تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

لغز فضل شاكر ...

سيمر وقت طويل قبل أن يُنسى أو يُفهم لغز فضل شاكر. هذا المغني اللبناني الذي بلغ الشهرة والثروة في غضون أعوام قليلة، قبل أن ينتهي جهادياً إلى جانب الشيخ السني السلفي أحمد الأسير، ومطلوباً من العدالة ومتوارياً عن الأنظار مثل "مرشده"، بعد هزيمتهما على يد الجيش اللبناني يوم الاثنين في 24 حزيران في صيدا جنوب لبنان.

وما أذهل اللبنانيين أكثر حيال مسيرة فضل شاكر، أن بلادهم لم تكن قد عرفت من قبل ظاهرة الفنانين المرتدين إلى الدين. فقصة ممثلات التلفزيون أو السينما، اللواتي يظهرن فجأة محجبات، ليعلن اعتزالهن الفن، لم تكن إلا قصة مصرية، يقرأها اللبنانيون بشيء من البسمة والتسلية عن أخبار الفن المصري في المجلات المتروكة على نضد الحلاقين ومصففي الشعر .

لا بل أكثر من ذلك، ففي ذاكرة اللبنانيين سابقة واحدة من هذا النوع، غير أنها مناقضة إلى حد كبير، لما فعله فضل شاكر. هي سابقة مغن لبناني آخر، اسمه الحقيقي أنطوان الخولي. كان قد عرف شهرة كبيرة في بلاده كما في معظم البلدان العربية منتصف الثمانينات وحتى أواخر التسعينات، تحت اسم المطرب ربيع الخولي. فجأة وهو في قمة شهرته وثروته، قيل أن حادثتين أليمتين ضربتا حياته. إذ فقد شقيقاً له إثر مرض. كما تعرض لحادث سير تسبب خلاله بوفاة أحد الأشخاص. وقيل يومها أن حياته بعد هاتين المأساتين لم تعد كما كانت قبلهما. أخذ ربيع، أو أنطوان، إجازة طويلة من عمله الفني، وراح يبحث عن أجوبة حول معنى الحياة وأسرار الموت والألم. إجازة لم تلبث أن صارت حياة ثانية له. إذ ترك أنطوان الفن والغناء بصمت، من دون إعلان ولا كلام ولا أحاديث صحافية. ثم التحق أواخر التسعينات بدير مخصص لإعداد الرهبان المبتدئين، تابع لإحدى الرهبانيات المارونية في جبل لبنان. مذذاك صار ربيع الأب أنطوان. وقد مضى على تقديمه نذوره الرهبانية عقد ونصف، في الصلاة والتعبد وعيش حياة الفقر والتقشف والعزلة الرهبانية...

فضل شاكر قدم نموذجاً آخر للبنانيين. لم يكونوا قد سمعوا به أو عرفوا مثله. ففي العام 2005 كان فضل، ابن مدينة صيدا في جنوب لبنان، احد أشهر المغنين اللبنانيين الصاعدين في العالم العربي. اشتهر بصوت مخملي، وبلون غنائي يميل إلى الرومانسية وألحان الحب والغرام. ولم يلبث هذا الشاب الآتي من أحياء الفقر في عاصمة الجنوب اللبناني، أن اكتسب الشهرة والثروة معاً. في ذلك الوقت، اغتيل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، أحد أبرز زعماء السنة في لبنان، وهو المذهب نفسه الذي ينتمي إليه فضل شاكر، كما ابن صيدا أيضاً. بعد تلك الجريمة والأحداث العاصفة التي مر بها لبنان، ووسط ارتفاع منسوب التوتر المذهبي بين السنة والشيعة في مختلف بلدان المنطقة، بدأ يتردد في الإعلام أن لفضل شاكر شقيقاً أصولياً، يتزعم مجموعة من الفلسطينيين الجهاديين في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، الملاصق لمدينة صيدا. بعدها، خرج إلى الإعلام في العام 2008، خبر مفاده أن خلافاً عنيفاً وقع بين المغني فضل شاكر ومغن لبناني شهير آخر، اسمه راغب علامه. وفي التفاصيل ذُكر أن الخلاف وقع على إحدى الطائرات التي صودف الفنانان عليها. وأنه اندلع نتيجة سجالات سياسية بينهما. علماً ان علامه من الطائفة الشيعية. بعدها تطور خلاف الرجلين، إذ عمد فضل شاكر في صيف 2009 إلى تهديد راغب علامه بالقتل، ومحاولة اقتحام منزله مع مسلحين من جماعة شاكر. فبدأ يتعرف اللبنانيون إلى وجه آخر جديد للمطرب الرومانسي السابق.

غير أن شاكر لم يترك معجبيه يتشوقون طويلاً. إذ ما إن بدأ الجهادي السني أحمد الأسير بحركته في صيدا، حتى كان فضل شاكر ظله الدائم. بلحية كثة على الطريقة السلفية، صار الرجل الثاني في المجموعة الجهادية. وتحول نجمها الإعلامي، وممولها المعلن بفضل الثروة التي جمعها من الغناء، إضافة إلى كونه صوتها الأكثر تحريضاً. فبعد أن أعلن عبر الإعلام اعتزاله الغناء، لم تعد تصاريح فضل شاكر تتناول إلا من يعتبرهم أعداءه من "الكفار"، الذين غالباً ما يصفهم بالخنازير، وأحياناً يعدهم على الإعلام بالقتل. وليست مصادفة، ان يكون الظهور الأخير لفضل شاكر من مخبأ الأسير في صيدا، قبل اقتحامه من قبل الجيش اللبناني، عبر شريط قصير بُث على موقع يوتيوب، وهو يتباهى بأن رجاله قتلوا عنصرين من الجيش، ويتوعدهم بالمزيد. قبل أن يختفي ويصر الرجل الثاني على لائحة السلطات اللبنانية للمجرمين الأكثر خطورة وشهرة وملاحقة، بعد معلمه ومرشده أحمد الأسير!!

غير أن سؤالاً لا يزال يتردد في أذهان أكثرية اللبنانيين: ما الذي يمكن أن يأخذ فناناً ناجحاً مشهوراً وثرياً، إلى موقع كهذا؟ فإذا كان ربيع الخولي قد ترك الفن بصمت، لينقطع إلى ربه بالصلاة والنسك والسعي إلى سلام النفس، فلماذا قرر فضل شاكر الذهاب إلى ربه هو بالعنف والقوة والحقد والقتل؟ ثم، كيف لرجل كان قد اكتشف العالم ومسراته وملذاته، أن يترك كل شيء، من أجل زقاق صغير في حي مجاور لصيدا، لا مدى له إلا في أمتار قليلة من هذا العالم؟ قبل فضل شاكر، كانت ثمة حالات مماثلة في عالم الإسلام الجهادي. غير أنها تركزت على قطبين جاذبين لمفهوم الجهاد الانتحاري: إما قطب فلسطين كمصدر دفعٍ مقدس في وجدان من يتخذون تلك الطريق. وإما معاداة أميركا وإسقاط صفة مقدسة ايضاً على الحرب معها، تحت عنوان "الشيطان الأكبر". هكذا كان الانتحاريون الإسلاميون يرتبطون بما يجعلون منه "قضية كبرى"، فيها من اللاعقلاني ما يفسر ذهابهم نحو اللامعقول. لكن فضل شاكر لم يختر فلسطين ولا أميركا. بل اختار حرباً صغيرة جداً في زاروب صغير، أنفق فيه كل ما جمعه من حياته السابقة، كما كل حياته اللاحقة على ما يبدو...

                                                                                                                                    جان عزيز



 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.