تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

العلاقات السورية التركية..من التأزم إلى التعاون

يستحق التطور الذي شهدته العلاقات السورية التركية مؤخرا مزيدا من الاهتمام والتأمل من زوايا عديدة، لأن هذه العلاقات دخلت مرحلة غير مسبوقة بعد توقيع اتفاق إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين وتأسيس مجلس تعاون إستراتيجي مشترك يجتمع مرة في السنة على الأقل، وبات مشهد علاقات البلدين الجارين اليوم يظهر مستوى مميزا من التعاون والتبادل والتفاهم على مختلف المستويات، السياسية والأمنية والاقتصادية.

 
ولا شك أن مشهد العلاقات السورية التركية يختلف تماما عما كان عليه قبل عام 1998، إذ كان التأزم والتوتر والاحتقان سمات لمرحلة من حرب شبه باردة وغير معلنة بين البلدين، والتي أنهاها اتفاق "أضنة" من العام نفسه، وجعلها تسير في طريق علاقات متميزة وإستراتيجية، وذلك بعد التوصل إلى إنهاء الخلاف حول ما كان يسمى في ذلك الوقت "الورقة الكردية" والحدود.
 
من التأزم إلى التفاهم
لم تكن العلاقات السورية التركية في حالة طبيعية منذ استقلال سوريا عام 1946 وصولا إلى نهاية القرن الماضي، بل سادت حالة من العداء والتأزم مجمل هذه الفترة المديدة، وذلك على خلفية أسباب عديدة، أهمها ضم تركيا لواء إسكندرونة عام 1938 بمؤازرة الاحتلال الفرنسي، واختلاف الخيارات والتحالفات الإستراتيجية لكلا البلدين، حيث اختارت تركيا السياسات والتوجهات الأطلسية، في حين انحازت أغلب الحكومات السورية إلى التوجهات اليسارية والاشتراكية.
وخلال هذه الفترة دخل البلدان، في أكثر من مرة، حالة من النزاع، كادت تفضي إلى حرب مدمرة بينهما، وكان يجسدها على الأرض تعزيز الوجود العسكري على الحدود وزراعة المزيد من الألغام على الجانب التركي، بحيث لا يستطيع أي كائن عبورها. وامتد النزاع ليشمل المياه، خصوصا خلال تسعينيات القرن العشرين، حيث قامت تركيا بإنشاء سلسلة من السدود الكبرى على نهر الفرات، فحجزت القسم الأعظم من مياهه، وحجزت مياه نهر الخابور بأكملها حتى جفّ وتوقف جريانه في الأراضي السورية.
 
وانتقل التأزم إلى مرحلة خطيرة من تنامي التعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل، حيث نظرت القيادة السياسية السورية إليه بوصفه يهدف إلى وضع سوريا بين فكي كماشة، وأن الحلف العسكري والسياسي والأمني بين تركيا وإسرائيل يشكل ضغطا إستراتيجيا عليها في مختلف المجالات، وأنه يشكل الأساس للحذر والريبة وخطرا يهدد الأمن الإستراتيجي القومي العربي.
بالمقابل، كانت تركيا تتهم سورية بإيواء وتدريب عناصر حزب العمال الكردستاني، وأنه يستخدم "الورقة الكردية" لزعزعة أمنها، إضافة إلى أنها كانت تنظر بريبة للعلاقات السياسية وللتعاون السوري اليوناني والعلاقات مع الشطر اليوناني من قبرص، فضلا عن تذمرها من عرض المسلسلات الدرامية السورية التي تظهر الاضطهاد العثماني في سوريا إبان حكم الإمبراطورية العثمانية. وبلغ النزاع أوجه عام 1988 بين البلدين حين هدد القادة الأتراك باجتياح الأراضي السورية بحجة وقف هجمات حزب العمال الكردستاني.
وبدأ مشهد العلاقات السورية التركية بالتغير بعد انتهاء أزمة 1998، فبرز توجه نحو الحوار والتفاهم لدى الحكومتين السورية والتركية، يحذوه السعي نحو إقامة علاقات أفضل وأكثر استقرارا بين البلدين، فبدأ التوافق في الجانب الأمني، ثم انتقل إلى الجانب الاقتصادي والسياسي، وجرى توقيع عدة اتفاقيات في جميع مجالات الاختلاف، نفّذ معظمها في أوانه.
وأعطت زيارة الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزر لدمشق في يونيو/حزيران 2000 دفعة قوية في اتجاه تغيير علاقة أنقرة بدمشق، وعززتها زيارة الرئيس بشار الأسد الأولى إلى تركيا عام 2004، لكن فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية والمواقف السياسية التي اتخذها قادته في السياسة الخارجية كان له الدور الأكبر في تحول العلاقات السورية التركية نحو التفاهم والتعاون، حيث جرى التفاهم على تحويل الحدود من نقطة خلاف وتوتر إلى نقطة تفاهم وتعاون، فوقعت اتفاقية إزالة الألغام من على جانبي الحدود لإقامة مشاريع إنمائية مشتركة.
وأعلن هذا التوجه بداية عهد التقارب الذي سيقلب حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء والتفاهم والتعاون، خصوصا وأن قادة حزب العدالة والتنمية رفضوا المشاركة في سياسة العزل والحصار التي حاول الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش فرضها على سوريا، بل قام الساسة الأتراك بلعب دور الوسيط بين سوريا ومختلف الحكومات الأوروبية، الأمر الذي أسهم في مساعدة النظام السوري على عبور تلك المرحلة الصعبة.
وعلى الجانب السوري، تجاوزت القيادة السياسية السورية كل مثبطات العلاقة مع تركيا، فرمت بعيدا بما تحمله الذاكرة والتاريخ تجاه الأتراك، وصرفت النظر عن عضوية تركيا الأطلسية، وشيّدت علاقات ثقة وتعاون معها، حتى أصبحت تركيا راعية للمفاوضات السورية الإسرائيلية غير المباشرة.
التعاون الاقتصادي
 
