تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الراعي والذئب... والأمم المتحدة

محطةأخبار سورية

يحكى قديماً أنه كان يوجد راعي أغنام في الجبال، شعر ذات يوم بالملل، فنادى أهل القرية بذريعة وجود ذئب يُهاجم قطيعه وبالفعل صدقه رجال القرية الذين هبّوا لنجدته قبل أن يكتشفوا كذب روايته. وبعد فترة كرر الراعي القصة ذاتها فصدقوه مجدداً قبل أن يعودوا خائبين وهو ما تكرر أكثر من مرّة.. إلى أن هاجمه ذات يوم ذئب حقيقي فبدأ يصرخ طالباً دعم ومساندة أهل قريته الذين ملّوا منه ولم ُيلبوا نداء استغاثته بعد أن اكتشفوا كذبه وخداعه فلم يعودوا يصدقونه.. وهكذا مات الراعي وماتت الأغنام.

وهو ما يكاد ينطبق تماماً على تجربتنا مع الأمم المتحدة التي تنعقد هذه الأيام اجتماعات جمعيتها العامة والتي ستحفل كالعادة بمئات الخطابات وآلاف الصفحات وملايين الكلمات التي تتحدث عن قيم السلام والعدل والمساواة التي قامت عليها هذه المنظمة العريقة منذ أكثر من ستة عقود.. دون أن نجد تطبيقاً لأي منها على أرض الواقع.. فلا السلام تحقق.. ولا ساد العدل.. فيما المساواة تقف خائبة على باب قاعة قريبة للجمعية العامة حيث مجلس الأمن الدولي الذي يكفي أن يقول أحد عظمائه الخمسة لا مستخدماً الفيتو حتى ينقض أي قرار ولو أجمعت عليه كل دول العالم وشعوب الأرض بلا استثناء!! ‏

فما أشبه الراعي الكاذب بالمهيمنين على الأمم المتحدة والذين اعتادوا دعوتنا يوم الثلاثاء الثالث من شهر أيلول من كل عام لنكتشف بعد تلبية الدعوة وتصديق الخطاب أن لا شيء مما ُيقال ُنفذ ولا وعد تحقق. فإذا كانت نهاية الراعي هي الموت مع قطيعه فكيف ستكون نهاية قصتنا نحن مع الأمم المتحدة؟ ‏

يتعين علينا أن نكون واقعيين في تقييم تجربتنا مع الأمم المتحدة فهذه منظمة أنشأها الكبار المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لترسيخ تفوقهم العسكري وانتصارهم الحربي وتحويله إلى هيمنة سياسية وقانونية تحت مظلة دولية فكانت هذه المنظمة التي رسم الكبار خطوطها وصاغوا ميثاقها في مؤتمرات عدّة جمعت روزفلت وتشرشل وستالين أو ممثليهم الذين صاغوا مطالبهم ورسخوا امتيازاتهم في مؤتمر دومبارتون أوكس الذي اقتصر عليهم قبل أن يجمعوا بقية دول العالم التابع لهم في مؤتمر سان فرانسيسكو والذي اقتصر دور المشاركين فيه على المصادقة على امتيازات الكبار والتصفيق لهم. ‏

ومن هنا يتعين علينا أن نفهم فلسفة ما يجري فبعيداً عن كل الأهداف والمبادئ الجميلة فهذه منظمة امتيازات الكبار ومن لا ُيعجبه هذا الواقع فربما عليه أن ُيفكر بالرحيل أو أن ُيقدّم البديل الواقعي القابل للتنفيذ، طوعاً أو بوسائل أخرى، وليس من خلال تمني أو تبني الحلول السحرية الحالمة كإلغاء سلطة الفيتو الممنوحة للخمسة الكبار الُمبشرين بالجنة في مجلس الأمن!! لأن هؤلاء الكبار كانوا شديدي الذكاء والدهاء فوضعوا في الميثاق ذاته نصاً يعتبر أن أي تعديل للميثاق، كإلغاء الفيتو أو توسيعه أو تقييده، إنما يحتاج إلى أغلبية ثلثي أعضاء الأمم المتحدة إضافةً إلى ضرورة موافقة الخمسة الكبار على هذا التعديل، وهنا يملك هؤلاء سلطة الفيتو لإجهاض أي تعديل قد ينتقص من سلطاتهم وامتيازاتهم بمعنى أن إلغاء الفيتو سُينقض بالفيتو ذاته. ‏

وحتى نكون منصفين فلا يجوز إنكار أن الأمم المتحدة قد حققت إنجازات في مجالات مختلفة من خلال إبرام الكثير من المعاهدات الدولية لتنظيم إدارة العلاقات الدولية، ولكن ما فائدة كل هذه المعاهدات إذا كانت ُتطوى أو ُتنتهك بمجرد تعارضها مع مصالح الكبار أو المحميين من قبلهم؟ ‏

