تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الموتى والأحياء

محطة أخبار سورية

صديق في آخر أيام مرض السرطان، أحقر مرض في عصرنا، لأنه يأخذ المريض، ومدخراته، أو أملاكه معه في جهد المداوة العبثية... هذا الصديق قال لي ذات لحظة: ألم تعلمّك إسبارطيتك المزعومة(يقصد قوة الروح والجسد نسبة إلى الإسبارطيين اليونان) أن تفعل شيئاً لأجلي. فكّرتُ، واقترحت عليه، في صراحة باسمة، أن يموت قبل أن يقتله السرطان.

 

هكذا تكون يا سليمان قائداً لمصيرك لمرة واحدة في هذا الزمان. سألني بفضول واهن: كيف؟ قلت نسهر الليلة معاً، كما في أيام زمان، ونضع أمامنا زجاجة ويسكي، ونشرب ونتحدث حتى تموت. أغطيك بالحكايات، وأودعك بالشعر، ريثما يأتي يوم القيامة و... نلتقي مرة أخرى.

ضحكت في وجهه عضلة الازدراء الجميل، ودّلني على مكان الزجاجة ملأت كأساً طافحاً له وآخر لي. وقَرَعْنا حياتنا، فرنَّ الصمت، ومع الجرعة الأولى بدأت أقص له الحكاية التالية:

كان راهب يتهيأ للكلام في ساحة القرية الكبيرة. كتب خطابه بعناية فائقة، وعندما تهيأ لقراءته، هبّ الهواء فجأة وطارت الأوراق فعلقت على أغصان شجرة ليمون. باغته الأمر، ولم يعرف من أين يبدأ كلامه، فقال: إليكم يا أصدقائي، باختصار، ما وددتُ عرضَه في خطابي عليكم: «عندما أجوع آكل. وعندما أتعب أنام» فناداه واحد من الحشد سائلاً: ولكن أيها المعلم، أليس كل الناس يفعلون مثلك؟ قال: «لا... ليس بالطريقة نفسها. عندما يأكل الناس يفكرون بالكثير من الأِشياء، وعندما ينامون يفكرون بالكثير من المشكلات. لهذا فهم لا يفعلون مثلي». ثم نزل المعلم إلى وسط الناس وردّ على أولئك الذين يسألونه ثم قال: «أما التفاصيل فستجدونها على أغصان شجرة الليمون!».

ابتدأ سليمان يتورد وجهه. من الكأس أم من الحكاية؟ لا أدري.. طلب مني أن أقرأ له شعراً مفضلاً لدي. فأنشدته هذه الأبيات التي لا أعرف من كتبها:

غَسَلَ اليدينِ من الدنيا وبهجتها وقام صلّى صلاةَ الخالد الفاني

حطّ العيونَ على الأشجار وانسربت من صدره روحُه واحمّر خدّانِ

يا وقتُ... يا وقتُ لا تعصف بأغنيتي يا وقتُ لا وقت كي اصطاد ألحاني

هذا النص المجتزأ من روايتي «إلى الأبد ويوم» عاد بي إلى عشرين سنة إلى الوراء، عندما طلب مني سليمان أن أراسل السفير الفلسطيني في الأرجنتين أطلب منه البحث عن أخيه الذي أصبح ثرياً واسمه الجديد «بيدرو». فجاءني الجواب، بعد موت سليمان، أن بيدرو يطلب ثمن بطاقة طائرة ليعود إلى الوطن بعد غياب وانقطاع أخباره ربع قرن.

يا للسخرية...!

أمس اتصلت زوجة سليمان لأبحث لها عن عنوان السفير السوري في تونس- أيام عيش ووفاة سليمان- لأن السفير هو الذي أنجز الاتفاق بين زوجة الدكتور سامي الدروبي وزوجة سليمان تصفيةً لحساب الأعمال الكاملة لدستويفسكي (سليمان ناشر) وقد مات، و(الدروبي مترجم) وقد مات، وآمل أن يكون سفيرنا المحترم حياً طويلاً.

واليوم... كما لم أجد بيدرو في الوقت المناسب... قد لا أجد السفير السوري في الوقت المناسب... فيشتبك الوارثون، بينما يرتاح الموتى!

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.