تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

لحظات تجلّ صوفية... نحو الله

 

محطة أخبار سورية 

أحاول في مرات عديدة الاندماج بالحياة ليس فقط بدور المتفرج فلا أخوض غمارها، ولا أعاني مآسيها وهمومها مما يبقيني على درجة من الهدوء الذهني يسمح لي اكتشاف ما تحتوي هذه الحياة من جمال،

 

في الواقع إنني أنتمي الى غير هذا العالم الظالم الرديء حيث السلاح وسيلة للدفاع عن الباطن في الحقيقة أنا آخذ الحياة الآن عن جد، بل اعتبرها مسرحية ترغمني أحياناً عن دور المتفرج فحسب.‏‏

 

مهمة الكاتب أن يصف الحياة ولكي ينجح في ذلك يجب أن يترك مسافة بينه وبينها كالمصور الذي يبتعد قليلاً عن المشهد، ويظل خارجاً عنه، كما عليه أن يحتفظ بروح الطفولة الملأى بالحماس، المهيأ دائماً للدهشة، والزاخرة بكنوز هائلة لدرجة إن الانسان الذي يفقدها لا يبقى له شيء، وإن يملك بنفس الوقت القدرة على التعبير عن هذه الروح وترجمتها إلى أثر فني، فالدنيا منظوراً إليها بعين الطفل هي دنيا الشعر، مثلاً أنظر الى راع صغير وهو يرعى قطيعاً من الغنم يعود عشية الى القرية، فنراه يتفاخر حماساً، ويشير بيديه نحو الأغنام، لقد شعر بجمال اللحظة، التي تمر بنا نحن البالغين دون اكتراث، ولو استطاع هذا الطفل، الذي يعيش، بنوع من الأبدية المسحورة ولا يعاني مثلنا من وطأة الزمن والذي يملك عدسة عجيبة ينظر من خلالها الى الكائنات والأشياء، ولو استطاع أن يعبر عن مشاعره لكان شاعراً كبيراً، لكنه للأسف عاجز عن ذلك.‏‏

 

إن وظيفة الأدب هي إشباع الحاجات الروحية لدى الانسان وهنا تكمن مأساة الأديب انت تملك سلعة مادية تقايضها بسلعة مادية اخرى، تعطي صندوقا من التفاح مثلاً وتأخذ مكانه كيساً من القمح، تستبدل قطعة قماش بقطعة جلد ، تستعيض عن كومة من الترابة بكومة من الحجارة تبيع صفقة من الحديد وتشتري بثمنها صفقة من الخشب تقدم خدمة مادية وتتلقى مقابلها خدمة مادية أخرى.‏‏

 

لكن عندما نكون من أهل الروح وعندما لا تكون السلعة التي تحملها من انتاج هذه الارض، كيف تتوقع أن تنال عنها بديلاً حسياً، عندما توفر غذاء روحياً للناس كيف تنتظر منهم بالمقابل طعاماً لجسدك ،المادة والروح صنفان لا يتجانسان ولا يصلحان للتبادل والمقايضة.الاعتراف بأن الادب يعنى بالشؤون الروحية، ليس نظرة مثالية بل ظاهرة فنية تثبتها التجربة، متى نكتشف الجمال؟ الجواب: عندما نتحرر من الزمن ونعيش في حلم الابدية أي عندما ننظر الى الكون بعين روحنا لا بعين جسدنا، الأدب إذاً هو الحياة الحقيقية الأصيلة، بما أنه خادم الروح التي هي وحدها وجود وكل ما عداها عدم، والتي هي بالتالي أقصى غايات الإنسان،‏‏

 

نعم، لا يجوز للأديب التخلي عن مهمته الجوهرية، وتسخير فئة لخدمة أي أغراض اخرى، بل يجب أن ينصرف الى التعبير عن حقيقة الانسان الذي كانه، وان يترك صورة صادقة عن التجربة التي عاشها في جميع مراحل عمره، مؤدياً شهادة دقيقة وأمينة عن الاسرار التي نقشتها الطبيعة في أعماقه، متيحاً للآخرين أن يقرؤوا لغة قلبه، ويفهموا اللغز المبهم الذي ينطوي عليه، والنموذج البشري الذي يمثله، والذي تحجبه عنهم عادة المظاهر الكاذبة، والاصطلاحات المزيفة، وتعجز المحادثة اليومية والكلام المبتذل عن الافصاح عنه، هكذا يتيح لأشباهه أن يتعرفوا على ذواتهم ويسمح لسواهم أن يكتشفوا كيف يشعر ويفكر شخص آخر، وان ينتقلوا إلى عالمه الخاص ويروا الكون من خلال وجهة نظره، محققاً معهم اتصالاً مباشراً يظل مستحيلاً بدون الفن، متحولاً إلى شاشة تعكس ظلاً عن النفس البشرية تساهم مع الظلال الأخرى التي يعكسها بقية الفنانين، الى أن تجعل الانسان يعي ذاته.‏‏