فما أهمية كل قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف إذا كانت الدول الكبرى لا تحترمها في حروبها كما حدث في الصومال والعراق وأفغانستان؟ ‏

وما قيمة كل نصوص القانون الدولي الجزائي ومحاكمه الدولية إذا كانت عاجزة عن سوق مجرم حرب إسرائيلي واحد إلى منصات العدالة؟ ‏

وما جدوى نصوص اتفاقيات حظر أسلحة الدمار الشامل إذا كانت إسرائيل بترسانتها النووية ُمحيّدة عنها وخارج دائرة رقابتها ومساءلتها؟ ‏

والمفارقة هنا أن النجاح الجزئي لبعض منظمات الأمم المتحدة في مجالات محددة إنما هو فشل ممارسات أجهزة أخرى تابعة للأمم المتحدة ذاتها. فسعادة البعض وافتخاره بالمساعدات التي تقدمها مفوضية الأمم المتحدة للاجئين على سبيل المثال.. يتجاهل أن قضايا اللاجئين وتكدس أعدادهم إنما كانت نتيجة حروب الكبار الُمسيطرين والُمهيمنين على الأمم المتحدة في أغلب الحالات، كما هو الحال في العراق، أو لسبب عجز مجلس الأمن عن إيجاد تسوية سلمية لمنازعات دولية أو داخلية أخرى بسبب تعارض المصالح وتضاربها بين كباره مما يشل قدرته ويجعله عاجزاً عن ممارسة صلاحياته الواسعة المنصوص عليها في الميثاق. ‏

وجهود الأمم المتحدة في مجال مواجهة الفقر تتناسى أن سبب هذه المشكلة هو استنزاف ثروات دول العالم الفقيرة من قبل الدول الاستعمارية، التي تهيمن الآن على الأمم المتحدة، في مراحل تاريخية سابقة.. علماً أن هذه السياسة لم تتغير بعد باعتبار أن المستعمر وإن كان قد رحل شكلياً إلا أنه أبقى في الكثير من دول العالم ومستعمراته السابقة أنظمة حكم لا تزال تؤدي الدور ذاته والمهمة بالوكالة عن المستعمر القديم ولحسابه!! ‏

وهكذا باتت الأمم المتحدة، من خلال المهيمنين عليها، كمن يجرح كثيراً ويداوي قليلاً وهو ما لا يجعلنا نحس بمشاعر الامتنان والعرفان. ‏

والخطورة في كل ما يجري أنه وقبل إنشاء منظمة الأمم المتحدة كانت ُتوجد منظمة دولية أخرى تؤدي الدور نفسه والمهام ذاتها وهي عصبة الأمم التي ُوجهت لها الاتهامات ذاتها التي ُتوجه الآن لمنظمة الأمم المتحدة، من حيث الفشل والتسييس والعجز وازدواجية المعاملة، فانهارت وكان هذا إيذاناً باندلاع نيران الحرب العالمية الثانية وهو ما لا ُنريد تكراره من جديد. ‏

وبرأيي يبقى أمام الجميع أحد حلين : فإما أن يقتنع الكبار الُمهيمنون بخطورة ما يجري وعدم جدوى تسويق الأوهام والأكاذيب ذاتها عاماً بعد آخر فيرضخوا لفكرة إجراء إصلاحات جذرية عادلة ومتوازنة في بنيان هذه المنظمة الدولية بصورة تعزز من قدرتها على تحقيق أهدافها السامية النبيلة، أو فلينسحب منها المعترضون عليها والمتضررون منها.. فما فائدة البقاء في منظمة ُيهاجمونها ليل نهار ويتضررون من سياساتها كل الأوقات.. علماً أن هذا السيناريو لا فائدة منه ولا قيمة له إلا إذا تم بصورة جماعية شاملة من كل الُمنتقدين والُمتضررين وما أكثرهم. فإذا لم ينجحوا بتوحيد جهودهم وتجميع كلمتهم فلا قيمة لكل اعتراضاتهم وكلماتهم الإنشائية الرنانة. وعندئذ سيتكرر سيناريو الراعي والذئب مجدداً علماً أنه في تلك القصة يكون الهلاك هو نصيب القطيع والراعي الكاذب معاً في حين أنه وفي قصتنا مع الأمم المتحدة يبدو أن القطيع وحده هو من يتحمل الأذى والعقاب ليستمر الراعي كل عام، ومنذ أكثر من ستة عقود، بترديد الأكاذيب ذاتها في ظل التواطؤ مع الذئب الذي لا يفترس إلا قطعان الخراف.. وما أكثرهم في هذا العالم!! ‏

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.