تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

العرب البيزنطيون

محطة أخبار سورية

يروى أن بيزنطة وهي إحدى أشهر المدن الإغريقية القديمة الواقعة على مضيق البوسفور كانت قد تعرضت لهجوم وحصار طال فترة زمنية طويلة، وبينما كان محاصروها يقصفونها بالمنجنيق كان رهبانها وعلماؤها في الكنيسة الكبيرة، يتجادلون فيما بينهم حول قضايا خلافية لا فائدة منها ولا جواب فيها! فكان انشغالهم بهذا الجدل العقيم سبباً لانشغالهم ومن ثم انقسامهم الذي أدى في نهاية الأمر إلى انصرافهم عن قتال أعدائهم، فكانت النتيجة أن سقطت بيزنطة. ومن هنا أتت عبارة الجدل البيزنطي لتدل على أي نقاش عقيم لا فائدة منه.

وبرغم أن الروايات تختلف حول الموضوع الذي انشغل به حكماء بيزنطة لدرجة فقدانهم مدينتهم وفيما إذا كان هو السعي لتحديد جنس الملائكة وهل هم ذكر أم ُأنثى؟ أم هو الجدل حول طبيعة السيد المسيح، وهل هو إنسانٌ أم إله! أم هو، كما تقول روايات أخرى، تحديد أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة وبيان كم هو عدد الشياطين التي تستطيع أن تقف على حبة شعير!! ولكن أيّاً كان موضوع نقاشهم وجدلهم فقد بات مثلاً دخلوا من خلاله التاريخ من أسوأ أبوابه. وأخشى أن العرب ماضون خلفهم وعلى هداهم بل إنهم يكادون يتفوقون على معلميهم البيزنطيين في الإغراق بكم هائل من القضايا الخلافية العميقة والتي لا فائدة منها ولا رجاء، لدرجة أن عبارة «الجدل العربي» ستحل قريباً مكان عبارة الجدل البيزنطي التي تكاد تتضاءل وتفقد قيمتها وأهميتها أمام ما يرتكبه العرب من مآسٍ جدلية وكوارث خلافية برغم كل المخاطر والتحديات التي ُتحيط بهم. ‏

ففي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل حصار غزة وتهويد كل فلسطين وتغيير معالم القدس وتعريض المسجد الأقصى وكنيسة القيامة لخطر الزوال والتدمير واستباحة عواصمنا العربية بلا استثناء واستمرار احتلال العديد من الأراضي العربية واستهداف رجال المقاومة بهدف اغتيالهم في كل مكان وفي أي زمان فضلاً عن التوسع بمشاريع الاستيطان وتعزيز ترسانتها العسكرية وإحكام رسم وتنفيذ مشاريع الفتنة والتقسيم في أكثر من دولة عربية!! ‏

وسط كل هذا نجد أن العرب ما زالوا منشغلين في جدل عقيم، على طريقة أهل بيزنطة، حول المقاومة وهل هي حلال تستوجب الدعم والتأييد أم أنها حرام تقتضي المنع والتجريم!! وهل اسم الجامعة العربية ما زال صالحاً ومناسباً ما يستوجب الدفاع عنه والحفاظ عليه أم أن من الأنسب تغييره ليصبح اتحاداً أو أي شيء آخر! وهل ُمسمى الأمين العام ما زال مقبولاً أم من الأفضل استبداله بلقب المفوض ؟ وهل من الأنسب أن نتعاون مع دول الجوار أم لا.. وهل إيران من ضمنها أم ماذا؟ وهل من يدعمنا ينبغي أن نشكره أم نعاديه! وهل الصحابة كانوا على صواب منذ قرون أم لا؟ وهل ينبغي أن يسبق التطبيع السلام أم يلحقه؟ وهل المصالحة الفلسطينية أولى من مصالحة إسرائيل أم أقل أهمية منها؟ ‏

وهكذا يستمر جدلنا العقيم مع كل قضية وفي كل مناسبة وهو جدل يستهدف بالدرجة الأولى أن نبتعد عن جوهر القضية ونتجاهل سبب المشكلة لنفقد بالتالي بوصلة الحل. ‏

علماً أن من يجادلون ومن يبتدعون قضايانا الخلافية هذه هم أكثر الناس معرفةً بعقم وانعدام فائدة كل ما هو مطروح من نقاش فلو أخذنا البدائل المتداولة الآن بعد أن ثبت فشل المفاوضات المباشرة وأثبتت إسرائيل مجدداً أنها غير راغبة بسلام حقيقي ، مهما كان عادلاً، فإنه سيكون بالضرورة على حساب العرب. وبرغم ذلك فقد بدأنا الدخول منذ الآن بجدل عربي / بيزنطي جديد حول الخطوة القادمة فهل ينبغي أن نذهب إلى مجلس الأمن أم إلى الجمعية العامة ؟ وهل نعلن الدولة الفلسطينية أم نؤجلها ؟ وهل نلجأ لمحكمة العدل الدولية أم لا؟ علماً أن كل الجدل والانقسام الذي بدأ حالياً وسيتعزز لاحقاً حول أولوية هذه الخيارات لا قيمة له ولا فائدة منه فالفيتو الأمريكي سيكون جاهزاً لإحباط أي مشروع قرار عربي في مجلس الأمن. وأما الجمعية العامة فلا قوّة ملزمة لمعظم قراراتها وخاصةً تلك المتعلقة بقضايانا وما أكثرها في سجلاتها. وأمّا الإعلان الانفرادي للدولة الفلسطينية فلا جدوى منه إن لم يقترن باعتراف ودعم دوليين كبيرين علماً أنه سبق للرئيس الراحل ياسر عرفات أن أعلن دولته الفلسطينية منذ العام 1988 في أحد اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر آنذاك. ‏

وأما خيار محكمة العدل الدولية فهو لن يكون إلا عبر الجمعية العامة أو مجلس الأمن ومن خلال طلب رأي إفتائي واستشاري سيشكك الكثيرون في مدى إلزاميته، فضلاً عن أن محكمة العدل الدولية لن تعطينا أكثر مما منحتنا إياه بمناسبة رأيها الاستشاري حول قضية جدار الفصل العنصري وهو الرأي الذي ظل حبراً على ورق، في حين ازداد جدار الفصل توسّعاً ووحشية. ‏

أن هذا لا يعني أن خيارات العرب قد تلاشت أو تضاءلت وأن مشاعر اليأس والإحباط هي التي ينبغي أن تسود وتسيطر، فبعيداً عن أي جدل عربي عقيم فلا ُيمكن لأحد أن يتجاهل أن ثمة بدائل أخرى اختارت الفعل لا الجدل فقاومت ومانعت وحققت انتصارات أقر بها المهزومون وقلل من شأنها أهل البيت المجادلون!! ‏

وهو ما ينبغي أن يكون محلاً للعمل والإبراز شعبياً وإعلامياً لمواجهة إمبراطوريات إعلامية متخصصة بإثارة الجدل ومعنية فقط بتسويق ثقافة اليأس والهزيمة وتسويق خيار الاستسلام كأفضل البدائل الُمتاحة أمامنا ومتجاهلةً أن ثمة خيارات وبدائل ُأخرى لا تزال ممكنة وُمتاحة وفعّالة وقابلة للتطبيق خاصةً إن حظيت بإجماع مطلوب وتمت وقايتها من جدل عربي مذموم يكاد ُيدخلنا التاريخ من أسوأ أبوابه!! ‏

 

 

 

 

 

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.