تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

عادل قرشولي:عبدالله لاعب الكلمات عندأطلال جداربرلين

مصدر الصورة
sns - الأخبار
 

في الحقبة العاصفة للوحدة السورية المصرية (1959)، وجد أعضاء في رابطة الكتّاب السوريين أنفسهم في قائمة المطلوبين بتهمة الشيوعية. كان من بين هؤلاء عادل قرشولي. اضطر الشاعر الشاب حينئذٍ إلى أن يهرب إلى بيروت. وبعد نحو سنة من التخفّي، غادر إلى ألمانيا في بعثة دراسية. هكذا استقر في مدينة لايبزغ في «ألمانيا الشرقية» حينذاك... ولم يغادر تلك المدينة الصغيرة إلى اليوم. لكن كيف نختزل نحو نصف قرن من المكابدات والأسى في جلسة واحدة؟
يرتشف صاحب «عناق خطوط الطول» شايه على مهل، ويقول: «المدن التي يعيش المرء فيها شبيهة بالسيرة الذاتية لجهة التمازج والتماهي والانتماء». سيرته هو صنعتها مدينتان: دمشق ولايبزغ. دمشق الذاكرة الحميمية الأولى، ولايبزغ فضاء العيش والتجربة.

وإذا بحياة البؤس التي خبرها أول قدومه بلاد الاغتراب، تتحول بعد عقود إلى حرير دمشقي. «عملتُ في مصنع ومطعم، ومهن أخرى، وكنت أُعامل كمعوّق ذهنياً، لعدم قدرتي على التعبير بالألمانية، فكانت الكتابة طوق نجاة من الغرق». هكذا كتب قصيدته الأولى «الغريق» بالألمانية، في وصف أحواله، وكان قد وجد نفسه «في لجة لا أعرف لها قراراً».
ستبقى قصائده مجرد مناجاة للذات، قبل أن يجد مخاطبه الحقيقي بانخراطه في «الموجة الشعرية» التي اجتاحت الشعر الألماني في ستينيات القرن المنصرم، كتيار شعري طليعي. ما ميّز شعره عن أقرانه، كان تلك النفحة الشرقية في مفرداته، وعناوين كتبه، وقدرته على ابتكار أبجدية جمالية تمزج بين ثقافتين متضادتين. لن يطول المقام به، في الصفوف الخلفية للثقافة الألمانية. ذلك أن انتسابه إلى معهد الأدب وضعه في قلب الحركة الشعرية، إضافةً إلى دراسته مسرح بريشت، واطلاعه العميق على الفلسفة الألمانية.
لم يدر عادل قرشولي ظهره لهويته الأصلية. بقي ياسمين دمشق يهبّ من مسامات قصيدته، وسط ثلوج لايبزغ، فكان كتابه الشعري «مثل حرير من دمشق»، بطاقة اعتماد خوّلته اقتحام المشهد الشعري، بوصفه صاحب هويتين. فهو شاعر ألماني مجدّد من جهة، وسفير للثقافة العربية من جهة ثانية: «لا الغرب غرب فيك وليس شرقاً فيك ذاك الشرق»، وفقاً لما يقوله في إحدى قصائده.
نقل إلى الألمانية نصوصاً مسرحية لجلال خوري، ألفريد فرج وسعد الله ونوس... وفي حقبة أحدث «لاعب النرد» لمحمود درويش. سيطوي صفحة «الرابسوديا الرمادية» ليدخل في عمق الثقافة الألمانية، كأنّه واحد من أسلاف هاينه، وهيغل، وباخ، إضافةً إلى موروثه الشرقي الثري. وجد في مخاطبات النفري ملاذه الحميمي في ابتكار صيغة شعرية مغايرة، لكن من موقع آخر. في «هكذا تكلّم عبد الله»، سيلجأ إلى مخاطبة الذات، ونبش اضطراباته الروحية، وحنينه إلى دفء مفقود، بعيداً عن النبرة الصوفية الخالصة، أو الذوبان في الآخر. «أنت تبحث عنك فيه/ وهو يبحث فيك عنه/ أنت تبقى أنت/ وهو يبقى هو/ على النوافذ المغلقة، يقرع بجناحين مضمومين كقبضتين غراب الموت».
