تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

انتظار كلمة «ولي الدم»: تبرئة إسرائيل اغتيال ثانٍ لرفيق الحريري

 

 

 

يكاد اللبنانيون، المختلفون في ما بينهم حتى على البديهيات، يتفقون على أمر جوهري وحيد عنوانه: دعوا الشهيد رفيق الحريري يرتاح في جوار ربه، وأوقفوا محاولات اغتياله المتجددة المتعددة الغرض، والتي لا تستهدف ـ بأي حال ـ الوصول إلى الحقيقة وكشف المخططين والمدبرين والمستفيدين الكبار من تلك الجريمة النكراء، قبل المنفذين ـ الأدوات.
كانت الجريمة مهولة، سواء بالتخطيط الدقيق والتنفيذ المدروس بعناية بحيث تكاد الدقة فيها تطمس «بصمات» الآمرين بالاغتيال وأهدافهم الأصلية التي تتجاوز بخطورتها هذا الوطن الصغير وإن كان اختياره كمسرح للجريمة، «بالهدف» ذي الرصيد اللبناني ـ العربي ـ الدولي الكبير، سيخلق فوضى دموية عارمة عبر فتن منظمة تتجاوز لبنان إلى جواره العربي، وتمنح إسرائيل فرصة عظيمة للاستفراد بفلسطين واستكمال مخططاتها الاستيطانية اللاغية مشروع «الدولة» العتيدة، في أحضان «دولة يهود العالم»... وتغطي على الاحتلال الأميركي للعراق، وتكمل الحصار على سوريا، وتضع كل خصوم «الانقلاب» في دائرة الاتهام.
في الداخل، هبّ «تجار الدم» لاستغلال الجريمة من أجل وضع اليد على السلطة. نصبوا المحاكم الميدانية. أقام سياسيو الدرجة الثانية والثالثة من أنفسهم أولياء دم للشهيد الذي كان يرفض أن يصافح بعضهم، وكان يعلن أنه لن يستقبل واحداً منهم في منزله طالما بقي على قيد الحياة.
توزعوا الأدوار: قفز بعضهم إلى منصة الهيئة الاتهامية، وبعض إلى موقع قاضي القضاة، وتنطّح بعض ثالث فأعلن استعداده لتنفيذ أحكام المحكمة الخاصة التي أنشأوها على عجل فأدانت ونفذت، من دون حاجة إلى شهود أو أدلة أو حتى قرائن... يكفي الغرض مبرراً ودليل إثبات!
لقد رأى «تجار الدم» في جريمة الاغتيال فرصة للقيام بانقلاب سياسي بواجهة محلية لكن استهدافاته تتجاوز مساحة لبنان إلى جواره العربي، بدءاً بسوريا، وصولاً إلى إيران.
برّأوا إسرائيل مسبقاً. فأهانوا الرئيس الشهيد رفيق الحريري في وطنيته.
وبرّأوا منظمات القتل باسم التطرف والأصولية، وهي كثيرة جداً وتكاد جرائمها تغطي الوطن العربي مشرقاً ومغرباً، وتتجاوزه إلى دول بعيدة... ومعروف أن هذه المنظمات متعددة الولاء، بعضها عربي التمويل أميركي الإمرة، وبعضها الآخر مغلق القلب والعقل بالتعصب بما يجعلها تتورط، في أحيان كثيرة، في خدمة أعداء الأمة، عربية أو إسلامية أو بين بين..
برّأوا أجهزة المخابرات، حتى المعادية منها بالتكوين أو بالغرض، وبينها الأميركية والإسرائيلية، بل واستندوا أحياناً إلى بعض تسريباتها المقصودة والمحددة الهدف.
حصروا التهمة، بداية، بسوريا، رئيساً وقيادة وجيشاً، ثم تجاوزوا هؤلاء جميعاً إلى الشعب السوري كله. طاردوا العمال في الشوارع، اعتدوا عليهم حيثما وجدوهم يبيعون عرق جباههم لحفظ كراماتهم.. بل أنهم ارتكبوا جرائم قتل مشهودة ضد عدد منهم، بغير ذنب. أقفلوا الحدود مع سوريا بحواجز الكراهية والبغضاء المقنعة بالتعصب. تسبّبوا في تسميم الجو بين الأقارب والأصهار المتجاورين في القرى والبلدات على جانبي الحدود.
ثم... هرّبوا التحقيق فعهدوا به إلى «الدول»، وبينها تلك التي لها مصلحة في الاغتيال وفي استثمار نتائجه وتداعياته، على وجه الخصوص. واستبقوا النتائج، فصاروا جميعاً من المحققين، وظهر بينهم أكثر من شارلوك هولمز وأرسين لوبين. وصارت منتدياتهم السياسية والصحافية والفضائية محاكم تفتيش مفتوحة. اكتشفوا الأنفاق في ساحة الجريمة وحدّدوا مَن حفرها ومتى ولماذا. اكتشفوا خط سير شاحنة المتفجرات القاتلة وحدّدوا أماكن توقفها والثكنات التي عُبّئت فيها المتفجرات والضباط المسؤولين عنها. وقرّروا أين اجتمع ذلك الحشد اللجب من الضباط ـ القادة، سوريين ولبنانيين (وعددهم مع مرافقيهم يزيد على المئة نفر) للتخطيط والتنفيذ، كأنهم في حفلة زجل!
ثم... كتبوا تقرير المحقق الدولي الأول ونشروه من قبل أن يكتبه. ولما جاء «ميليس» وجدوا فيه ضالتهم، بقدر ما أكد في تصرفاته وفي استنتاجاته أنه مجرد ضابط تحر سابق، سيء السمعة، اختير بقصد مقصود، وبالتواطؤ مع مَن «أورث» نفسه السلطة في بيروت متجاوزاً ولي الدم الأصلي، لاستغلال دم الشهيد وادّعاء العمل لكشف الحقيقة، لإدانة كل من يعارض أو يعترض أو يطالب بالتزام الأصول واعتماد الأدلة الفعلية... بعيداً عن شهود الزور الذين ثبت كذبهم المدروس وانكشفت الجهات التي وظفتهم لتضليل التحقيق وحرفه عن مساره الذي كان يفترض أن يوصل إلى تحديد المستفيد من الجريمة ومن ثم أدوات التنفيذ.
