تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الذلّيات

 

 

محطة أخبار سورية

نبيل سليمان

في كتاب أنطون سعادة (الصراع الفكري في الأدب السوري ـ 1943) رسالة منه إلى شفيق المعلوف تعود إلى عام 1926, ويأخذ فيها على ديوان المعلوف (الأحلام) ما فيه من (لهجة الكآبة والحزن) التي كانت (موضة) أيام بيرون وميسه: (وهي في الشرق خصوصاً فينا نحن السوريين, داء دفين) . وإذا كان سعادة يثني على ما في شعر المعلوف من بديع التصور وجميل الخيال ورقة التعبير, إلا أنه يضيف: (لكنك تقلد يا صديقي. ولا أقول مقلداً لجبران وهو مثلك في دموعه من المقلدين). وقد رد المعلوف بعد أربعة شهور تقريباً معلناً أنه من هواة الشعر الخالد الذي لا يرتبط بالأزمة.

 

وفي ملاحق كتاب أنطون سعادة ما كتب محمد حسين هيكل عن السجال بين أمين الريحاني والأخطل الصغير حول قصيدة الأخير (الهوى والشباب) التي عدها من النوع البالي, ودعا الشباب إلى هجره. أما هيكل فيري أن بكاء القصائد هين إزاء غيره, ويقول: (فإن فن الغناء عندنا يكاد يكون بكاء كله. استمع إلى عبد الوهاب, استمع إلى أم كلثوم, استمع إلى غيرهما, بل استمع إلى صالح عبد الحي نفسه, تجد النغمة المحزونة تسود كل الأغاني إلاّ قليلاً. ويسجل هيكل أن الواحد من أولاء الفنانين يستقبل استقبال الفاتح حيث نزل لأن (النغمة المحزونة هي التي تستهوي الجماهير في الشرق كله).

 

 

من ذلك الأمس البعيد إلى أمس قريب (ثمانون عاماً تقريباً) يتواصل النواح والبكاء في الفنون والآداب, وآخر ما قرأت من ذلك رواية الطاهر وطار (قصيد في التذلل) الصادرة للتو, والتي تبدأ بالسخرية من الشعر الباكي المتذلل بدءاً من امرئ القيس وليس انتهاء بقصيدة الأخطل الصغير (الهوى والشباب). غير أن الرواية تنعطف من بعد لتتقرى معنى جديداً ومعاصراً للتذليل والبكاء في حياتنا وفنوننا, والخلاصة أن الرواية تعري سقوط المثقف اليساري أمام من تدعوه (السيد الكبير), وحيث يدرك المثقف الكارثة فيشكو لزوجته فجرية أنه رهن روحه للشيطان, وأن هناك شخصاً آخر يتشكل فيه ويحل محله, وهو الذي يرسم التذلل الطريف العتيد فيما يخاطب به زوجته: (إذا ما ظل السيد الكبير أو أي مسؤول آخر أعلى منك, يكذب عليك ساعات وساعات, يقول لك إن جبل الأوراس العظيم يوجد في الحدود الجزائرية - المغربية, فينبغي أن تتظاهري يا فجرية بأنك لم تنتبهي لهذه الهفوة المسكينة, وأن تبدي علامات التصديق الجازم في كل كلمة يقولها. وأحسن تبرير تقدمينه لنفسك, أن تقولي: إنه يختبر طاعتي واستكانتي, واستعدادي لتقديس كل ما يتفوه به. إذا ما شعرت بأية بوادر مشاعر غضب تعتريه, فيجب أن تعتذري, قبل أن يشرع في التعبير عنها, تعتذرين, ليس بعبارات الاعتذار أو بأية كلمة, فهذا قد يثيره بل إنه ليستفزه ويثيره, فيكون مالا تحمد عقباه, إنما بالانحناء يميناً, يساراً, وقطع خطوة إلى الخلف وفرك اليدين, فرك اليدين بصفة خاصة أبلغ تعبير عن الاستسلام. ‏

 

في موضع آخر من الرواية تحدث الراقصة ابنتها عن فنها وعن زوجها, مذ يبدأ القصاب (العازف على القصبة) بلحن خفيف يشبه الموال. وحين تطل الراقصة يتابع اللحن متذللاً, وتحس هي بالرجل الواقف وراء الباب يتذلل, إنه زوجها المجاهد, لكنها تتمنع وتدق بقوة على الخلاخل وتشمخ, فتستجدي القصبة في تذلل ابتسامة, قبلة, نظرة رحيمة. ‏

 

غير أن الطاهر وطار يختتم روايته مع راقصة أخرى ومغن آخر يعلن فنهما في حفل أمام السيد الكبير بعظمته معاني أخرى للحزن على ما انقلبت إليه الأحوال حتى سادت ثقافة (سلك راسك) وثقافة (لا صوت يعلو على صوت الحاجة) وبالمقابل يعلن هذا الفن: (آتون من كل فج آتون) بينما الشباب يتماوجون مع الإيقاعات المتعاقبة للرقص والغناء. ‏

 

مع هذه الرواية تتزامن زوايا خطيب بدلة الهاتكة لأستار النواح في الأغنية العربية الكلاسيكية وتجذر هذا النواح في ثقافتنا, مذكراً بنواحة العرب (الخنساء) وبما يغني ناظم الغزالي لأبي فراس الحمداني, ليصل إلى آهات أم كلثوم وأغنيتها (سيرة الحب) وأغنية عبد الوهاب (خايف أقول اللي ف قلبي) وأغنية فايزة أحمد (خاف الله) وأغنية ليلى مراد (اسأل عليّ وارحم عيني).. ‏

 

لكن ما يشفي الغليل هو ما سبق لغازي أبو عقل أن قدمه ذات أمسية في خريف 1991. فالرجل يتفهم الحزن, لكن ما لا يفهمه هو الذل. وقد اصطفى نماذج مغناة سماها بالذليات, ومنها لمحمد عبد الوهاب (ياسيدي شوف ذلي والامتثال حرام عليك ارحو ودادي ـ كتير يا قلبي الذل عليك, ده ذنبك إنت وليه ترضاه ـ الهوان ويّاك معزة ـ يا روحي شوف ذلي وهواني حرام عليك هجرك ضناني ـ وأقول يا ربي ليه الزمان يحسب ذلي وطول شقايا ـ في الذل بحبك يا روحي) ومن ذليات أم كلثوم يعدد غازي أبو عقل قصيدة الرجاجي التي غنتها عام 1926, أي سنة ما تقدم ذكره من أنطون سعادة وشفيق المعلوف, ومن القصيدة (لي لذة في ذلتي وخضوعي / وأحب بين يديك سفك دموعي) لكن غازي أبو عقل كتب أنه يمكن له أن يتفهم ذلك (الذل) عام 1926, ولا يتفهمه من أحمد رامي عام 1948 في قوله (عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك), فكيف إذاً بما هو أكبر ذلة في هذه الأيام؟ ‏

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.