تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

القضاء التونسي يؤلف فصولا لـ"مسرح الواقع"

الثورة التونسية واقع أقوى من الحقيقة لأنها استطاعت فعلا أن تطمس سلطان وسلطة تلك الأنظمة الفاسدة التي كانت جاثمة على أفئدتنا، وتزيح عنا ذلك الضباب الكثيف الذي طالما غلف الواقع بأقنعة سميكة ظللت بصرنا وأعمت بصيرتنا عن الواقع الحقيقي للأنظمة الديكتاتورية.
ثلاثة وعشرون سنة من الظلم والقهر كانت أكثر من كافية لتؤجج نيران ثورة 14 جانفي، التي كان الفضل فيها للشباب التونسي، هو وحده من أذن باندلاعها لأن جلباب بن علي عجز عن احتوائه كما احتوى السابقين والمعارضين، إرادة الحياة بكرامة كانت أقوى من أيادي الظلم مجتمعة، لقد فعل الفتية ما عجز عنه الشيوخ والكهول وانتزعوا حريتهم من بين مخالب تنين الحكم وهذا لم يكن من السهل ولا بالهين. لكن اليوم في "مطبخ" الحكومة المؤقة تتخذ اجراءات منفردة وقرارات فوقية قد لا تخدم صالح المجموعة بقدر ما تخدم صالح المخلوع ورموز فساده وزبانيته الذين مازالوا يصولون ويجولون في البلاد بكل حرية بل ويحكمون ويقررون ويستبلهون الشعب التونسي ويحاولون سرقة ثورة الشباب ومصادرة ارادته والالتفاف على حقوقه عازفين طبول الحرية وملوحين بشعارات الديمقراطية.
اعتقد الشعب التونسي أنه حقق نصرا عظيما بخلع بن علي من الحكم واجباره على الهروب الى السعودية، وظن الكثيرون منا أن الطريق بدت جلية لتونس الغد التي ستفتح صفحة جديدة تتجلى فيها قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان لكن يبدوا ان نصره لم يكتمل بعد.
لعل ما جزء هام مما منينا النفس به بعد الثورة، لم يكن سوى أضغاث أحلام، فاللذين قفزوا الى المناصب ومواقع السلطة هم من الحزب الحاكم السابق، تربوا على مبادئ بن علي الذي لا مبدأ له ونهلوا من دكتاتوريته وهم اليوم يشرعون الى دكتاتورية جديدة.
وإن الافراج عن بعض "رموز الفساد" التابعين لنظام الرئيس المخلوع، والسماح لهم بالسفر خارج البلاد، يؤكد أن أرض تونس مازالت لم تطهر من دنس لوثة بن علي نهائيا.
فسجل وزير العدل السابق بشير التكاري، ليس بالطاهر ولا بالنظيف كما يريدون إيهامنا وإقناعنا بمسرحية كاذبة نعرف مسبقا احداث فصولها. التكاري لم يكن نظيفا ولن يكون في موقع الضحية فهو شريك فاعل للنظام السابق ومتواطئ معه في كل جنحه وجرائمه، وان كنا لسنا متفرسين في الثغرات القانونية مثله ولا نملك الوثائق التي تدينه فالتاريخ يدينه، وسجله الحافل بالاختراقات والجنايات والجرائم التي عشنا وقائعها تؤكد جرمه الفادح وخيانته الموصوفة للوطن وللأمة. فمن غيره ظهر على شاشة التلفزيون التونسي بعد الخطاب الثالث لبن علي يوم 13 جانفي 2011، ليحاول اقناع رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان مختار الطريفي ومن معه آنذاك بضرورة نسيان تاريخ بن على الأسود لبن علي والوقوف الى جانبه في المرحلة القادمة لانتخابات 2014.
التكاري متهم أيضا بأنه استغل نفوذه ليزور ملكية "المطعم الأزرق الكبير" بضاحية قمرت.
