتعاملين بها.

غير أن الأثر الكبير والنتائج الهامة وما سوف يحدثه هذا القانون من نقلة نوعية في التعامل التجاري والالكتروني في سورية يستدعي من المهتمين قراءة متأنية لهذا القانون ودراسة الطبيعة القانونية لعقد التجارة الالكترونية والمسائل التي تثار بشأنها والقواعد المنظمة لإتمام التعاملات الإلكترونية في ظله , بغية  الاستفادة الأمثل منه. فدراسة الطبيعة القانونية لهذا النمط  من التعامل القانوني تثير العديد  من التساؤلات؟!

وتتعلق أولاً بغياب الحضور المادي للمتعاقدين, وبتجريد الآلية التعاقدية من ركيزتها المادية ثانياً, حيث تتمحور هذه الإشكاليات بشكل أساسي حول مفهوم العرض والقبول, وحول تحديد زمان ومكان انعقاد العقد, بما يعني صعوبة تحديد الزمان والمكان اللذين صدر فيهما القبول وعمّن وجه إليه العرض, وحول تعيين هوية الأطراف وأهليتهم على التعاقد. علاوة عن الإشكاليات الأخرى التي ترتبط بإثبات حصول الرضا في العقود غير المادية المبرمة عن بعد, وهو الصلب والركن لكل عقد في القانون المدني، وتحديد القانون الواجب التطبيق على العقد والمحكمة المختصة هذا بالإضافة إلى الإشكالية التي تطرحها الطبيعة العالمية لشبكة الانترنت وأخيراً المسائل المتعلقة بالدفع الإلكتروني.

علماً أن النقاش الكلاسيكي الدائر حول هذه القضايا  بين أهل القانون لا يزال قائماً ومستمراً حتى في الدول التي لحظت أنظمة قانونية خاصة بهذه العقود.

ففي غالبية القوانين المدنية ينشأ العقد حين يُظهر الفرقاء عن نية إرادية مشتركة بالالتزام بمجموعة من الشروط, بمعنى آخر بمجرد تلاقي إرادتين متوافقتين على إحداث أثر قانوني  وهو ما يعرف في الفقه التقليدي بمبدأ "رضائية العقود",  فهل العقود التي تبرم عبر شبكة الانترنت هي من العقود الرضائية التي تخضع لمبدأ سلطان الإرادة أم من "عقود الإذعان" التي لا يكون لأحد الأطراف فيها حرية التفاوض حول شروط العقد, ولا يكون إلا استجابة للشروط الموضوعة من الطرف الأخر,  دون أن يملك حق مناقشتها أو الاعتراض عليها, مما يقربها إلى عقود الإذعان مثل عقود الكهرباء والمياه والخليوي المعروفة لدينا.

فالأصل أن يُوجه العرض إلى شخص محدد وأن يتضمن اقتراحاً بالتعاقد. وفي وضعية عقود البيع بالمراسلة لا يعلم البائع مسبقاً عدد الذين سيلاقي عرضه لديهم قبولاً أكيداً, أو فيما إذا كان المخزون لديه يكفي لتلبية جميع الطلبات المحتملة. والغاية من هذا السرد النظري للمبادئ القانونية العامة المعمول بها لدى الدول المختلفة, هو معرفة مدى مطابقتها مع العروض الالكترونية الحاصلة في إطار شبكة الانترنت. وهل تلقّيَ الرسائل من قبل الشركات والمؤسسات بواسطة البريد الالكتروني أو نشر المصورات والفهارس الالكترونية, أو إنزال الإعلانات إلى منتديات المناقشة "يؤلف عرضاً" بالمعنى القانوني المعروف، لاسيما أن البريد الالكتروني هو إطار أولي ومبسط للتجارة الالكترونية في شبكة الانترنت، ويعد وسيلة ملائمة لإرسال العروض التجارية وقبولها وبالتالي لإنشاء العقود (التجارية) بواسطة الشبكة. خاصة وأن هذه العروض يمكن أن تحلل وأن توصف  في كل مرة بشكل مختلف. 

