تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الغالبون والمغلوبون في كرة الرفس بالقدم

 

الغالبون والمغلوبون في كرة الرفس بالقدم

محمد محفوظ

محطة أخبار سورية

اكتشف أباطرة الرومان في قديم الزمان وسيلة لتهدئة الجماهير الغاضبة٬ وهي تسليط الأسود علی معارضي حكمهم وارغام المتمردين علی محاربة بعضهم البعض حتی يموت بعضهم٬ واذا نجا احد عينَّوه "سنتوريا" أي قائدا لمئة عسكري. وكانت الجماهير تأتي الی ساحات القتال فتتسلی بمشاهد اراقة الدماء "كما يتسلی الاسبان والمكسيكيون هذه الايام بمصارعة الثيران" وتهتف للغالب ولا تكترث بالمغلوب الذي يجره بغل الی المزبلة. علاوة علی ذلك كان النظارة يشربون الخمور وهم يتفرجون علی ماَسي القتل والتعذيب٬ فيزداد تعطشهم لسفك الدماء وعندما يسألهم الامبراطور: هل تريدون ان اعفو عن هذا الرجل! او ذاك٬ تنطلق الحناجر بالصياح: أقتل أقتل. فيرميه الزبانية طعما للاسود التي تجوع خصيصا لمدة يوم او يومين.

في العصر الحديث اكتشف الانجليز لعبة اسمها كرة القدم فاستهوت الملايين. لا في بريطانيا فحسب بل في كل انحاء العالم. ومتابعة هذه اللعبة اصبحت هوساً صرف اهتمام الشبيبة عن قضايا الفقر والبطالة وانهيار الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ولا يكتفي المولعون بهذه الرياضة التي يتباری فيها احد عشر لاعبا من احدی الفرق مع احد عشر اخرين من فريق اخر ويجهدون انفسهم حتی تنقطع انفاسهم من اجل الحصول علی كأس نحاسي لا ينفع لاي شيء سوی التباهي به٬ فيذكرنا ذلك بما قاله "اوسكارد وايلد" عن مطاردي الثعلب: "اناس مغفلون يصطادون ما لا يأكلون".

الهوس بكسب هذا الكأس يجتذب ملايين الشباب في كل انحاء العالم. فيذهبون الی الملاعب ويشترون التذاكر بأغلی الاثمان. ويستغل بعض الانتهازيين هذا الهوس فيشترون مئات وربما الاف التذاكر بالاسعار المحددة ثم يبيعونها في السوق السوداء بعشرة او عشرين ضعفا للذين فات عليهم شراء تذاكرهم في وقت باكر..

في السنوات الاخيرة ظهرت بادرة مرافقة المؤيدين او المشجعين لفرق الكرة اينما ذهبت. فرأينا الالاف من شباب مختلف الجنسيات يسافرون بالطائرات الی ابعد الاماكن . وبعضهم يأخذون قروضاً من البنوك خصيصا لتمويل رحلتهم كيلا تفوتهم فرصة الهتاف لكل هدف يسجله فريقهم ويتأوهون لكل اصابة في ملعب فريقهم يسجلها الفريق الاخر الذي يصبح في نظرهم العدو الالد مع ان كبار الرياضيين يظلون يرددون ان الشهامة في اللعب اهم من احراز الاصابات. لكن هذا المبدأ يُضرب به عرض الحائط فيتقاتل الشبان المؤيدون للفريق المغلوب مع مؤيدي الفريق الغالب الشامتين الذين يرشون الملح علی الجرح فيشجون رؤوس بعضهم البعض وينتهي المطاف ببعضهم الی السجون وبالبعض الی المستشفيات. وفي بعض البلدان تعد الشرطة قوائم بالمقاتلين من اجل كرامة فرق الكرة ليمنعوهم من دخول الملاعب او يصادرون جوازات سفرهم لمنعهم من تشويه سمعة بلادهم بالعربدة في بلاد الاخرين.

