تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

مسيحيو الشرق

محطة أخبار سورية

لو استطاع الميت اختيار ما يُقرأ في مأتمه لاخترت عندئذ سورة مريم. مريم التي نسميها (سيدتنا مريم), ابنة بلادنا التي تخاطفتها كتب التاريخ العربي فذكرت مرة أنها أوت إلى الربوة في دمشق، وأبقتها مرة في بيت لحم والناصرة. في هذا السياق أسست التربية الروحية الإسلامية التقليدية احترام السيد المسيح، ومنعت بوصية عمر بن الخطاب المسّ بالمنقطعين في صوامعهم. وقدم المسلمون النذور لكنيسة البشارة في فلسطين. خرج السيد المسيح إلى العالم من بلادنا العربية، وصورتُه الغربية إنما هي نسخة! يصعب أن يُذكر نهر الأردن وبيت لحم والقدس دونه.

 

ولا يمكن أن نتصور مجتمعنا دون أن يكون المسيحيون في لحمته. لذلك لم يميز الغزاة الفرنجة في القتل مسلمي القدس من مسيحييها. ويوم تحررت المدينة عادت لهم جميعا. ‏

من أي ظلمة، إذن، خرج مفجرو كنائس الشرق؟ عادت الغوغاء إلى سنة 1860 لتسوّغ التدخل الاستعماري! فاللعب بقدر العالم، ورسم خرائطه الجديدة يشترط سفك الدم حتى في الكنائس والمساجد. ليؤكد أن لا مقدسات يلجأ الناس إليها في المحن، وحضن الغرب هو الملجأ! هكذا تنقضّ الغوغاء وأباطرة العالم، معاً، حيث تشف الروح في رجاء إلى الله كي ينقذ عالماً يغرق بالمياه، ويحترق بالنار، ويجور عليه أغنياؤه، ويسطو عليه فاسدوه. عالماً يدير معامل اللقاحات فيه من أدار الحرب على العراق وأفغانستان، وتربح شركاته من تسليح الجنود ومن معالجة جرحاهم، ومن هدم المدن ومن إعادة إعمارها! ‏

 

تطلع البشر في رأس السنة إلى السماء وأطلقوا في فضاء الكون رجاءهم. ولكن، كأنما أصبحت حتى العلاقة بالإله ممنوعة إذا لم تكن مسلحة وشرسة! ولاعطلة أعياد وقت تنضج الشروط لتنفيذ الخرائط وتمزيق الوطن بمعازل إثنية ومذهبية! فالقهر والغبن فتح الطريق الآمنة، واستقدم لحظة التفكيك الذهبية! أليس جلد شابة إعلان مشجع على التقسيم؟ في القرن الحادي والعشرين، في زمن كشف الجواسيس والوثائق، في زمن الحواسيب والاتصالات والطائرات دون طيار، في زمن الطاقة البديلة من الشمس والرياح، تجلد امرأة قبيل استفتاء على مصير وطني، ويُقهر غير المسلمين على ما يرفضه المسلمون؟! ‏

 

يقال: (رمى مجنون حجراً ألف عاقل ما شاله). وقد سرح في الوطن العربي كثير من المجانين، وأوهمونا بأننا نظل نملك الزمن ونربطه حيث نشاء. لكن العقلاء يجب ألا يسمحوا، بعد اليوم، للمجانين والمجرمين والأغبياء بأن يرموا متفجراتهم على المصير العربي ويمزقوا البنية الإنسانية التي سبَكها التاريخ! كي يرتفع دائما السؤال: من العدو؟ كي نتذكر أن إسرائيل لا تلغي أبداً مشروعها لتفتيت البنية الجغرافية والبشرية والاجتماعية والاقتصادية العربية، مهما وقّعت من اتفاقيات! كي نتذكر أن إسرائيل تفترس أي قوة عربية تغرس فيها مخالبها! من يُجب على السؤال من العدو، يعرف أنه يجب أن يواجهه بأمن قومي. ‏

 

لذلك لا يقصد تفجير الكنائس المصلين فيها فقط. فهو عمل سياسي يقصد العراق كله ومصر كلها. يقصد أن نتوهم أن المصائب دينية وليست سياسية. ويغطي هجوم العنصريين الصهيونيين على الأوقاف المسيحية والإسلامية في الأرض المحتلة. فيغيب الصراع المركزي العربي- الصهيوني تحت أنقاض الكنائس والمساجد المنفجرة وأشلاء الضحايا. ‏

 

يبدو أن مصر اليوم هي البلد العربي الذي تسعى إسرائيل لتفكيكه، بعد السودان. وينبه هذا إلى خطر شعارات (لبنان أولاً.. مصر أولاً.. الأردن أولاً.. إلخ). فانسلاخ أي بلد عربي عن الصراع العربي الإسرائيلي يعزله، ويسلبه قوته ومكانته، فيسهل تفتيته. أما من يبقى وسط الصراع فيزيد من يقظته ويشحذ قوته. ‏

 

وبعد، نستنتج من الأحداث، من الأطلسي إلى الفرات: أولاً، أن الأمن القومي يصلّب بالأمن الاجتماعي والاقتصادي وحقوق المواطنين العرب في ثروات بلادهم. ثانياً، أن العدالة تثبّت التنوع كثمرة حضارات احتضنتها الأرض العربية، وتحصّن البنية الاجتماعية بهويتها الثقافية تحت خيمة التاريخ المشترك. ثالثاً، أن السياسي الذي لا يتميز برؤية وطنية وإنسانية واسعة يسهّل انهيار بلاده. رابعاً، أن الأمن القومي العربي مترابط، فلا يمكن أن يدمر مجتمع عربي ويبقى مجتمع عربي آخر سليما. لا يمكن أن تخنق غزة وتبقى مصر سليمة. فالمسألة هي: مَنْ ضحية إسرائيل الأولى ومَنْ ضحيتها التالية!‏  

                                                         * -د. ناديا خوست

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.