تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

بديع عفبف: تراجع القوة العسكرية.. تراجع النفوذ

 

محطة أخبار سورية

أقرّ وزير الدفاع البريطاني وليام فوكس قبل أيام، بأن بلاده لم تعد تملك الأموال للدفاع عن نفسها ولم تعد قادرة على حماية أمنها ضد التهديدات المحتملة... وأن المملكة المتحدة "مضطرة" الآن للتخلي عن واحدة أو أكثر من قدراتها على خوض حرب شاملة...وقال: "نتجه إلى إحداث خفض كبير في عدد القوات التقليدية، سيحد من قدرات جيشنا ويجعله مؤهلاً فقط للتصدي للتهديدات الواقعية المحتملة في المستقبل".

 

وفي الجهة المقابلة من المحيط الأطلسي، نقلت نيويورك تايمز عن مسؤولين في إدارة واشنطن قولهم ان عجز الموازنة الأميركية الكبير، وتراجع حدة الحرب في العراق، وتعهد الرئيس باراك أوباما بدء سحب القوات من أفغانستان في العام المقبل، تدفع الكونغرس إلى الضغط لتقليص طلبات تمويل وزارة الدفاع الأميركية.

 

ماذا يعني ذلك؟ بالتأكيد سيكون خبراً مفرحاً لجميع الدول الفقيرة والتي كانت وما يزال بعضها خاضعاً لنفوذ هذه القوى وتحت سيطرتها الاستعمارية ويرتعش خوفاً من أن تقوم بأي عمل عدائي جديد ضدها في أي لحظة وتحت أي ذريعة.

 

ليس خبر تراجع الإنفاق العسكري على الجيوش خبرا عادياً. إنه مؤشر على مدى ضعف القدرات الذاتية لهذين البلدين الغربيين ولاسيما في أتون الأزمة المالية العالمية. وهو يعكس بالتأكيد إحدى النتائج العملية للحروب الكثيرة ولانتشار القوة العسكرية الواسع الذي مارسته القوتان الدوليتان على مدى القرن الماضي عبر أصقاع العالم.

 

المملكة المتحدة، أصبحت القوة التي غابت عنها "الشمس الإمبراطورية"، وهي الآن تدور في فلك الولايات المتحدة تحاول جاهدة التفلّت من مدارها لإتباع سياسة خارجية تكون أكثر استقلالاً. لقد شاركت بريطانية الولايات المتحدة في غزو أفغانستان ولا زالت قواتها هناك تتكبد المزيد من القتلى والخسائر. كذلك قدمت بريطانية دعمها  ومشاركتها في غزو العراق بناء على معلومات كاذبة، وحصدت الكثير من الخسائر البشرية والمادية، ولا تزال تداعيات الحرب ماثلة ولم تنته.

 

وتقف بريطانية اليوم حائرة بين غربها وشرقها، تضع قدما في الوحدة الأوروبية، وأخرى في الركاب الأمريكية. تحاول أن تبقي على قوتها وهيبتها ودورها العالمي المتآكل، في ظل عالم متغير متبدل يحمل كل يوم أخباراً جديدة عن دول جديدة صاعدة طامحة لإثبات نفسها وتجريب حظها على المسرح الدولي، من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا إلى الشرق الأوسط وصولاً إلى آسيا.

 

"الواقعية" البريطانية بدأت تدرك حدود العجز والقدرة والدور، وهذا يؤشّر إلى مرحلة جديدة تعيد الدور البريطاني "الإمبراطوري" إلى حجمه الطبيعي، يأمل العالم أن يكون بنّاء أكثر في المرحلة المقبلة. فعندما تنتهج أي دولة، سياسة عالمية إيجابية تقوم على التعاون والتكاتف لتحقيق المصالح المشتركة، فإن المخاطر العالمية سوف تتلاشى بكل تأكيد. أما سياسة الحروب والمكائد، فلا تجلب إلا الأضرار والتدمير والحقد والكراهية لجميع الشعوب.

