تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

انعكاسات مذاهب الرؤساء الأمريكيين على السياسات الدولية!!

مما لاشك فيه أن قرارات النخب السياسية تحدد مسار التاريخ. فالقادة ونوع القيادة التي يمارسونها تشكل الطريقة التي تصنع فيها سياسات الخارجية والسلوك اللاحق للدول في السياسات العالمية.

ويرفع معظم الرؤساء الأمريكيون عند وصولهم إلى البيت الأبيض شعارات توضح فكرة السياسة الخارجية التي سوف يتبعونها، وهو ما يعرف بمذهب أو مبدأ الرئيس ((Doctrine. وهذه المبادئ قد لا تكون مكتوبة ولكن يتم استخدام تعابير معينة بشكل متكرر للإشارة إلى مبدأ أو عدة مبادئ للسياسة الخارجية. ولكن ما هو العامل الذي يقف خلف اختيار الرئيس عند رفع شعار معين للسياسة الخارجية، هل يأخذ الرئيس في الاعتبار، قوة بلاده أم الظروف الخارجية، أم ثمة أمور أخرى؟؟

نأخذ مثالاً الرئيس جيمي كارتر الذي أعلن عام1980 في خطاب للأمة أن بلاده سوف تستخدم القوة العسكرية إذا وجدت ذلك ضرورياً لحماية مصالحها القومية في منطقة الخليج. واعتبر ذلك رداً على الغزو السوفييتي لأفغانستان والخشية من تهديد تدفق نفط الشرق الأوسط.

أما مبدأ الرئيس رونالد ريغان فقد هيمن على السياسة الخارجية الأمريكية منذ بداية الثمانينات وحتى نهاية الحرب الباردة عام 1991. ويقوم على تقديم الدعم العلني والسري للعصابات اليمينية وحركات التمرد لتقويض الحكومات اليسارية المدعومة من السوفييت في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وزعزعة النفوذ السوفييتي في تلك المناطق من العالم ولفتح المجال أمام انتشار الرأسمالية.

ولم يكن للرئيس بيل كلينتون عنواناً واضحاً أو عبارة مكتوبة محددة أو بياناً كما الرؤساء الآخرين. ولكن كلينتون قال كلاماً في 26/شباط/1999 تم اعتباره مذهب كلينتون يتلخص بالتدخل: "السؤال الذي علينا طرحه هو: ما هي العواقب على أمننا إذا ما تركنا تلك الصراعات (في البوسنة ، القرن الأفريقي، نهر الأردن) تستعر وتنتشر. لا يمكننا، في الحقيقة، يجب ألا نفعل كل شيء وألا نكون في كل مكان. ولكن حالما تصبح قيمنا ومصالحنا بخطر، وحيث يمكننا إجراء تغيير، يجب أن نكون مستعدين للقيام بذلك". وقد استخدِم مذهب كلينتون لتبرير التدخل في الحروب اليوغسلافية، ولكنه تم انتقاد كلينتون لعدم تدخله لوقف الإبادة في رواندا، مما يعني أن التدخل كان استنسابياً.

واتسمت سياسة جورج بوش الابن بعناوين عديدة مثيرة للجدل يأتي في مقدمتها؛ الحرب الاستباقية ((preventive war التي تعني أن على الولايات المتحدة خلع الأنظمة الأجنبية التي تعتبرها تشكل تهديداً لأمنها حتى وإن لم يكن التهديد وشيكاً؛ إتباع سياسة نشر الديمقراطية في العالم ولا سيّما في الشرق الأوسط كإستراتيجية لمواجهة الإرهاب؛ والرغبة الأمريكية في تحقيق المصالح العسكرية الأمريكية بشكل أحادي عبر استخدام ما عُرف بالفوضى الخلاقة. وقد سببت إستراتيجية بوش الابن إشكالية وتوتراً عالميين وشبه قطيعة مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ولا سيّما بعد الانسحاب من معاهدة  ABMواتفاق كيوتو. وما إن رحل بوش عن البيت الأبيض حتى تنفس العالم الصعداء.

