تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

إلى جلال خير بك بين معترضتين في عرس الدم

 

كثرت الأكف تدق بابي، فلم أميز طرقاتك.. على مدخل المشفى أحسست بالكارثة.. لي معه مواعيد مع الولادة والموت و بينهما عرسان..

 

عرس للحياة.. وآخر للدم ،هاهو يزهر اليوم في الربوع التي أحببنا.‏

في ظهيرة يوم شتوي كنا معا على خطوط الجبهة بسيارة «جيب واز» وكان لسوريتنا جبهة واحدة هي تلك التي تواجه العدو الصهيوني وأيام تمضي بقتال وبلا قتال بعد أن وضعت حرب تشرين أوزارها.. سمعتك وأنا خلفك في العربة تقول للسائق – نسيت اسمه علما أنني يوما سألت عنه وأخبروني أنه توفي في حادث أرأيت ؟ إنها كثرة الطرق على أبوابي -:‏

- شو رأيك تتركني أقود السيارة..‏

ارتبك السائق.. فهذا مخالف لتعليمات قيادة عربات الجيش وسلوك الضباط «في حينه» وارتبكت أنا.. فهذا مخالف لقناعتي بمستوى الضمان والأمن المطلوبين..‏

أنت أميل للتمرد.. للجرأة.. للمضي بسرعة.. للتحدي..‏

هل في ذلك كله ما يضمن سياقة آمنة للعربة؟‏

نفذ السائق ما طلبته ربما استجابة للطافتك أكثر منها استجابة لأمر ضابط.. وأخذت أنت المقود.. على الفور نظرت إلي وضحكت بصوت مسموع وقلت لي:‏

- خائف..‏

لم أجب واكتفيت بابتسامة مواربة.. قلت أنت:‏

- نحن ضباط على الجبهة وتخاف ..؟!‏

قلت لك ممازحا:‏

* ذكرتني..‏

وانطلقت بنا.. وانطلقت ضربات قلبي من عقالها.. لكن المفاجأة كانت.. قيادتك الهادئة للعربة التي أمنت لنا الخروج من المحنة.. وعندما تنفست أنا عميقا بعد أن وصلنا إلى مكان يمكن أن نستريح فيه، قلت لي:‏

- عن جد كنت خايف..‏

* بصراحة نعم..‏

- هل تظنني مغامرا.. أنا أحب الحياة.. ومازال أمامنا مشوار طويل للحب والحياة..‏

كل ما حفظته عنك بعد ذلك لم تقله لي.. أنا عشته برفقة شاءت لها الحياة أن تستمر طويلا.. خطوة ..خطوة منذ ضمتنا جريدة الثورة.. وحتى يوم رحيلك..‏

التقينا دائما على أن نتجاوز ما نختلف عليه.. فنحن متفقان على الحياة وسورية والصدق والأمانة.. وبصدق أقول كنت أنت أكثرنا صدقا مع الصداقة،ونجدة لها بالمروءة و سرعةالاستجابة.. لدرجة أنني كنت أستغرب منك تلك اللهفة على كل من تعرف.. وقد شهدت لك في أكثر من حالة مع أكثر من صديق.. كان آخرها مع الصديق الراحل حيدر علي.. هو أيضا كان يحب الحياة.. يا لطيف كم كان يحبها وسورية أيضا..‏

محبة الحباة وسورية ليست رهنا بالسوريين القوميين.. أبدا.. دون أن أنفي قنوات تصلنا بهم.. المرحوم الشهيد كمال خير بك، المرحوم علي أسعد عبود – والدي – وذكريات وطن.‏

هذا الوطن نسي أن يكتب ذكرياته يا جلال..‏

وطننا يهدده موت الذاكرة.. ها هو ينزف من جوانب عدة.. وخوف يتحدانا حتى الموت.. هذه المرة ليس على خطوط الجبهة على بوابات الجولان.. بل.. لا أعرف أين!؟ فمن أين لنا مرة أخرى بوسام الشجاعة درجة أولى، أو من أي درجة كانت !؟‏

أعرف أن ثمة قافية تنطق بها سواطير تقصّب سورياً، وتقول: الذبيحة والشبيحة..‏

ألهذا رحلت..‏

أنقذت مسامعك كي تنقذ روحك بالموت..‏

لم أميز كفك تدق بابي.. فقد ازدحمت الأكف واشتد الطرق.. وحين وصلت المشفى وسمعت الرواية أصابتني قشعريرة الرحيل.. تعمدت الضحك.. كان هلال ومضر وأوس.. ضحكت متعمدا كي أخفي البكاء..‏

من حقي أن أبكي.. أنت صديقي.. وبيننا عشرة عمر.. وحب سورية والحياة.. لكن لا تؤاخذني يا صديقي إن كانت سورية والحياة أجدر بالبكاء..‏

غدا سأقصد القرداحة.. أول مرة دخلتها كنت معك.. وكنا نبحث عن عائلات الشهداء في عمل إعلامي له علاقة بحرب تشرين..‏

عندما أصلها سأقوى.. لن أبكي.. سأقوم بالواجب الاجتماعي وأغادر.. لن أبكي.. سأقوى وأنتظر موعدا للغد مع سورية والحياة..‏

في ذاك المشوار الذي كنا معا وزرنا القرداحة.. ارتبكنا أنا وأنت بلقاء أسر الشهداء.. كان الموت يترك ظلاله على الأرواح.. شهداء أو لا شهداء.. الموت هو الموت.. وذات صباح قصدنا منزل والد شهيد من القوى البحرية.. أعتقد أن اسمه سليم صقر وابنه ضابط واستشهد.. كان يجلس على سرير وبيده عكاز وعلى رأسه غطاء على شكل لفة طربوش، شيء من هذا القبيل.. أتذكره كبير الجسم.. وعندما سألناه عن ابنه الشهيد فاجأني قائلا:‏

من لم يمت بالسيف مات بغيره ‏

تعددت الأسباب والموت واحد‏

أصحيح يا جلال.. هل للموت طعم واحد..‏

نحن لم نمت على الجبهة ولم نذق طعمه.. لكننا رأيناه.. بين ذاك الموت.. والموت اليوم يحاولون نشره في سورية.. لا أتخيل أن للموت طعم واحد..‏

موتك يترك لي طعم أن أعيش الحياة فأشهد موت أصدقائي.. وأرى الموت حصارا يتحدى سورية .‏

                                                                                                                                                          أسعد عبود

يتقدم العاملون في محطة أخبار سورية بنبيل عزائهم الى عائلة الزميل المرحوم جلال خير بك راجين من الله أن يرحمه ويدخله فسيح جنانه وأن يلهم العائلة الكريمة الصبر والسلوان.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.