تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

اليوم الثامن عشر: مصر حرّة عربيّة

 

بقلم: د. بثينة شعبان
كأن تونس الخضراء الهادئة قد قُدّر لها أن تكون الشرارة التي تفجّر الحدث الأهم في تاريخالعرب الحديث، وكأن محمد البوعزيزي الذي حرق نفسه احتجاجاً على إهانة كرامتهالشخصية، قد أشعل فتيل استعادة الكرامة العربية. ولكن عندما تكون مصر في قلب الحدث،فإنه هنا سيكون مختلفاً عن أي حدث آخر شهدته بلدان عربية عديدة خلال العقودالماضية. السبب الأول هو أن الحدث هنا تصنعه جماهير أم الدنيا، وهم صنّاع العبور،وبناة الأهرام، ومفجّرو ثورات التحرير العربية من الاستعمار.
والسبب الثاني هو أن مصرالتي أخرجها، قسراً، طاغية من الصراع العربي – الإسرائيلي، طوال عقود ثلاثة ثقيلةبعار تواطؤ طاغية آخر مع العدو، أضعف إخراجها العرب بشكل أصابهم الهوان والذل وهميرون الغرب يسلّح إسرائيل بالغطرسة، والتعنت، ويسلّح أنظمة الاستسلام بالدكتاتوريةوالقمع والاستبداد، وفي ظلام المهانة القومية هذا انتعشت الصهيونية. يقول نتنياهو: (استمتعنا بثلاثين عاماً من الهدوء والطمأنينة). هاجمت خلالها إسرائيل لبنانوفلسطين يومياً، وشنّت عليهما عدة حروب، بالإضافة إلى تماديها في التنصّل من السلاموتوسيع الاستيطان، وتزايد خلالها تطرّف قادتها.
والسبب الثالث، هو أن مصرطيلة هذه العقود كانت تقيّد شعبها وتستفزّه يومياً، عندما يرونها الحليف الأولللغرب وإسرائيل، ولذلك ظل الغرب (الحرّ الديمقراطي) طوال ثمانية عشر يوماً عاجزاًعن دعم ثورة الحرية والديمقراطية التي يدّعون تأييدها في بلدان أخرى. والسبب الآخرهو أن مسار الديمقراطية العربية التي أرادها بوش وجلاّدوه وجنرالاته مساراً ملطخاًبعار الاحتلال الأجنبي، أصبح الآن مساراً مزيناً بانتصار إرادة الجماهير على الطغاةوالقمع. كل هذه الأسباب درجت على أن تضع الشعب العربي في آخر حسابات الطغاةالمحليين، وعبر الأطلسي، حيث لم يتوقع أحد ثورة هذا الشعب، ولذلك يعبّرون عن صدمتهممن حجم التضحيات والشهداء الذين قدمهم هذا الشعب العظيم بسخاء، والذين أضاؤوا طريقالحرية والانتصار إلى أن تحققت مطالبه بالحرية والكرامة. ‏
واللافت للعرب جميعاً،وربما للعالم، أمران اثنان: أولهما، موقف الشعب العربي من المحيط إلى الخليجالمتضامن مع ثوّار ميدان التحرير وكفاحه المشرّف من أجل الحرية والكرامة، مقارنة معموقف الولايات المتحدة والغرب عموماً، وإسرائيل بشكل خاص، ضد هذا الكفاح. لقد برهنتفاعل العرب مع ثورة الحرية، أن اتفاقية سايكس بيكو لا قيمة لها في قلوب وضمائرالعرب، وأن التوق العربي للحرية في ظلّ العروبة السمحة مازال يجيش في قلب وروح كلّعربي. ‏