 

وعندما كانت الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة الرئيس جورج بوش الابن تسأل سؤالاً بدا غبياً جداً للعالم، وهو لماذا العالم يكرهنا؟ كان هذا العالم كله تقريباً يعرف الجواب ويجيب: بسبب سياساتكم وحروبكم الخارجية في كل مكان، وبسبب الأذى الذي تسببونه للجميع. وكان العالم يضيف أيضاً نحن لا نكره الولايات المتحدة ولا القيم الأمريكية ولا الشعب الأمريكي ولا الثقافة والحضارة الأمريكيتين. ولكننا نكره السياسات الأمريكية التي تحاول فرض أسلوبها ورؤيتها ومصالحها على الجميع، والتي لا تحترم أياً كان ولا تقيم وزناً للآخرين مرتكنة إلى القوة العسكرية والاقتصادية التي تحميها وتعطيها غطرسة وتعجرفاً يلخصها القول: من ليس معنا فهو ضدّنا..

 

 ويمكننا بكل حق، أن نسأل بعد سنوات الحرب في العراق وأفغانستان: ماذا حققت الحربان سوى الدمار والقتل؟ ونسأل أيضاً لو أن هذه الأموال التي أنفقت لتحقيق هذا الخراب أنفقت على إقامة مشاريع تنموية أو سياحية في الشرق الأوسط وآسيا والسودان واليمن، ألن تتحول شعوب هذه البلدان إلى دعاة لاعتناق القيم الأمريكية وحماية المصالح الأمريكية، بدلا من تحولها إلى أعداء كارهين!!

 

إن تراجع الإنفاق العسكري والقوة العسكرية لهذه  الامبراطوريات السابقة، لابد وأن يبدّل في طريقة تنفيذ السياسات الخارجية لها. وهذا عامل إيجابي لأنه سيقود هذه الدول ـ وإن بعد حين ـ إلى إتباع سياسة الحوار والمفاوضات وسيلة لتحقيق الأهداف بدل الحروب واستخدام القوة. وهذا سيساعد في تبريد المناخ الدولي والعلاقات الدولية بشكل كبير. كذلك سيساعد في حلّ كثير من القضايا الدولية العالقة منذ أربعينات القرن الماضي ـفي كشمير والشرق الأوسط وغيرهاـ لأن الدول التي كانت تقف وراء تأخير هذا الحلّ، ستجد نفسها غير قادرة على ممارسة سياسة الرفض والعدوان التي اعتادت إتباعها.

 

وتراجع الإنفاق العسكري الذي سيقلص دور وحجم القدرات العسكرية لهذه البلدان، وهو الناجم أصلاً عن الأزمات المالية التي تعانيها، ربما سينعكس مزيداً من الأزمات المالية لهذه الدول التي لن تكون قادرة بعد اليوم على فرض أجندتها الاقتصادية والمالية على الآخرين، ولن تكون قادرة على السيطرة على أسواق الموارد الأولية وأسواق التصدير والاستهلاك، لاسيما بوجود منافسين أقوياء أعدوا أنفسهم بذكاء لدخول الأماكن والمجالات التي كانت ممنوعة عليهم قبل حين.

 

وسيؤثر تراجع القوة العسكرية لدول معينة مثل بريطانيا والولايات المتحدة إلى تراجع تأثير القيم الثقافية لهذه البلدان على المستوى العالمي. فلعقود طويلة، بقي الانتشار العسكري الأمريكي وقبله البريطاني في أنحاء العالم وما وراء البحار وفي أوروبا وأسيا وإفريقيا، رافعة وأداة قوية لفرض ونشر تأثير قيم وثقافة البلدين. وسيكون على هذه الدول آجلاً قبول هذا التراجع، بل والتوقف ـ هي وغيرها من الدول الغربية الأخرى ـ عن فرض ثقافتها على الآخرين واحترام ثقافاتهم ومعتقداتهم ووجودهم وتاريخهم وهويتهم وعاداتهم.

 

وإذا ما نظرنا إلى تأثير الصين المتصاعد، أدركنا الحكمة الصينية في الاعتماد على الاقتصاد لتحقيق الانتشار العالمي بدل القوة العسكرية. فمن يجهل أن البضاعة الصينية والصناعة الصينية والثقافة الصينية والطريقة الصينية بدأت تغزو العالم، دون مقاومة ودون رفض، ليس لأنها الأفضل، ولكنها اتبعت أسلوباً بسيطاً وسهلاً لا يمكن مقاومته.

 

ما قاله وزير الدفاع البريطاني، وما أشارت إليه نيويورك تايمز، له دلالات كبيرة وله نتائج واسعة على البلدين الحليفين، وعلى سياساتهما الخارجية، وعلى السياسة العالمية والعلاقات الدولية في المرحلة القادمة.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.