بمعنى أنه  في أحيان كثيرة يمكن أن يوصف العرض في شبكة الانترنت بأنه مجرد اقتراح أو دعوة للدخول في المفاوضات. وفائدة هذا التحليل تتجلى في التفريق بين أن يؤلف العرض في شبكة الانترنت عرضاً بالمعنى القانوني, وبين أن  يُعطى وصفاً مختلفاً  يكمن في تعيين النظام القانوني الواجب أن يخضع العرض المفترض إليه.

فإذا كان عرضاً بالمعنى التعاقدي فإن جميع المبادئ القانونية العامة المذكورة أعلاه تصبح واجبة التطبيق. أما إذا اعتُبر مجرد عرض أو اقتراح للدخول في التفاوض أو أعطي وصفاً دعائياً أو ترويجياً, فلا يعود له أي مفعول تعاقدي. وإن كان ثمة اجتهاداً فرنسياً قد نما في الآونة الأخيرة, يعتبر أن المستندات الدعائية حين تتسم بقدر كاف من الدقة والوضوح والتفصيل, تلزم العارض, حتى ولو كانت تشير صراحة أن لا قيمة تعاقدية لها, خاصة وإن الكثير من الدول تعاقب "جزائيا ً" استمالة المستهلكين وحثهم على الشراء عن طريق الإرسال الجبري للعروض الموجهة بالمراسلة دون طلب مسبق, ويكون الهدف منه محاولة نيل رضا وقبول الأشخاص الذين توجّه إليهم هذه العروض بشيء من الإكراه. 

وفي الاتجاه المقابل يدور  نقاش حاد حول مدى جواز اعتبار القبول بمجرد (النقر) بواسطة الفأرة أو الضغط على أحد مفاتيح اللوحة الكاتبة لجهاز الحاسب الآلي وأثر ذلك على شكل مبدأ الرضائية في العقود, حيث يرى البعض من الفقه الانكليزي في هذا الإطار أن عقود التجارة الالكترونية هي بمثابة عقود إذعان وإنْ لم يصرح بذلك صراحة على اعتبار أن المتعاقد لا يملك إلا أن يضغط في عدد من الخانات المفتوحة أمامه في موقع البائع أو المشتري على المواصفات التي يرغب فيها من السلعة وعلى الثمن المحدد سلفاً؛  فلا يملك مناقشته أو المفاوضة عليه مع المتعاقد الأخر, وكل ما يتاح له هو إما قبول العقد برمته أو رفضه كليةً.

غير أن الرأي عند غالبية الفقه اللاتيني يرى أن مبدأ الرضائية ما زال يسود العقود الالكترونية على اختلاف أنواعها, وإن حرية الأطراف المتعاقدة لم تتواضع لتكون مجرد الموافقة على الشروط المعدة سلفاً,  فيجوز لأحد الأطراف شراء السلعة من منتج أو مورد آخر إذا لم تعجبه الشروط المعروضة. ولأن هنالك عدد كبير من البائعين والمشترين الذين يتعاملون في السلعة, فإذا ما أراد أحد الأشخاص شراء سيارة فهناك عدد كبير من منتجي السيارات ذات الأشكال والأحجام والقدرات المختلفة. وعليه فإن تفصيل الشروط التي يضعها العارض إنما هي  تحليل للإيجاب أو الدعوة إلى المتعاقد، وتبسيطه إلى طلبات وأوامر صغيرة تستجيب لكل صفة من صفات المنتج بغرض تقليل الزمن والمجهود وتسهيل عمليات البيع والشراء التي تتم عادة عن طريق أجهزة الكمبيوتر. فإذا أراد أحد المشترين شراء سيارة 4 سلندر من لون أسود, فعليه البحث عن المنتجين الذين ينتجون هذه النوعية من السيارات مثل مرسيدس أو بيجو أو فيات أو غيره،  وعليه أن يحدد نوع السلندرات المطلوبة 1400 -1600 ثم يحدد اللون, ثم يحدد النوع ليموزين,كوبيه, أو غيرها... ويضغط على المُتاح المناسب في قائمة الطلبات التي يعرضها المنتِج حتى يستقر على نوع السيارة المطلوبة، ثم يضغط على مفتاح القبول النهائي بعد ظهور ثمن السيارة المحدد بتلك المواصفات. وبذلك تتم عملية البيع والشراء دون تدخل العنصر البشري عادة. والأمر ذاته أشار إليه "المجلس الوطني للمعلوماتية والحريات CNIL" في فرنسا حين تساءل في تقرير له عن ماهية الرضا الحقيقي في العقود التي تنشأ من خلال هذه العلاقة الجديدة المتميزة بالتفاعلية وسهولة المخالطة الاجتماعية وبجاذبية العروض التي تشد وتُرغِب المتلقي.... وعما إذا كان من شأن هذا الواقع أن يؤدي إلى إضعاف مفهوم الرضا الواعي لاسيما إذا فقد المتعاقد هامش الحد الأدنى من الإعلام المسبق والمكتمل، ومن القدرة على التراجع والوقت للتفكير...

