تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الحلاج... التصوف والحب الإلهي

 يعتبر الحلاج من أكثر الشخصيات إشكالية في التاريخ الفكري الفلسفي الإسلامي، وما زال السؤال حول صحة الحكم على الحلاج بالهرطقة والإلحاد والكفر وإعدامه بهذه التهمة موضع نقاش ودراسات إلى يومنا هذا. ولد أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج في قرية البيضاء في إقليم فارس ضمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم عام 858 ميلادية، وقصد العراق لطلب العلم وسماع الدروس الدينية من مشايخها وتنقل بين بغداد وواسط، وتتلمذ على يد كبار المشايخ الصوفية أمثال الجنيد بن محمد وعمر بن عثمان المكي، وقام بعدها بالحج ومجاورة الحرم المكي سنة كاملة، حيث روي عنه أنه كان يقعد ساعات متأملاً على سفح جبل أبو قبيس قرب مكة المكرمة دونما غطاء أو ملاذ من حر الشمس أو برد الصحراء، كما قام الحلاج بالتطواف في خراسان والأهواز والهند وتركستان يبشر بطريقته بالتصوف. وقد أثارت تلك التصرفات المغالية في التصوف انتباه واستغراب كبار المشايخ الصوفية في زمن الحجاج فيحكى أن شيخ الصوفية بمكة المكرمة عبد الله المغربي مضى ليزور الحجاج فوجه على سفح جبل أبو قبيس على صخرة حافياً مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض، فعاد ولم يكلمه وقال: "هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله، سوف يبتليه الله بما يعجر عنه صبره وقدرته". كما روي عن شيخ الصوفية بالعراق الجنيد بن محمد أنه تفرس الحلاج عندما زاره شاباً فقال: "إن هذا سوف يقتل ويصلب". وعاد الحلاج إلى بغداد عام 912 ميلادية وسرعان ما جذب تصوفه اهتمام العامة والخاصة الذين تقاطروا إليه ليتعرفوا إلى مذهبه وطريقته، والحقيقة أن الحلاج لم يكن يملك مذهباً أو طريقة، بل كان يؤمن بأن الدلائل على وجود الذات الإلهية متوزعة في كافة تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة، وإن معرفة الله إنما تمر عبر معرفة النفس، فعندما يدرك الإنسان حقيقة نفسه يدرك حقيقة الله، وتظهر هذه الأبيات التي نظمها الحلاج فكرته حول معرفة الله وسر الذات الإلهية: سرّ السرائر مَطْــوِيٌّ بـِاثـْبَات في جانب الأُفْق ِمن نور بـِطيَّات فكيف والكيف معروف بظاهــره فالغيب باطنه للذاتِ بالـــذات تـَاهَ الخلائقُ في عمياءَ مظلمــةٍ قصدا و لم يعرفوا غير الإشارات بالظنّ و الوهم نحو الحقّ مطلبهـم نحوَ الهواء يناجون السمــاوات والــربّ بينهم في كـل منقـلب مُحِلَّ حالاتهم في كل ساعــات وما خلوا منه طرف عين لو علموا وما خلا منهم في كل أوقــات ولم يكن التطور النفسي والعقلي للبشرية في ذلك الزمان مستعد لتلك الأفكار الفلسفية الثورية بعد، وجرى سوء فهم لشرح الحلاج لفكرته الصوفية في معرفة الله بالكلام أو بالفعل، فتم تفسير مقولته لجميع المذاهب الإسلامية الموجودة في ذلك الزمان أن كل الطرق تؤدي إلى الله بأنه يخدع أصحاب كل مذهب ويقول لهم أن مذهبهم هو الصواب، وجرى تفسير تغيير لباسه من المتصوفة إلى الأغنياء وإلى أصحاب السلطان بأنه غش وتدليس للناس، وجرى تفسير إشاراته إلى وجود الله في تفاصيل الأشياء البسيطة والمعقدة بأنه إتيان بالخوارق والمعجزات باستخدام السحر والشعوذة، وفي النهاية جرى تفسير قوله أن الله موجود فيه كما هو موجود في كل البشر بأنه إدعاء بالنبوة أو بكونه الباب إلى الله ووصل الحد إلى اتهامه بادعاء الألوهية. وقد وصلت تلك الاتهامات إلى مسمع وزير الخليفة العباسي الذي أحسن بالخطر الذي تحمله أفكار الحلاج الثورية، فأمر بإحضاره ومحاكمته وطلب من الفقهاء والقضاء أن يقيموا حد الزندقة عليه، ولكن هؤلاء الفقهاء رفضوا أن يحكموا عليه بناء على الأقاويل وطلبوا محاججته لإثبات التهمة عليه بالبينة أو بالإقرار، وجرت بينهم وبين الحلاج مناظرات طويلة لردح من الزمن جرى تسجيل وتوثيق معظمها في الكتب، إلى أن