تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

رسالة إلى نصف مجنون

محطة اخبار سورية

بقلم: حنا مينه
لا تسلْها فلن تجيب الطلولُ

المغاوير مثخنٌ أو قتيلُ ‏

موحشات يطوف في صمتها الدهر

فللدهر وحشة وذهولُ ‏

نام عند الثرى أحباء قلبي ‏

فالثرى وحده الحبيب الخليلُ

يا رفاقي بكيت فيكم شبابي ‏

كل عيش بعد الشباب فضولُ ‏

وأنت، يا حنا، أيها الحلاق الذي لم يتقن صنعة الحلاقة، فارقك أحباؤك الواحد بعد الآخر، ذهبوا جميعاً في عربة الموت، إلى حيث الموتى يرقدون، وبيوتهم في ذاكرة الأحياء فقط، رحلوا عنك وأنت عاجزٌ في شيخوختك، فلكل أجل كتاب، وكتابهم في يمينهم، وهم يرقون إلى سدرة المنتهى، بعد أن عبروا الصراط المستقيم، وفازوا في امتحان الدينونة. ‏

تذكّر، يا حلاقنا، الذي يكذب على الناس، قائلاً: إن شهرته العالمية، أتت بضربة حظ، بينما أنت تصارع خيبات هذا الحظ، منذ تأمّلت الوجود من حولك، وأدركت، مبكراً أن الحظ ضدّك، وان عليك أن تصارع هذا الحظ، أمس واليوم وغداً وأن تتقبل الصلب، كي تبقى شمعتك التي تنوس، منيرة بإشراق الأمل لا الحظ، كفى ما أشعلت أمك الحنون، من شمع وشمع، رجوة ألا تنطفئ شمعة ابنها الوحيد، العليل، ولادة ومراهقة واستواء رجولة. ‏

في فلسطين والعراق ‏

في إحدى ليالي الخريف، ودكان الحلاقة مغلق، كي لا ترى الطائرات الهتلرية مدينة اللاذقية، فكان الصباغ الأزرق مفروضاً على أضواء السيارات ونوافذ البيوت، ودكاكين الناس في كل أنحاء المدينة، وقد سمعت وأنا في (صالون الزهور) أحلق ذقن (أبو حليمة) وهذا اسمه الحركي، باعتباره من المجاهدين بالسلاح ضد الانتداب الفرنسي على سورية، وقد قاد أبو حليمة هذا معركة (السفكون) الشهيرة، ضد انتقال سرية من (جيش الشرق) الفرنسي، من حلب إلى اللاذقية، والسفكون موقع حصين بين جبل عالٍ، يتمترس فيه الثوار بين الصخور وبنادقهم مصوبة إلى الطريق، وبين وادٍ عميقٍ، شديد الوعورة، يجعل الطريق الضيق بين اللاذقية وحلب، صعب الاجتياز، في التكويعة التي لا بد من اجتيازها، غدواً ورواحاً، سواء للسيارات، أو وسائل النقل خصوصاً، وأبو حليمة هذا صدر قرار فرنسي بإعدامه، إذا ما واصل اصطياد المارة في موقع السفكون، وبعد مفاوضات طويلة، بين ممثل الحكومة السورية الكتلوية من جهة وبين المستشارية الفرنسية، في اللاذقية، من جهة أخرى، انتهت، أو تكللت بالنجاح، مؤقتاً على الأقل، شريطة أن يتوقف أبو حليمة ومن معه عن قطع الطريق على الفرنسيين، وتتوقف الشرطة الفرنسية عن ملاحقة (أبو حليمة) وجماعته المسلحة و(الإرهابية) من جهة أخرى، ثم يصدر ما يشبه العفو عنه وعن جماعته. ‏

أنت كنت يا حنا حلاقاً، في العشرين من عمره، تلتهم الكتب كما تلتهم النار الحطب، وكنت تُخرْبش بعض الكلمات، ولا تجد من يقرأ هذه الخربشات، وقد كتبت إلى رئيس تحرير جريدة (الحياة) في بيروت، رسالة لا بأس بها، من ناحية سلامة اللغة، أو طريقة التعبير، وناشدت حبيبته، من هي حبيبته؟ وهل له حبيبة غير زوجته؟ أن تتدخل، وكيف استخدمت خبث اللاشعور، الذي ابتدعته دون أن تعرف إلا بعد ستين عاماً ما معناه، وتجعله إحدى إضافات علم النفس الذي برعت به بشهادة الأستاذ عبدو عبود، الذي يدرّس الأدب المقارن في جامعة دمشق. ‏

وقد كتب عنك عدة مقالات، ونصح إحدى تلميذاته أن تقرأ علم النفس جيداً، قبل أن تبدأ كتابة رسالتها، أو اطروحتها، التي اختارت أن تكون هذه الأطروحة عن رواية أو روايات الحلاق حنا مينه لنيل الماجستير في جامعة حمص، وما أدراك وحمص هذه مشهورة جداً، بما يتندر به أهل حماة وسورية كلها، عن حمصية الحماصنة وغفلتهم، مع أنها، أي حمص، مدينة الأذكياء الكبار، مثل روحي فيصل، ويوسف فيصل، والصحفي المشهور سعيد التلاّوي، صاحب جريدة (الفيحاء) الذي رثى، بدوره مقهى البرازيل، بعد إغلاقه قائلاً (قف بالطلول وقل يا دمعتي سيلي/ أخنى الزمان على مقهى البرازيل). ‏

إن مقهى البرازيل هذا، القريب قليلاً من بوابة الصالحية كان مجمع الأدباء والمفكرين والظرفاء والمحازبين، ومقهى (أبو حسن) صاحب (حزب يصْطفلوا)، ومقهى الظريف جداً الشوربجي، صاحب النكات خفيفة الظل، نافذة الحد، باترة الجلد حتى العظم، صاحب المقولة المعروفة (مقهى الصفا، والحكي بالقفا) وأصحاب النوادر الذكية، الموجعة، مثل نجاة قصاب حسن، وعبد المطلب الأمين، الذي اخترع نهفة (الزعمريس) أي الزعيم الرئيس شكري القوتلي، ومحمد الماغوط، هذا الذي كتب المسرحيات الشهيرة، مع الفنان دريد لحام، مثل (ضيعة تشرين) و(غربة) و(كاسك يا وطن) وأفلام (التقرير) و(الحدود) وغيرهما الكثير، وكان الماغوط رحمه الله، أحد العباقرة العرب، وأعلاهم مقاماً، مع دماثة، ولطف، وحسن معشر. ‏

ليت المراثي التي ابتدعها، سجلاً لهؤلاء المبدعين، بعد إغلاق مقهى البرازيل، دونت، وحفظت في كتاب، لكانت تاريخاً مجيداً، لتلك الحقبة من تاريخ سورية، منجم الإبداع بامتياز. ‏

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.