تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ياسين رفاعيّة: العيش (والكتابة) في ظل الحبيبة الغائبة

مصدر الصورة
صحيفة الاخبار اللبنانية - sns


يفاجئنا ياسين رفاعية بأنه ما عاد يأمل سوى قدوم أجَله. لا يخفي الرجل الوحدة الشاسعة والمؤلمة التي غرق فيها منذ رحيل زوجته الشاعرة أمل جراح قبل ست سنوات، وفقد ابنته الشابة بعد ذلك بسنة واحدة. «كل يوم جديد أعيشه هو وداع لما تبقّى لي من الحياة. أحسّ أنّي عمود من الرمل معرّض للانهيار أمام أي هبّة ريح»، يقول القاص والروائي السوري الذي استقر في بيروت منذ منتصف ستينيات القرن الماضي. في المقهى القريب من الشقة التي تقاسم فيها العيش مع رفيقة دربه، يروي لنا صاحب «العصافير» عزلته الراهنة. ننتبه إلى سعادة خفيفة تعبر ملامحه كلما ذكرَ أمل جراح. ننتبه أيضاً إلى أنه يتعمَّد إقحامها حتى في مواضيع لا تتعلّق بها مباشرة.
منذ البداية، لم تكن الحياة سهلة على الفتى الدمشقي الذي اضطر إلى ترك المدرسة والعمل فرّاناً مع والده، لكنّ ذلك لم يمنعه من مواصلة الشغف بقراءة الروايات المترجمة، والاستماع إلى حكواتي الحي. الفران السابق كان صديقاً لحدادٍ سيحظى بشهرة كبيرة لاحقاً وهو زكريا تامر. اعتاد الاثنان اللقاء في مقبرة «الدحداح» القريبة، بصحبة شاب آخر هو الفلسطيني يوسف شرورو كي يقرأوا قصصهم. في السادسة عشرة، شارك رفاعية في مسابقة للقصة في مجلة «أهل النفط» العراقية التي كان جبرا إبراهيم جبرا يرأس تحريرها، وفازت قصته «ماسح الأحذية» بالجائزة الأولى، فتقاسم المبلغ مع بطل قصته. كانت الجائزة إشارة مبكرة إلى جدية الكتابة بالنسبة إليه. تأكد ذلك أكثر مع الحفاوة التي حظيت بها باكورته «الحزن في كل مكان» (1960).

ابن الفران ابتسم الحظ له بعد أن نشر مقالاً جيّاشاً عن الوحدة بين مصر وسوريا

 

 

مجموعته القصصية الثالثة «العصافير» التي طبعت أربع مرات، هي التي سترسّخ اسمه داخل المشهد الأدبي السوري الذي شهد ازدهاراً لافتاً لفن القصة القصيرة في تلك الفترة. لكن قبل ذلك، ستشهد سيرته الحياتية والكتابية انعطافاتٍ عدة. الشاب الذي كان يعمل في الفرن، ويكتب في الصحف الدمشقية، ابتسم الحظ له حين نشر مقالاً جياشاً عن الوحدة بين مصر وسوريا. في اليوم التالي فوجئ والده برجال أمن يسألون عن ابنه. خاف الشاب وتوارى أياماً، إلى أن عرف أنه مطلوب للعمل في المكتب الإعلامي للقصر الجمهوري. لاحقاً سيعرف أن من أوصت به هي الكاتبة كوليت خوري التي كان يتردد مع كتَّاب آخرين إلى بيتها.
حين وقع الانفصال، قُبض عليه ظناً بأنّه مصري، ثم أطلق سراحه. عاد إلى القصر الجمهوري، لكنه طُرد من الوظيفة بتهمة الشيوعية. كانت تهمة باطلة صُحّحت بتوظيفه في وزارة الثقافة. هناك التقى القاص المعروف فؤاد الشايب الذي كان في صدد تأسيس مجلة «المعرفة»، وعُيّن سكرتيراً للتحرير. بقي رفاعية في المجلة حتى عام 1965. بعد تسريحه، راح يتردد إلى بيروت، حيث عمل مسؤولاً عن القسم الثقافي في مجلة «الأحد» التي كان يترأس تحريرها رياض طه، ويتولى طلال سلمان سكرتارية تحريرها. حين توقفت المجلة عن الصدور، عاد إلى دمشق وعمل في جريدة «الثورة» لفترة، ثم طُلب منه أن يفتتح مكتباً لجريدة «الرأي العام» الكويتية.
هكذا استقرّ نهائياً في بيروت التي أصدر فيها مجموعة «العصافير»، بعد توقّف عن الكتابة دام أحد عشر عاماً. نجاح المجموعة أعاده إلى الكتابة بغزارة. توالت أعماله القصصية والروائية، فضلاً عن النصوص ذات النفس الشعري التي دأب على كتابتها في الصحف. في «الأنوار» عندما كان غسان كنفاني رئيس تحريرها، وقَّع تلك النصوص الوجدانية باسم «عابر سبيل»، وواصل ذلك في مجلتي «الشبكة» و«الدستور». يتذكر أن الشاعرة الراحلة ناديا تويني أعجبت بتلك النصوص، وطلبت منه جمع عدد منها، وصدرت بعنوان «لغة الحب» عن «دار النهار». ثم واصل نشر تلك النصوص إلى أن بلغت ستة كتب، لكنه يقول: «إنها بوح شعري وليست قصائد».
عاش رفاعية العصر الذهبي لبيروت التي انقسمت الحياة فيها، بين الكتابة وارتياد المقاهي والحانات في وسط المدينة ثم في شارع الحمرا. يتذكر أصدقاء غابوا وآخرين ما زالوا أحياء. في الضوء الحميم لتلك الصداقات، أنجز كتاب «رفاق سبقوا» (1989). شهد تجربة الحرب الأهلية، وأرّخها في أربع روايات، لكنّ اسمه ارتبط بروايته الأشهر «مصرع ألماس» التي عاد فيها إلى زمن القبضايات والأحياء الشعبية في دمشق. بعد الغزو الإسرائيلي وحصار بيروت، غادر صاحب «أسرار النرجس» إلى لندن. عمل في مجلة «الدستور»، ثم انتقل إلى جريدة «الشرق الأوسط»، وبقي فيها حتى عام 1996. عاد إلى بيروت وعمل مراسلاً للجريدة نفسها، ثم مسؤولاً للقسم الثقافي في جريدة «المحرر»، حيث لا يزال يعمل حتى اليوم، إضافةً إلى كتابة مراجعات نقدية للإصدارات الأدبية الجديدة في صحف ودوريات عربية.
الكتابة في الصحافة على أي حال كانت جزءاً أساسياً في سيرة رفاعية الذي أمضى سنوات نضوجه في بيروت. «بيروت وفّرت لي فضاءً أكتب فيه ما أشاء. هي المدينة التي صقلت اسمي ووضعته تحت الضوء، كما فعلت مع أغلب الكتاب الذين قصدوها». روايتان فقط من رواياته العشر تدور أحداثها في دمشق، والباقي في بيروت التي خطفه فيها أثناء الحرب تنظيم فلسطيني، وأُفرج عنه بعد تدخلات من محمود درويش ومعين بسيسو. «اتصل بي أبو عمار معتذراً عما حدث، وبعد ذلك بسنوات حين دخلت أمل المستشفى وأُجريت لها عملية جراحية، أمر عرفات بتغطية كل التكاليف».