وهذا هو العنصر الأول الذيحاولت إسرائيل وحلفاؤها في الغرب طوال عقود طمسه من وجدان، ومناهج، وأحاديث،وسياسات العرب جميعاً، محاولة بدلاً من ذلك مرة بعد أخرى، بثّ الفرقة والفتنةوتعزيز الحدود الفاصلة لتكون بديلاً عن القواسم الرابطة بين العرب، إلى درجة أنمراكز الأبحاث الغربية تسألنا لماذا نتحدث عن فلسطين ونحن سوريون، أو مصريون، أولبنانيون؟ غير مدركين أن أواصر التاريخ، والثقافة، والدين، واللغة، والكفاحالمشترك، عابرة لتلك الحدود المصطنعة التي رسمها المستعمرون لنا، واليوم برهنت أنهاعابرة لعقود من الاحتلال الفكري، والتدمير الوجداني، وحملات التشويه المنظمة التييقوم بها الكيان الصهيوني للحطّ من قدر العرب في المنطقة والعالم. ‏
أما موقف الولايات المتحدةوالغرب برمته وإسرائيل من ثورة الحرية في الوطن العربي، فهو الموقف الذي يجب أنيحدّد مستقبل العلاقات العربية – العربية من جهة، والعلاقات العربية – الغربية منجهة أخرى. وسوف أعكف فوراً على شرح الأسباب. أقل ما يقال في الموقف الأميركي، هوأنه كان متردداً، ومتناقضاً، ومشتتاً، ومتواطئاً مع إسرائيل لحقن نظام مباركبالحياة وبشكل لا يليق بدولة عظمى تدّعي الدفاع عن الحرية، وتشنّ الحروب لنشرالديمقراطية. والسبب في ذلك هو ربما، حال الصدمة والارتباك الذي أصيبت به الإدارةالأميركية نتيجة هذه المفاجأة التي فجّرها الشعب العربي في تونس أولاً، ثم في مصر،والتي تشكّل استهلالاً يليق بقرن جديد، وحقبة تاريخية يصنع العرب فيها التاريخ ولايسجلونه فقط. وأقلّ ما يقال في الموقف الأميركي أيضاً، والغرب عموماً، هو أنهمتناقض مع كلّ قيم الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، التي مازالوا يوهمونالعالم أنهم يلتزمون بها، أو أنها ذات قيمة في سياساتهم وخططهم الاستراتيجية. فقدسقطت آخر ورقة توت من هذا النفاق الغربي، والذي دفع الشعب العربي أثماناً له منذقيام الكيان الصهيوني في منتصف القرن الماضي. وأيقن كلّ عربي اليوم، أنّ المحركالأساسي لسياسات الغرب في الشرق الأوسط، هو قيام إسرائيل بفرض هيمنتها على العرب،بهدف الاستيلاء على أرضهم، وسحق طموحات العرب بالحرية، والكرامة، والديمقراطية. والغربيون مستعدون من أجل ذلك أن يغضوا النظر عن قتل وتعذيب آلاف العرب فيغوانتانامو، وأبو غريب، وسجونهم السرية، وأيضاً أمام شاشات التلفاز في ميدانالتحرير. ولا يعني لهم مئات الشهداء والعرب من أجل الحرية، وآلاف الجرحى شيئاً، بلالمهم بالنسبة لهم هو استمرار استيطان اليهود لكامل فلسطين وحرمان شعبها العربي منالحرية، لا بل قد يكون البلاء الذي ابتلي به المتظاهرون في الشوارع وسقوط هؤلاءالشباب والشابات شهداء، من تخطيط هذه الدوائر الموالية للصهيونية العالمية. وأصبحالعرب يعلمون علم اليقين اليوم، أن الغرب يوالي بعض الحكام العرب بقدر ما يوالونإسرائيل، وأن الأنظمة العربية تنال رضا الغرب بقدر ما تنال رضا إسرائيل، وأن قرابةأربعمئة مليون عربي لايعنون شيئاً لأوباما، وأشتون وغيرهم من السياسيين الغربيينالذين أصبحوا صمّاً بكماً فجأة، وهم الذين كانوا سليطي اللسان على إيران أحمدينجاد. ‏