وتحت ضغط الإرهاب باستغلال صورة الشهيد ومكانته في النفوس، واستنكار الناس جميعاً الجريمة النكراء التي استهدفته، أقاموا المحاكم الميدانية: رفعوا صور من اعتبروهم بين «القتلة»، محرّضين ومنفذين، وطاردوا من رأوا فيهم خصوماً بالاتهامات وحملات التشهير والتحقير. صاروا جميعاً أولياء الدم. وكان الدم كريماً: رفع بعضهم إلى سدة السلطة وأقطع بعضهم وزارات ثم نيابات، كما ابتدع كتاباً مميزين ومحققين ليس لهم نظراء ومدققين ذوي مهابة و«مبصرين» من ذوي الكرامات!
وتحت ضغط إرهابهم بدّلوا هيكلية الحكم: شطبوا رئاسة الجمهورية، ألغوا مؤسسة مجلس الوزراء. قفزوا من فوق المجلس النيابي لأنهم لا يريدون إضاعة وقتهم الثمين في المساءلة والتحقيق والتدقيق. ركبوا المصعد الأميركي إلى مجلس الأمن الدولي متجاوزين «دولتهم» والجامعة العربية. وهناك طالبوا بالبند السابع شرطاً لمحاسبة منفذي الاغتيال بوصفه جريمة ضد الإنسانية.
تجاوزوا كل المبادئ والقوانين والأعراف للوصول إلى محاكمة سياسية (ميدانية) لكل خصومهم ومن لا يردد ما يبتدعون ويفبركون من شهود الزور والأدلة المزورة والروايات المفبركة، التي تصدّر إلى «الخارج» العربي أو الدولي ثم يعاد استيرادها باعتبارها «حقائق دامغة».
حاكموا فتحكّموا باللبنانيين جميعاً. حكموهم بالخوف والتخوين وعاطفتهم تجاه الرئيس الشهيد رفيق الحريري وحرصهم على كشف الجناة، للاطمئنان إلى مستقبلهم في وطنهم الصغير. رموا كل من طرح سؤالاً بالدم، واتهموه في إنسانيته ثم في وطنيته. فرضوا إرهابهم على هذا الشعب القلق على مستقبله.
ألغوا الدولة ومؤسساتها، مرة بالمصادرة، ومرة أخرى، بالتجاهل والقفز من فوق مؤسساتها وقوانينها. بدأ التزوير من فوق، من مركز السلطة، وعبر الوزارات والإدارات والنيابات حتى وجد الشعب نفسه في قفص الإرهاب: مَن ناقش فهو شريك في الجريمة، ومَن جادل فهو متواطئ، ومَن سأل فهو متآمر، ومَن دقّق فهو عميل للنظام الأمني (البائد!).
بدا النظام هزيلاً، متهالكاً بالقياس إلى سيطرتهم المطلقة (المعززة بالدول) على الأجهزة والإدارات والإعلام. كانت معهم «الدول» بسفاراتها وموفديها والاتصالات على مدار الساعة.
شنّت إسرائيل الحرب فوظفوها لأغراضهم. ألقوا المسؤولية على المقاومة وكادوا يبرئون العدو.
لم يوفروا سلاحاً من الطائفية إلى المذهبية إلى العنصرية، ومن شهود الزور إلى إلغاء دور القضاء اللبناني، إلى جعل القضية استثماراً ممتازاً للدول الكارهة للعرب والعروبة، دول الاحتلال، أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في فلسطين.
وها هم الآن يجادلون في اتهام إسرائيل، مجرد اتهام، ويعطون النيابة العامة الدولية قداسة لا يمكن أن تكون لأية نيابة عامة في العالم. يخفون شهود الزور ويحصنونهم ويهربون من استدعائهم لاستجوابهم ومحاسبتهم. ثم يقولون إنهم يبحثون عن الحقيقة!
لكل هذا يمكن القول براحة ضمير: إن كل مَن يبرّئ إسرائيل، سلفاً وبغير تحقيق أو تدقيق، إنما يهدر دم رفيق الحريري، ومعه دماء كل ضحايا الحروب والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
ولكل هذا يمكن القول براحة ضمير: إننا نفتقد رفيق الحريري اليوم، أكثر ممّا افتقدناه في أي يوم، ربما لأننا نحس بخطر جدي وداهم على الوطن الصغير، وعلى أهله الذين أحبوا جميعهم رفيق الحريري، وحزنوا جميعهم على رفيق الحريري، ويخافون الآن على رفيق الحريري شهيداً أكثر ممّا خافوا عليه وهو حي.
والكلمة، بعد، لولي الدم الأصلي، والكل ينتظرها منه وليس من أي أحد آخر، في الخارج خصوصاً، أو في الداخل. فعساه يقولها قبل فوات الأوان.

                                                                                                                                                                                                                                                     طلال سلمان

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.