ووجه إليه المالكون الأصليون لهذا المطعم اتهاما صريحا ومباشرا مؤكدين أن التكاري مارس ضغوطه حتى تكون الأحكام غير منصفة لهم، واستمع قاضي التحقيق إلى البعض منهم، ثم أمر بإيداعه السجن بتهمة استغلال موظف لصفته لاستخلاص فائدة لا وجه حق له فيها أو لغيره ، فما الذي دهى إذن القضاء التونسي ليتراجع عن قراراته ويفرج عن التكاري!
وزير النقل السابق عبد الرحيم الزواري هو أيضا متهم بالتلاعب بصفقات عمومية في مجال النقل البري (مترو، حافلات...)، وبالفساد المالي في مجال النقل الجوي، وإسداء خدمات لـ بلحسن الطرابلسي ومع ذلك يقرر قضاؤنا الافراج عنه، سيدة العقربي المدانة بالجرم الموصوف والأدلة على ذلك لا تحصى ولا تعد، ومع هذا يفرج عنها لتسافر إلى باريس في رحلة استجمام ونقاهة!! انه تكريم ارتأت وزارة العدل ان توسم به البعض من رموز النظام السابق الذين روعوا ولوعوا الأرض والعباد في عهد المخلوع.
عديد نقاط الاستفهام تتبادر إلى أذهاننا ليس سببها حيرة فيما اتخذ من قرارات غير عادلة بشأن البعض من رموز النظام السابق، بقدرما هي اسئلة انكارية تحمل اجوبتها في استفهاماتها وهي أن قضاءنا التونسي أصبح متضلعا في كتابة فصول مسرح الواقع ألفناها وسئمناها من يوم محاكمة "السراب" ممثلا في شخص المخلوع، نحن اليوم أمام مؤسسة بن علي للقضاء التي لم ترتق يوما الى مرتبة النزاهة والاستقلالية، ووبناء فهذه المؤسسة تحتاج برمتها الى ثورة عاصفة تعصف بكل من في أروقتها من رموز الردة والشد إلى الوراء، من أصحاب الأيادي الملوثة وأعداء الثورة.
نحن في حاجة ملحة إلى قضاء نزيه وحيادي، يعمل في إطار الفصل بين السلطات، وسيادة القانون. لا بدّ أن تتوافر مقومات أساسية لمفهوم استقلال القضاء في الدولة ومن تلك المقومات:
أن يكون القضاء سلطة حيادية وليس مجداً ووظيفة، وأن يكون أساس قيام هذه السلطة النصوص الدستورية العليا في الدول والتي تعطي حق الاستقلال بها من أي ضغوطات وعدم التعرض والتعدّي عليها.
كما يجب أن يكون القضاء سلطة مستقلّة تعمل جنباً إلى جنب مع سلطات الدولة الأخرى في المحافظة على رعاية الحقوق والحريات الأساسية لأفراد المجتمع.
وأن يكون القضاء محايداً، بمعنى أن تصدر الأحكام بغض النظر عن الجهات المتخاصمة والمتنازعة ودون تمييز بينهم من أجل تحقيق العدالة والإنصاف وإرساء قواعد دولة القانون، وهذا ما لم يتح للقضاء التونسي بسبب الأنظمة المستبدة والفاسدة التي تغلغلت في البلاد لعقود طويلة وسخرته لصالحها فبات عاجزا عن التخلص من سلطتها. نحن بحاجة إلى مطهرات شديدة المفعول حتى يخرج الخبث، مثلما يدخل الحديد النار ليخرج خبثه ويصير صلبًا، لذلك لابد لكل فرد منا ان يكون العين الثاقبة لمثل هذه الممارسات الدنيئة التي مازلت تسيطر على القضاء التونسي. علينا أن نحرص كل من موقعه على المحافظة على أمن تونس ولا نجعل ثورتنا المجيدة تضيع هباء، إنه أقل واجب على كل أبناء تونس الشرفاء.
علينا جميعًا أن نعي مثل هذه الأمور، وأن نكون يدا متدة إلى الأمام لا يد ردة حتى يتحقق الهدف وتتكامل دواليب الدولة الديمقراطية المبنية على أسس وقواعد اجتماعية إسلامية، ثم ندع الشعب يختار من النخب من يشاء، ونحن نعول في هذا على وعي الشعب التونسي شيبا وشبابا ليكونوا على أهبة الاستعداد لذلك.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.