جاء يوم استبد الغضب فيه بأحد القضاة بعد نقاش حول إحدى الإشكالات الفقهية، فقال للحلاج في حضرة وزير الخليفة: "كذبت يا حلال الدم"، فما كان من الوزير إلا أن أوقف النقاش وأمر بإثبات أن القاضي أحل دم الحلاج، وعبثاً حاول القاضي استقالة كلمته أمام إصرار الوزير. وتم إعدام الحلاج على باب خراسان في بغداد حيث قطعت أطرافه الأربعة وصلب بعدها، ومن ثم إحرقت جثته، فيما نصب رأسه على جسر بغداد. وقد تحولت حياة الحلاج وموته إلى أسطورة حية في التراث الشعبي، وموضع جدل لدى فقهاء المسلمين، فمنهم من أكد على زندقة الحلاج وفساد مقولاته واعتقاده، ومنهم من رأى أن الحجاج قد ظلم وأن مقولاته لا تخرج عن الدين، أما في التراث الشعبي فبقيت أسطورة ألوهية أو نبوة الحلاج قائمة لقرون طويلة بعد مماته، خاصة وأن هناك من قال بعد إعدامه مباشرة بأنه لم يقتل، وبأنه ألقى بالشبه على أحد أعدائه وتم إعدامه، فيما انتشرت مقولة أخرى بعودة الحلاج من الموت بعد ثلاثين يوماً، وبقيت لقرون عدة جماعات تتبع ذكرى الحلاج في مناطق متفرقة من العراق وإيران وكشمير وشمال الهند. لم يجرأ الكثير من الذين أعجبوا وتأثروا بفكر الحلاج بأن يصرحوا باسمه في كتبهم التي ألفت بعد مقتل الحلاج مباشرة، حيث كانوا يستشهدون بأقواله وأشعاره دونما ذكر صريح لاسمه كما فعل السراج الطوسي في موسوعته عن الصوفية "اللمع" التي استشهد بكلاح الحلاج في أكثر من خمسين موضوعاً من كتابه دونما أن يذكر اسمه، ولم يبتدئ الجهر باسم الحلاج إلا بعد قرابة مائتي عام في الحادي عشر الميلادي حيث بدأ كبار المتصوفة يصرحون باسمه ويذكرون مقالاته ويشهدون بفضله وسعته، فقد أشاد به أبو حامد الغزالي وابن عربي وعبد الغني النابلسي، وقد صنف المتصوفة المتأخرون الحلاج باعتباره "متوحداً بالوجود". أما الحركة الاستشراقية فقد اختلفت وتطورت نظرتها إلى الحلاج، فقد ظهر أو ذكر للحلاج في النتاج الاستشراقي الغربي في القرن السابع عشر، وفي القرن الثامن عشر بدأت تظهر الدراسات المخصصة عن الحلاج ولا سيما كتابات "يوهان ياكون رايسكه" الذي تبنى في بداية الأمر الرواية العباسية الرسمية واعتبر الحلاج هرطوقياً ومجدفاً، ثم أتى جيل من المستشرقين أمثال "بارتلوم دي هيربلوت" و"أوغست موللر" و"إدلبرت ميركي" وغيرهم الذين اعتبروا الحاج متصوفاً صلب بسبب أفكاره الغريبة، في حين ظهرت بعدها مدرسة يمثلها "فون كريمر" و"ماكس هورتن" تعتبر أن الحلاج كان يؤمن بالديانات الهندوسية القديمة وأن صرخته (أنا الحق) هي تجلي لصرخة "أنا براهما" في كتاب "الأوبانيشاد" الهندوسي المقدس، فيما يتبنى بعض المستشرقين من أمثال "آن ماري شيمل" نظرة الصوفية الجديدة إلى الحلاج باعتباره "الشخصية الموحدة للوجود". وقد كتب في أخبار الحلاج كتب كثيرة منها كتاب الحلاج لعلي بن أنجب الساعي وكتاب (ذكر مقتل الحلاج) لابن الزنجي، ومن بين الكتاب المعاصرين ألف الشاعر المصري صلاح عبد الصبور مسرحية شعرية تحت عنوان "مأساة الحلاج"، كما ألف طه عبد الباقي سرور كتابا بعنوان "الحلاج شهيد التصوف الإسلامي"، في حين أصدر قاسم محمد عباس عام 2002 كتابا تحت عنوان "الحلاج – الأعمال الكاملةّ" جمع فيه أشعاره وكتاباته، وصدر عن دار رياض الريس كتاب لسامي مكارم بعنوان "الحلاج في ما وراء المعنى والخط واللون"، كما توجد سيرة شعبية مطبوعة للحلاج لم يعرف كاتبها. ومنذ ستينيات القرن العشرين عاد الاهتمام بشعر الحلاج الصوفي وتسربت أبياته وأفكاره وشخصيته كمادة شعرية ضمن أعمال عبد الوهاب البياتي، أدونيس، ومحمد لطفي جمعة، كما غنى بشار زرقان أشعاره. ونختم بكلمات قالها الحلاج أمام الناس في بغداد: "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك، فاغفر لهم. فإن لو كشفت لهم ما كشفت لي، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم، لما لقيت ما لقيت".

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.