أما الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما فلم يعلن أبداً مذهباً أو مبدأ للسياسة الخارجية، وهذا ما جعل الإعلام والمعلقين السياسيين يحتارون في العقيدة الحقيقية التي يقوم عليها مذهب أوباما. لكن أوباما أعلن في خطاب رئاسي ما يعكس ابتعاداً واضحاً عن مبدأ الحرب الاستباقية لسلفه، وقال إن السياسة الخارجية الأمريكية سوف تعتمد على الدبلوماسية والتشاور مع المنظمات الدولية بقيادة الأمم المتحدة. ورغم أن أوباما ألمح إلى قصور النظام الدولي الحالي، إلا أنه أوضح أن بلاده لم تنجح عندما تصرفت خارج هذا النظام. بل ذهب أوباما أبعد من ذلك عندما حدد مواصفات النظام الدولي الجديد الذي يريده لمواجهة تحديات العصر التي لم تعد الولايات المتحدة ولا غيرها من الدول مواجهتها بشكل أحادي. وتشمل التغير المناخي، ارتفاع درجة حرارة الأرض، التلوث، وقف انتشار الأسلحة النووية، الفقر، مواجهة الإرهاب، دفع النمو الاقتصادي العالمي والتزايد السكاني..الخ.

ومن الواضح أن أوباما يحاول تحسين صورة أمريكا حول العالم بعد قرابة عقد من سياسة سلفه بوش التي لاقت شكوكاً من أطراف عديدة. ولكن السؤال هو؛ ما الذي يدفع أوباما للعودة إلى حضن المجتمع الدولي والمنظمة الدولية؟

واقعية أمريكية أم ظروف حتمية؟؟

عبر التاريخ، تمت ملاحظة نقاط تحول مهمة في نهاية الحروب الكبيرة التي قوضت أو دمّرت الترتيبات الدولية الموجودة من قبل. فقد جسّدت الحربين العالميتين الأولى والثانية تحولات أساسية في السياسات العالمية. ولا تقل نهاية الحرب الباردة أهمية عنهما. فقد أعطت نهاية الصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية أو الغرب والشرق، الدولَ فرصاً مهمة للاختيار. وبدا أننا على أعتاب حقبة جديدة في السياسات العالمية. ورغم التغيرات الهائلة التي حصلت، فإن أشياء كثيرة استمرت كما هي.

ورغم انتهاء الحرب الباردة بدون تدمير بشري هائل كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا أن تلك النهاية السلمية لم تقد بشكل تلقائي إلى مستقبل مسالم. وإذا كان توزع القوة في الحرب الباردة، ثنائي القطب (bipolar)، فإن الولايات المتحدة اختصت لنفسها لحظة فرضت فيها الأحادية القطبية ( unipolarity) كنظام عالمي جديد( New World Order) واستمرت لسنوات القوة الأولى برصيدها العسكري والاقتصادي والدبلوماسي والسياسي العامل الحاسم في أي نزاع يحدث في أي بقعة من العالم وتقحم نفسها به.

وإذا كانت قوة أي إمبراطورية أو دولة عظمى تعتمد في الأساس على عاملين أساسيين في فرض هيمنتها ونفوذها، وهما القوة العسكرية والإمكانات الاقتصادية، إضافة إلى عوامل أخرى بالطبع، فإن تراجع النفوذ الأمريكي يبدو حتمياً. فالقوة العسكرية الأمريكية المنتشرة عبر أصقاع العالم آخذة في التآكل ودورها آخذ في التضاؤل. وما الحرب في العراق وأفغانستان إلا خير دليل على محدودية هذه القوة. أما الأزمة المالية الحالية، فإنها بدون شك حدّت من قدرة الولايات المتحدة وتأثيرها على المسرح الدولي، وأضعفت هيبتها في أعين معجبيها وخصومها.

وعليه، فإن كثيرين بدأوا ينظرون للحقبة الراهنة على أنها نهاية حقبة الأحادية القطبية وبدء حقبة جديدة أو تشكل نظام عالمي جديد سِمَته الأساسية التعددية القطبية( multipolarity)، ولاعبوه الجدد دول ناشئة ـ إلى جانب أخرى موجودةـ طامحة للعب دور عالمي مثل اليابان أو الصين أو البرازيل وتركيا اللتان برز دورهما في موضوع الملف النووي الإيراني مؤخراً، حيث أن هذه الدول لم تعد تنتظر أن تستلم دورها من الولايات المتحدة.