وتداركاً لهذا الوضع ولأسباب تتصل بنظام الإثبات تلجأ العديد من المؤسسات والشركات إلى اعتماد حلول التفافية, كإرسال قسيمة الطلبية للمشتري وإعادتها مقرونة بتوقيعه الأصلي تأكيداً لقبول الحال بواسطة النقر وإن كانت الكثير من المواقع التي تزاول التجارة الالكترونية تُؤْثر الإبقاء على الطرق الكلاسيكية في التعبير عن قبول الصفقات المبرمة عبر شبكة الانترنت, كطباعة نسخة من قسيمة الشراء التي تبدو على شاشة الكمبيوتر ثم ملء المعلومات المطلوبة وتوقيعها يدوياً من قبل الزبون الراغب بالشراء قبل إرسالها إلى التاجر بواسطة البريد العادي.

من هنا كان البحث جدياً  لابتكار طرق جديدة في التعبير عن القبول في شبكة الانترنت بحيث لا تترك مجالاً لأي غموض يلف إرادة المتعاقد؛ بمعنى أنه يجب التحقق دائماً من أن القبول يعبر عن إرادة حقيقة أو فعلية  خاصة وأن القانون رقم/3/ لعام 2014 في المادة/4/ منه قد اعتراف صراحة بهذا الشكل  الجديد من أشكال التعبير عن الإرادة  بالقول: تعد الوسائل الالكترونية طريقة مقبولة للتعبير عن الإرادة لإبداء الإيجاب والقبول بقصد إنشاء التزام أو تعديله أو نقله أو إلغائه.

وفي ضوء ما تقدم، إن العقود في التجارة الالكترونية تتطلب:

أولاً: صياغتها بدرجة من الدقة والوضوح بحيث تعبّر عن نية وقصد صاحب الموقع على الشبكة أو البريد الالكتروني من خلال التوضيح إما أن العقد هو دعوة إلى التعاقد لا يرتب أي التزام أو أنه  إيجاب بات موجه إلى الجمهور، به ينعقد العقد.

ثانياً: الإعلان عن كل الشروط المقيدة للدعوة إلى المتعاقد أو الإيجاب (قيود الاستيراد أو التصدير أو حظر البيع للقُصر, أو اختصاصات القائمين بالتنفيذ من الموظفين).

حيث تضع بعض الدول حظراً على تصدير بعض السلع أو البضائع أو الخدمات إلى دول معينة مثل القيود التي تضعها الولايات المتحدة على تصدير السلع إلى سورية أو كوبا، أو بالعكس سورية تحظر التعامل مع الكيان الصهيوني. ولما كان المشتري من إحدى الدول المعاقبة يستطيع عن طريق الانترنت وضع طلب لشراء بضائع فإن قبول البائع يترتب عليه مخالفة قواعد الصادرات التي هي من النظام العام. ولهذا يتعين على المصدر أو البائع أن يضع شروطاً في الدعوة إلى التعاقد التي يضعها في موقعه على شبكة الانترنت تبيّن بجلاء ووضوح أن هذه البضائع لا تصدر إلى مناطق معينة أو أشخاص من جنسية معينة غير محظور التعامل معهم حتى لا يكون عرضة لمخالفة القانون، و حتى لا تترتب  مسؤولية المتعاقد في حالة الإخلال بالتعاقد أو الخروج على مقتضيات النظام العام.

وفي ذلك تكريس للقواعد العامة الواردة في القانون المدني الخاصة بالتعبير عن الإرادة التي يجوز أن يكون التعبير عنها باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفاً. كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على حقيقة المقصود.  ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنياً ما لم ينص القانون أو يتفق الطرفان على أن يكون صريحاً.

القانونية: أمل عبد الهادي مسعود

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.