 

شاهد دمشقي على العصر الذهبي لبيروت، عاش الحرب الأهلية وكتب عنها رواياته

 

الحديث عن الزوجة و«المرأة الاستثنائية» يعيدنا إلى غيابها. أشرف منذ شهور على إصدار روايتها «الرواية الملعونة» الفائزة بجائزة مجلة «الحسناء» عام 1968، التي امتنعت عن نشرها درءاً لـ«فضيحة أخلاقية»، بحسب نصيحة جبرا إبراهيم جبرا الذي كان عضواً في لجنة التحكيم. يبتسم لفكرة أنه وأمل حصلا على جائزة من جبرا نفسه. يقول إنّه منكبّ الآن على كتابة رواية بعنوان «من يتذكر تاي»، ويستعيد فيها وجوهاً وحوادث من تلك الحقبة. ولكن من هي تاي؟ «هو اسم امرأة مصرية شهيرة كانت ساقية في بارٍ يحمل اسمها في منطقة الروشة، حيث كان يتردد الكثير من مثقفي وفنّاني تلك الفترة». يتذكر ليلى بعلبكي وسامي الجندي وعصام محفوظ... وغسان كنفاني الذي لطالما ضرب الحائط بقبضته على مرأى من الساقية ومن رواد المكان، وهو يشكو من «فتك» غادة السمان به. يقول إنّه كان أحد ضحايا صاحبة «أعلنت عليكَ الحب» التي «بطشت بالمتيّمين بها ولم تبادلهم الحب»، بحسب رأيه.
الحديث عن الحب ذريعة ضيفنا لتجديد الكلام عن رفيقة الدرب التي حضرت في رواياته بأسماء مختلفة. بعد رحيلها، روى في «الحياة عندما تصبح وهماً» فصولاً من رحلة آلامها مع المرض. يضع يديه على الطاولة: «لقد غسّلتها بنفسي، وكنت سأدفنها لولا أن الشيخ قال إن الدين يمنع ذلك». يقول إنه يزورها باستمرار. يحتفظ بصورة لضريحها وضريح ابنته في لندن على شاشة هاتفه. يصرُّ على أن يرينا الصورة قبل أن نغادر 
.

 

                                                                                            حسين بن حمزة     

                                                                                                                                       



5 تواريخ

1934
الولادة في دمشق

1960
صدور باكورته القصصية «الحزن في كل مكان»

1967
زواجه من الشاعرة أمل جراح، واستقرارهما في بيروت

1983
الخروج من بيروت بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، والعمل في الصحافة العربية في لندن حتى 1996، تاريخ عودته إلى بيروت

2010
يضع اللمسات الأخيرة على رواية بعنوان «من يتذكر تاي»

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.