بالتأكيد لن تكون ولادة نظام متعدد الأقطاب سهلة، وسيواجه تحديات جمّة تأخر تكوينه. وأول هذه التحديات على سبيل المثال هي الولايات المتحدة التي لا أحد يعرف كيف ستقبل بقيام نظام عالمي جديد، وكيف ستتأقلم معه خاصة وأن هذا النظام سوف يحد من هيمنتها ويجعلها دولة عادية مثلها مثل غيرها من الدول الأخرى. وينطبق الأمر على الدول الغربية أيضاً.

في حديثه لصحيفة "لاريبوبليكا" La Repubblica"" الإيطالية ونشرته في عددها يوم 24/5/2010، لخّص الرئيس بشار الأسد الأمر، فتحدث عن تراجع نفوذ الولايات المتحدة في عملية السلام في المنطقة، وتحدث عن منطقة نفوذ جديدة بين خمسة بحار( الأحمر ـ المتوسط، الخليج العربي ـ قزوين والبحر الأسود)، وتحدث عن قوى جديدة مشيراً إلى روسيا وتركيا وإيران وسورية وغيرها؛ "نتحدث عن مركز العالم من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب". وهذا يعطي فكرة عن نمط من النظام العالمي الجديد الذي يشهد مرحلة مخاض. إنه "تحالف تفرضه المصالح المشتركة أي فضاء تتوافق ضمنه السياسات والمبادئ والمصالح وهي خارطة جديدة يعززها أيضاً الجوار الجغرافي وعلى هذه الأرضية تتحرك القوى الإقليمية وتلك الصاعدة".

إن حديث الرئيس أوباما عن "الدبلوماسية والتشاور مع المنظمات الدولية بقيادة الأمم المتحدة"، بداية جيدة ولكن العبرة في التطبيق العملي. وهو من جانب آخر وهذا هو المهم، اعتراف بعجز الولايات المتحدة عن مواجهة التحديات العالمية "نعم، نعرف نحن قصور النظام الدولي. لكن، لم تنجح أميركا عندما تصرفت خارج هذا النظام، خارج تيارات التعاون الدولي الحالي، لكننا نجحنا في تغيير تلك التيارات نحو الحرية والعدل، لتواجه كل دولة مسؤولياتها، ولتتحمل العواقب إذا لم تفعل ذلك".

لذلك، فإن هذه المتغيرات الدولية وتلك في موازين القوى، ووجود شخص مثل الرئيس أوباما في البيت الأبيض تعتبر فرصة لخلق مناخات جديدة في السياسات الدولية تقوم على الثقة والتعاون والتقارب وتحتّم أولاً إعادة هيكلة الأمم المتحدة ولاسيما مجلس الأمن الدولي وموضوع حق النقض "الفيتو" ليكون المجلس أكثر عدلاً في تمثيل العالم جغرافياً أولاً، ولجهة القوى التي ستنضم إليه، وطريقة عمله ثانياً. وثالثاً، لجهة تطبيق قراراته بشكل كامل وليس بطريقة استنسابية تعكس ازدواجاً في المعايير وخللاً في ميزان العدالة الدولية يولد غبناً يهدد السلام والاستقرار الدوليين. وهذا سيظهر مدى استجابة الولايات المتحدة والدول الأخرى ـ لاسيما الغربية ـ لمتطلبات كهذه، ونعرف حينها أين هو مبدأ الرئيس أوباما في التطبيق العملي وكيف سينعكس على العلاقات الدولية.

في النهاية، فإن مستقبل العالم يتوقف على قدرة الدول على العمل معاً لمواجهة تحديات المناخ والبيئة والإرهاب والفقر والأمراض.. الخ. وعلى هذه الدول القيام بالإصلاحات الضرورية لمواجهة هذه التحديات الجماعية وتأمين الأمن الجماعي لها(collective security). بمعنى آخر، فإن الدول ومهما بلغت من القوة لم تعد قادرة على تأمين أمنها الخاص في ظل تداخل المخاطر وكونيتها، ولم تعد حرّة في إتباع سياسات أنانية أحادية تنعكس مخاطرها وتأثيراتها السلبية على الآخرين.

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.