الهدف الأساسي من كل سياساتالغرب في المنطقة هو إسرائيل، ومن ثم مصالحهم في النفط، ونهب موارد شعوبنا عبرالأموال التي يبيّضها الفاسدون من الحكام في مصارفهم وشركاتهم واقتصادياتهم. كمااتضح للجميع اليوم أن المنظار الذي يرى به الغرب العربيّ، هو المنظار الإسرائيلي،وهو الذي أعلنته غولدا مائير (العربي الجيد هو العربي المدفون ثلاثة أمتار تحتالأرض). ومن هنا يمكن لنا استذكار أن انحطاط العرب، ورداءة حياتهم، قد تناسبت طرداًمع قيام إسرائيل وتوسعها المضطرد في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد كان الكيانالصهيوني رأس الحربة في تشويه صورة العرب ووصمهم بالإرهاب بعد أحداث الحادي عشر منأيلول، وكان الكيان أيضاً رأس الحربة في التجييش على شنّ الحرب الأميركية علىالعراق، وشنّ حروبها على لبنان وغزة تحت حماية أوروبا والولايات المتحدة. ‏
إن أناساً مثل اليوتابراهامز، وهو من عتاة المحافطين الجدد، قد قفز إلى الساحة ليثبت أن سياسات بوشكانت صحيحة، وأن بوش هو الذي سأل عن شعوب الشرق الأوسط، وما إذا كانوا غير قابلينللعيش بحريّة، وما إذا كانوا محكومين بثقافتهم وتاريخهم للعيش في ظل الاستبداد (مقتبساً هذا من خطاب للرئيس بوش في تشرين الثاني 2003). والجواب المصري اليوم، هوأن الشعب العربي يعلّم العالم كيف يكافح من أجل الحريّة، ولكن ليس على طريقة بوشالإجرامية، حيث تم قتل مليون إنسان من أجل سواد عيون إسرائيل. فقد نشط المحافظونالجدد ليبرهنوا أنهم كانوا محقّين في دعوتهم للحرية والديمقراطية، أي في شنّ الحروبعلى دولنا، وسرقة آثارنا، ونهب نفطنا، وتدمير أمننا باسم الحريّة والديمقراطية،فيما هم حماة الطغاة. ‏
والجواب الذي يقدّمه الشعبالعربي في مصر اليوم لأنصار أوباما وبوش، هو كفاكم سجالاً، فالشعب العربي اليوميتوق للحرية التي هي من صنعه هو، وبطريقته هو، ولأسبابه التاريخية والاجتماعيةوالمستقبلية هو، ولا ثقة اليوم بصداقات كاذبة، وعناوين وهمية، وادّعاء باحتضان ( القيم الغربية), فقد تبيّن (الرشد من الغيّ ), ولن تتمكّن أي قوة في العالم من خداعالعرب مرة أخرى. ‏
إن ربيع الحريّة الذي حلّعلىشوارعنا العربية، هو الحدث الأعظم في تاريخ العرب منذ ثورات التحرير الشعبيةالتي وضعت حداً للاستعمار الغربي وأنظمته العميلة، لأن التحرير اليوم هو لإرادةالعرب النابع من الإيمان بأن عصر الذلّ قد ولّى، وأن فجر العزّة والكرامة والحريّةقد أشرق، وأيّ مكان أنسب لهذه الإشراقة من ميادين أمّ الدنيا. ‏
إن ردود الفعل الغربية تدلّعلى أن الغرب لم يستوعب الصدمة بعد، وهذا أمر طبيعي، لأن هذه الصدمة يجب أن تنقلهمن اعتبار العرب إرهابيين، إلى الاعتراف أن العرب بناة حضارة، وأصحاب قيم، وأنهميأبون الضيم، ويعشقون الحريّة، ويموتون بكرامة من أجل الديمقراطية، وأن العروبة هيالعنصر الجامع لهم، وهي المحرّك لوجدانهم، ولن تستطيع قوة انتزاعها منهم. ‏
 
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.