 

إن لحظة الأبدية هي التي تفتح لنا ابواب الجمال، بل هي ذاتها التي تقودنا الى الله الذي يولد فينا بعث الروح التي تعيش أبداً، الذي يعيش ويموت هو الزمان، فننتقل من هاوية الدقائق المظلمة الى الجنة السرمدية الموعودة، من حشرجة الموت الى فرح الحياة، من قلق الوجود الى طمأنينة الوجود ،نعم ، هي لحظة مباركة من لحظات الفرح، عندما يفتح القلب على مصراعيه للحب، وتدفع الغبطة من حنان، تسطع نجمة الايمان في عتمة النفس فيحدس الانسان أنه مع الله ويثق به، لأنه ذاق عناقيد كرمته، ولأنه خبر لحظات الحب الذي يرتبط في جلاله بالله بخيط من نور تتصل به دقائق الزمان المبعثرة على مسافات العدم، اذ يولد الإنسان روحاً بواسطة الايمان، يطأ الموت، بطرح ساعة الفناء القديمة بعيداً ويبقى عبر الزمان خالداً في قلب الوجود.‏‏

 

أن تؤمن هو أن تشعر أن الله موجود في أعماق قلبك، الذي يخفق بشدة لرعشة النشوة التي تسري فيه، غبطة مفاجئة لم يسبق لك اختبارها من قبل، لقد كنت تعيساً ولم يكن في حياتك ثمة ما يبرر هذه السعادة الطويلة التي لا يمكن تجاوزها، أنك تنهض بين الحين والحين لتركع وتسجد مخاطباً الله في اعالي السماء، فتجد أنك لست مخدوعاً في هذه الحياة الطيبة، وأن ثمة ما يهز كيانك من وهم السراب والضلال اللذين لا يدومان كل هذا الوقت المديد، هنا في هذا الركوع والسجود، وحيداً مبتهلاً الى الله في خلوتك الليلية تحس بهذه النعمة التي آثرك بها، والتي نلتها دون أن تبذل من جهتك أي مجهود.‏‏

 

دون أن تتميز بأي كفاءة ربما أنت حسود ، أناني، متكبر، تحب الظهور والعظمة.‏‏

 

لكنك ستسعى من الآن فصاعداً ان تكون خليقاً بذلك الإله الذي التفت إليك، ورأف بحالك، لقد أصبح لحياتك هدف، وستنذر نفسك ،وتكرس كل طاقتك لخدمة إلهك الحبيب وحمل الآخرين على الايمان به ومحبته، والاعتذار منه لأنك في فترة من حياتك شككت فيه، واسترحامه بأن يقوي عقلك وارادتك أنت الضعيف كي تقوم بواجبك نحوه ونحو نفسك، الوقت يمضي وانت مبتهج كما لم تكنه قط.‏‏

 

وها أنت تنظر الى الناس بعينين ملؤهما الحب الممزوج بشفقة رقيقة ،وتصبح طويل البال لا يضيق صدرك بمخلوق ولا ينفد صبرك لأي محنة، وها أنت تنظر من النافذة الى الليل والسكون المخيمين على الكون والسماء المتلألئة النجوم، فتأخذك الرغبة في مناجاة الله برقة وأمل لأنك لست وحيداً، هناك في السماء أب رحيم ورؤوف وجبار ينشر حمايته عليك وتتضاءل جميع آلامك، وما اكثرها ، في حضوره الآسر.‏‏

 

هي لحظات تجلٍ صوفية أجدني اليوم أبثها للمحبين من حولي متناسياً تلك الغيوم السوداء التي تنذر بالعواصف وهياج الأمواج، لكن السكينة في الذات تنتصر على كل شيء.‏‏

ياسين رفاعية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.