هؤلاء الممنوعون يضطرون للاكتفاء بمشاهدة المباريات علی التلفزيون لا في بيوتهم بل في الحانات التي جهزها اصحابها بشاشات كبيرة الحجم. فيشربون الخمور ويصرخون فرحا اذا نجح الفريق الذي يؤيدونه ويتأوهون من الالم الذي يتسلط عليهم اذا نُكب فريقهم بتسجيل اصابة ضده. واذا غُلب فريقهم كما جری في هزيمة الانجليز امام الالمان في تصفيات كأس العالم حيث قامت القيامة. واصبحت هذه الخسارة في نظر الجمهور الانجليزي نكبة اكبر من مقتل ثلاثمئة جندي بريطاني في افغانستان٬ او مقتل ثلاثين الف افغاني.

اثناء المباراة شوهد الكولونيل المتقاعد مايكل روز الذي كان قائدا للقوات البريطانية في يوغوسلافيا اثناء حرب الصرب ضد مسلمي البوسنة والذي اصبح في الانتخابات الاخيرة نائبا في البرلمان البريطاني٬ ينهض في مجلس الامة ليصرخ معلنا تطورات اللعبة التي كان يتابعها بواسطة سماعات علی اذنيه لاهيا بها عن عمل البرلمان. واحد ــ صفر٬ واحد واحد٬ اثنين لواحد حتی انتهت اللعبة بـ 4 ــ 1 "اربعة للالمان وواحد للانجليز" . فهاج البرلمان وامتلأت الصحف بصفحات تحلل كيف ولماذا فشل الانجليز وربح الالمان؟ ألم نغلبهم سنة 1966؟ فكيف غلبونا الان؟ يا نكبة! يا مصيبة! من المسؤول؟ من سيدفع ثمن الهزيمة؟ لابد من معاقبة المدربين المتهاونين وطرد الخاملين من اللاعبين. اعضاء الفريق الالماني كانوا أصغر سنا فيجب التخلص من اللاعبين في الفريق الانجليزي الذين هرموا قبل بلوغ الثلاثين واصبحوا خلال مدة قصيرة من اصحاب الملايين البطرانين. نعم هناك صبيان يلعبون الكرة الان ويطمحون الی الوصول الی النجومية. الرياضة أهم من الرياضيات: الجبر والحساب والمثلثات٬ وركل الكرة اهم من الرباعيات. قارنوا بين راتب اكبر بروفيسور في كمبريدج او اوكسفورد وبين دخل لاعبي كرة الفوطبول؟ شتان بين دفن الانوف في اسفار "الكتب" وبين الاسفار الی ملاعب الكرة في مختلف انحاء العالم حيث ترمق اللاعبين انظار الشبان الحاسدين ونظرات الحسان بين المعجبين.

كرة القدم صناعة او تجارة عظيمة الشأن. فلم تعد الفرق تكتفي باللاعبين من نفس الجنسية بل تشتري لاعبين من فرق اجنبية ومن بعضها البعض بأثمان تكفي لاطعام مليون جائع لبضعة شهور.

ففي فرنسا اشتهر اللاعب زيدان٬ وفي انجلترا اشتهر اللاعب ديفيد بيكهام وفي الارجنتين ميسي٬ وفي البرتغال رونالدو٬ وفي البرازيل كاكا.

والفرق نفسها تُباع وتشتري. فالملياردير الروسي اشتری فريق تشلسي وبعض اغنياء الخليج اشتروا بعض الفرق البريطانية. والاثمان أرقام خيالية والمصاريف أرقام فلكية. ولكن تُجنی مكاسب كبيرة ــ لا بل هائلة ــ من تسلية الجماهير وإلهائها عن مشاكل الدنيا بركضات في الملاعب وركلات بالاقدام. وإلا تراكمت طاقة الغضب لدی تلك الجماهير وخرجت لتقتل وتدمر وتثير الانقلابات.

اثناء انعقاد مؤتمر العشرين في تورونتو شُوهد العديد من الرؤساء لاهين عن مناقشة القضايا العالمية الشائكة بمتابعة ركلات الكرة.

لا اظن ان عدد متابعي مؤتمرات تورونتو تجاوز 1% من عدد متابعي مباريات كأس العالم في جنوب افريقيا الی هذا الحد بلغ غسيل الادمغة. فيصح القول ـ مثلما تكونوا يولی عليكم.

العرب أونلاين

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.