تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

هل سنظلّ على شاطئ التاريخ؟

محطة أخبار سورية

إنّ الإنسان في مراحل حياته يمرّ بأحداثٍ كثيرة، بعضها يدخل في إطار الأحداث اليوميةِ التي تشبه رميَ الحجر في بحيرةِ ماء، فالحجر يحدث دوائرَ صغيرة أو كبيرة إذا رميناهُ في البحيرة لكنّها لا تدوم إلاّ أمداً قصيراً من الوقت، وكذلك الأحداث اليومية العاديّة تمرّ على صفحة الذاكرة فلا تعلق بها، بينما تستطيع الأحداث المهمّة التي تترك تأثيرها المباشر على حياة الإنسان أن تحفر مسارب عميقة في ذاكرته فيمتدّ مكوثها في الذاكرة إلى أمد زمنيّ طويل.

 

لكنّ الإنسان يحاول وبصورة غير شعوريّة تأريخ ما يمرّ به من أحداث، وهذا ما دفع عدداً من الباحثين إلى القول إنّ الإنسان حيوان مؤرِّخ بفطرته، فهو ومنذ العصور الموغلة في القدم يسعى جاهداً لتفسير ما يجري حوله غير مكتفٍ بإلقاء الملاحظة العابرة عليه، والتماس تفسير يقتنع به ويركن إليه لتفسير ما يجري حوله، بل ظلّ على الدوام يفتّش عن خيط دقيق يبني به رابطة تعطي تفسيراً منطقياً للحركة التي حدثتْ، وينفذ من خلال هذا التفسير إلى البواعث الكامنة وراء الحركة والنتائج المترتبة عليها، مستنداً إلى ذخيرة لم تكن على ذلك القدْر من الثراء من التجارب التي يمكن القول إنها كانت تجارب متواضعة محدودة، لكنّ الزمن فعل فعله الإيجابيّ بإغناء هذه التجارب وإنضاجها على نار التجربة والرويّة.

 

سعى الإنسان خلال مراحل التاريخ لمحاولة فهم ما يجري ما حوله من أحداث وظواهر طبيعية بدا عاجزاً عن فهمها واستيعابها في البداية،وأعوزته الحيلة ولم يسعفه العقل الناضج المحاكم الذي يستطيع العثور على العلاقة المنطقية بين المقدّمة والنتيجة التي تفضي إليها هذه المقدّمة، فوجد نفسه مضطراً للاستنجاد بالأساطير فلاذ بها؛ لأنه آنس فيها التعبير عن فهمه للعالم الذي وجد نفسه يتقلّب في جنباته، لقد وجد الإنسان في الأساطير صورة التعبير الشائعة عن فهمه للوجود والتاريخ، غير آبه بأنّ ذلك النمط من التفكير لا يمكن النظر إليه على أنه نمط عقلانيّ، لكنّ هذا التفكير على بساطته كان في أعماقه يمثّل صورة صادقة لصراع الإنسان الطويل مع الطبيعة التي وجد نفسه ضعيفاً في مواجهتها بما فيها من قوى اعتقد في البداية أنها قوى شرّيرة، لكنّه استطاع في مراحل تالية إقامة علاقة طيّبة مع هذه الطبيعة والاستفادة منها في شقّ طريقه الطويل إلى بناء الحضارة الإنسانية.

 

بحث طويل عن الحقيقة، لم يكلّ فيه الإنسان، قاده إلى طرْق باب الآلهة والقوى الغيبية والطبيعية، لعلّ وعسى ينجح في فتح هذا الباب الذي يقدّم له تفسيراً يقنع به لما يدور حوله من أحداث عجز في البداية عن إيجاد تفسير علميّ وغائيّ لها.

 

لكنّ الإنسان لم يقف مكتوف اليدين أمام سطوة الطبيعة وجبروتها، بل اخذ يسعى لتطويعها والسيطرة عليها وتسخيرها لخدمته، فقاده هذا السعي للاهتمام بالتاريخ اهتماماً جعله على قناعة أنه سيوصله إلى طريق الحقيقة بعيداً عن الغموض والوهم، لأنه كان على يقين أنّ التاريخ هو وعاء التجربة البشرية الذي ينضح بسائل الإبداع الذي يفيض من هذا الإناء، هذا التاريخ هو مفتاح البشرية بتجاربها الغنية للوصول إلى تفسير كلّ ما يجري من حوادث، وإن كان هذا الوعاء غنياً بمزيج عجيب من التناقض ؛ ففيه النجاح والإخفاق، فيه الرهبة والرغبة، فيه خوف الإنسان من الطبيعة ويقينه بقدرته على الانتصار عليها، لأنه يملك العقل بينما تعنو الطبيعة لناموس الجمود والتكرار .

 

ونجم عن ذلك ظهور محاولات كثيرة شقّتْ كلّ محاولة طريقها الخاص بها بمعزل عن المحاولات الأخرى، وكان هدفها الذي لا تحيد عنه تفسير التاريخ لأغراض بدتْ مادية في المقام الأوّل.

 

لقد ظلّ التّاريخ محسوباً على العاطفة أكثرَ من كونهِ محسوباً على العلْمِ، ولئن كانت العاطفة تلعبُ دورَها الواضحَ إلى حدٍّ تُلحَظُ معه شبهةُ السّهولة؛ فإنّ هذا لا ينفي بحالٍ من الأحوالِ خضوعَ التّاريخِ للمنطقِ العلميّ بما فيه من صرامةٍ تصرّ على ربطِ المقدّمات بالنتائجِ، وهذه الصّرامة هي التي تمنحُ التاريخَ بطاقةَ الانتساب إلى نادي العلْمِ ليكون عضواً فعّالاً فيه يؤثّر فيه ويتأثّر به في تفاعلٍ خلاّقٍ يثري المعرفةَ الإنسانيّة ثراءً غيرَ محدودٍ.

 

وبصرف النظر عن تأرجح التاريخ بين صرامة العلم وتساهل العاطفة فإنّ المطلوب منّا كأمّة عربيّة ألاّ نقف على أطلاله منشغلين به عن الحاضر والمستقبل، وإلاّ مرّ قطاره السريعُ وخلّفنا رجْعاً منسيّاً في حنجرة الأمس.

 

جميل أن نعتدّ بالتاريخ إيماناً منّا أنّ الشجرة الرّاسخة تحتاج جذوراً متغلغلة في أعماق التربة، على ألاّ ينسينا ذلك أنّها تحتاج في الوقت نفسِه اهتماماً بأغصانها وأوراقها لننعم بأفيائها وثمارها في آنٍ معاً.

 

لقد تساءل الكثيرون من عقلائنا: هل سنظلّ على شاطئ التاريخ مدهوشين بتأمّل أمواج بحره السّاجي، أم أننا سنستدرك ما قصّرنا فيه بحقّ أنفسنا وننطلق إلى خوض غمار المستقبل الذي نصنعه ولا نكتفي بأن يصنعنا؟

 

آن الأوان أن نولّي وجوهنا شطرَ المستقبل بدلاً من الالتصاق بصمغ الماضي، لنأخذ مكاننا اللائق بنا في عالمٍ يخلع قبّعته احتراماً للقويّ ويرمي بهذه القبّعة الضعيفَ غير مكترثٍ به.

 

 

 

                                                                 د. جهاد طاهر بكفلوني 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.