تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

ابن أمنا العظيمة



في مقبرة الروضة عند مدخل اللاذقية الجنوبي أودعنا رفات نضال سيجري في قبر أمه، المتكئ الى نخلة. مدفوعين برطوبة البحر وحرارة شمس تموز اتجه حشد المشيعين بخفةٍ الى مدخل المقبرة لتقديم واجب العزاء لأهل الفقيد، بينما وقفتُ أراقب عمال المقبرة وهم يستكملون ملء حفرة نضال بالتراب الرمادي الناعم الذي كان معظمه بَشَراً ذات يوم. شد شخص لا أعرفه على يدي معزياً وسحبني لنلحق بالمعزين. في منتصف الطريق سألني كم ولداً كان عند المرحوم؟ قلت له إنني لا أعرف. صدم الرجل وعندما قلت له إنني لم أدخل بيت نضال أبداً نظر إليَّ بشيء من عدم التصديق خاصة وأنه رأى الدموع في عيني.
نعم، لم أكن صديقاً مقرباً لنضال سيجري فقد تعرفت عليه في بيت الصديق سعد الله ونوس وترسخت علاقتنا خلال معركة سعد الله الباسلة مع السرطان، إذ كان نضال هو الوحيد المواظب على زيارة سعد الله من بين كل طلابه في المعهد العالي للفنون المسرحية. ومع أننا كنا مؤهلَين لأن نكون صديقين مقربين، بفضل الجسر البشري الذي يصل بين قلبينا، لكن رحيل سعد الله، بل حضور رحيله، بات يذكر كل منا بالآلام التي يود نسيانها. صحيح أن المسافة لم تكن كبيرة، لكن اجتيازها كان عسيراً كأرضٍ حرام مزروعة بالألغام.
ليس صدفة أن نضال سيجري أسمى بكره وليم، على اسم وليم شكسبير فهو لم يكن ممثلاً كوميدياً ممتازاً وحسب بل كان بطلاً درامياً بامتياز. ومع أن الشهرة الجماهيرية العريضة لم تتحقق لنضال إلا من خلال الدور الكوميدي الذي أداه باقتدار في مسلسل "ضيعة ضايعة “، إلا أن نضال كان في قرارة نفسه يميل للدراما أكثر، حتى تكاد كل مواصفات البطل التراجيدي تتوفر في شخصيته.
لم يكن نضال ينحدر من سلالة الملوك والنبلاء كما يفترض أرسطو بالبطل التراجيدي أن يكون، لكننا لو دققنا لوجدنا أن بقية صفات البطل التراجيدي متوفرة فيه. فالبطل التراجيدي، يؤكد على شرف الإنسان في مواجهة الظروف القاهرة، كما ينطوي على السمو والنبل في عالم يفتقر إلى المنطق والعدل، وهو شخص تتوافق أقواله مع أفعاله، ويمتاز بموقف واضح يعبر عنه إيجابيا بالقول والفعل، ويبقى كذلك إلى أن يواجه قدره بشجاعة في اللحظة الأخيرة. ولو دققنا لوجدنا أن نضال سيجري جسد هذه القيم بشكل دقيق في حياته وفي موته أيضاً.
منذ أن بدأت المحنة التي تعصف بوطننا الحبيب سورية، أحسست به يتمزق. كان يضع كل روحه في صرخاته الموجعة على الفيس بوك لعلَّ وعسى! كان يناشد السورين بوصفهم أبناء "أمنا العظيمة سورية" برجاء يشبه التوسل، أن يروا الخطر المحدق وأن يعملوا من أجل سورية لكل أبنائها. ظل نضال طوال المحنة يصرخ ملء قلبه محاولاً إيقاظ أفضل ما في الجميع. كان يحاول دائماً أن يكون للجميع ولما يجمع الجميع، لكنه في أحيان نادرة كان ينفث حمم غضبه، كما حدث في مطلع العام الحالي عندما كان المواطن السوري بين فكي كماشة الحرب والبرد فأعلن كفره بالسياسيين الذين يطيلون الأزمة برفضهم للحوار، لكنه في كل الظروف ظل مؤمناً بمعجزة اسمها الشعب السوري الذي لم يزده الكفر المعربد حوله إلا إيماناً بوطنه.
وقد اعتبر إصابته بسرطان الحنجرة ضرباً من خيانة الجسد، فأطلق صرخته الأكثر إيلاماً:
"وطني مجروح وأنا أنزف...خانتني حنجرتي فاقتلعتها...أرجوكم لا تخونوا وطنكم. "
لقد أدمته خيانة حنجرته له كما أدمته خيانة بعض من كانوا من المدللين في البلد!
قال لأمل عرفة متحسراً في واحد من لقاءاتهما الأخيرة: "كم كنت بحاجة إلى صوتي في هذين العامين".
ما من شك أن حقائق النفوس تظهر جلية في لحظات الموت وقد قال فواز سيجري شقيق نضال أن نضال كان في غيبوبة لأيام طويلة، وقبل رحيله بيومين أفاق لآخر مرة فأمسك بيد شقيقه وقال:” سورية يا فواز”! ثم انهمر الدمع من عينيه وغاب. وهذا يؤكد صحة ما قاله الصديق رامي عمران إن "نضال رحل تحت التعذيب الذي يمارسه السوريون بحق وطنهم".
رغم كل ما سبق أعترف أن الانكسار لا يليق بعاشق لسورية كنضال، لذا أنهي بصرخته التي ستدوي طويلاً من بعده:
"نريد عقولاً مفتوحة على العقول. نريد أرواحاً تتسع للأرواح. سوريا أمنا العظيمة تتسع للكل وبحاجة للكل".

                                                                            *حسن م. يوسف

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.