لعل ما يميّز نصوص عادل قرشولي عن سواه، قدرته على بناء معجم شعري خاص به، كمحصلة لثقافته المختلطة، فتذهب قصيدته إلى غنائية عالية، من دون أن تتخلى عن كثافتها الحسيّة، أو نبرتها الفلسفية، في صدام وعناق متناوبين. لطالما قرأ الآخر قصائده بتلصّص وريبة عبر نظرة استشراقية راسخة، فكان أن كتب قصيدته «العمامة المهترئة»، لمجابهة مثل هذه النظرة «كتبت هذه القصيدة كي ينزع الآخر العمامة المتخيّلة عن رأسي، وقد نزعتها فعلاً».
بعد سقوط جدار برلين، لم يبتهج صاحب «لو لم تكن دمشق» كما ينبغي، وظلّ حذراً من هذا الانقلاب المفاجئ. «يصعب عليّ أن أتحدث عن الأمل، في مناخ متوتر وغائم». لكن قصيدته ستنصت إلى «صراخ الصمت»، وتتخلى تدريجاً عن فكرة التغيير، من دون أن يتنصّل من أفكار معلمه برتولد بريشت. يقول بأسى: «ماذا أقول لموظف المطار الذي يختارني من بين كل المسافرين ليفتش جسدي، بسبب لون بشرتي، وربما بسبب اسمي؟». ويضيف: «ماذا أقول للفتى الذي يصرخ في وجهي: أخرجوا من هنا أيها الأجانب؟».
هذه الغيوم السوداء التي تصل إلى حدود العتمة أحياناً، لم تمنع عادل قرشولي من أن يصنع موطنه الخاص، متأرجحاً بين معنى المنفى الاختياري والهوية المزدوجة، حسب ما تقوده الفكرة إلى اللغة. «حين تدهمني صورة شعرية ما، في حديقة، أو ترام، أو منام، فإن اللغة هي التي تختارني، ولست أنا من يختارها».
وضع عادل قرشولي اليوم مكابداته القديمة على الرّف، وبات أكثر حرصاً على كتابة ما يشبهه، من دون أن يضع في اعتباره، كيف سيتلقى الآخر نصه، أو كيف يقبله كشخص قاده جحيم الشرق إلى مدن الصقيع... كما لم تعد مفردة «المنفى» تحمل الأسى نفسه. كان يفكّر قبل مغادرته دمشق بزوجته روجينا التي أسهمت بترجمة عدد كبير من النصوص العربية إلى لغة غوته. يقول مهموماً بعد أن خذلته شركة الطيران السورية بسبب تأجيل الرحلة: «ينبغي أن أسافر إلى لايبزغ لمساعدة روجينا بإزالة كتل الثلج التي تكومت أمام مدخل بيتنا».
هذا التفصيل الذي يبدو عابراً، يأخذ حيّزاً واضحاً في يوميات صاحب «وطن في الغربة» المنكب حالياً على كتابة سيرته الذاتية. السيرة التي سيستعيد خلالها صورة ذلك الفتى الكردي في حي ركن الدين، ومحاولاته المبكرة في كتابة الشعر الرومانسي. يستعيد أيضاً الهجرة القسرية إلى بلاد، لم يحلم يوماً بأن يسافر إليها، والحنين المحموم إلى شوارع دمشق، وارتطامه باللغة الألمانية التي ستضعه لاحقاً بين أبرز عشرين شاعراً ألمانياً في «أنطولوجيا الشعر الألماني المعاصر»... إلى حصوله على أرفع جائزة أدبية في ألمانيا «جائزة شاميسو للأدب» التي تُمنح لكاتب أجنبي يقدم إغناءً للأدب الألماني. نودعه، متأكّدين من صوابية توصيف ناقد ألماني له، «لاعب بالكلمات مثل ساحرٍ شرقي». وهل يملك الشعراء أوطاناً لولا الكلمات؟

                                                                                                         خليل صويلح


5 تواربخ

1936
الولادة في دمشق

1961
الاستقرار في مدينة لايبزغ (ألمانيا)

1998
صدور كتابه «هكذا تكلّم عبد الله» بالألمانية

1992
«جائزة شاميسو للأدب» من «الأكاديمية البافارية»

2011
قريباً تصدر أعماله الكاملة بالعربية عن «دار كلمة»
(أبو ظبي)

العدد ١٣١٦ الاثنين ١٧ كانون الثاني ٢٠١١

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.