لا يشمل التغير الذي شمل العلاقات السورية التركية المجال السياسي فقط، بل الجانب الاقتصادي، فتركيا حققت نجاحات اقتصادية هامة، وتريد أن تكون سوريا بواباتها العربية إلى دول الخليج ومصر وسواها، لذلك جرى التوقيع عام 2004 على اتفاقية التجارة الحرة، وتمّ الشروع بتطبيقها عام 2007، وفي السياق ذاته جاء اتفاق فتح الحدود بين البلدين من دون سمة دخول، والذي بدأ العمل به في منتصف الشهر الماضي، فضلا عن عشرات الاتفاقيات الاقتصادية الأخرى.
غير اللافت هو أن جميع الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين البلدين جرى تنفيذها في مواعيدها المحددة، ولم تبق حبيسة الأوراق في الأدراج مثل جميع الاتفاقيات بين الدول العربية. ويستطيع المراقب أن يعاين التبادل المستمر لوفود رجال الأعمال والشركات في البلدين، وأن يلحظ إعلانات الاستثمارات والشركات المشتركة في عاصمتي البلدين، والحضور الكثيف للبضائع والمنتجات التركية في جميع الأسواق السورية، حيث ازداد حجم التبادل التجاري بين البلدين بشكل متسارع، فبلغ خلال سنوات معدودة نحو ملياري دولار سنويا، ومتوقع منه أن يتجاوز الخمسة مليارات دولار خلال الأعوام القليلة القادمة، وبما يحوّل تركيا إلى الشريك التجاري والاقتصادي الأول لسوريا.
وكانت نقطة الانطلاق في الجانب الاقتصادي هي توقيع البلدين اتفاق التجارة الحرة بينهما، الذي يسمح بتدفق البضائع في الاتجاهين وإقامة مشاريع مشتركة. وقد أثمر العديد من المشاريع الصناعية ومشاريع البنى التحتية والخدماتية، وامتد ذلك إلى الجانب الثقافي، حيث شرع بتدريس اللغة التركية في دمشق وحلب، واللغة العربية في أنقرة وإسطنبول، وتأسست جمعيات ثقافية، مثل الجمعية العربية للعلوم والثقافة والفنون في أنقرة، وقامت شركات سوريا بدبلجة المسلسلات التركية وعرضها للمشاهدين العرب. وبادر الجانب التركي إلى رفع كمية تدفق مياه نهر الفرات لتصل إلى 575 مترا مكعبا في الثانية، ووافق على أن تمرّ أنابيب الغاز المصدر من أذربيجان إلى سوريا، وأن تكون الأراضي التركية ممرا لربط شبكة الغاز العربية من مصر إلى الدول الأوروبية.
وجاء اتفاق إلغاء التأشيرات، الذي يسمح بدخول السوريين والأتراك دون الحاجة إلى إجراءات قنصلية والذي وصفه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بـ"شام غن"، في إشارة إلى تشبيهه بـ"شينغن" الأوروبية، كي يتوج صفحة الانفتاح والتعاون الاقتصادي بين البلدين.
مقومات التفاهم
مقومات التفاهم السوري التركي عديدة، ويدعمها تمكن القادة السوريين والأتراك من إنجاز اختراق له أهمية خاصة بالنسبة لسياسات المنطقة، يتعلق في جانب التعاون في قضية إقليمية لها أهميتها بالنسبة للبلدين، وهي القضية الكردية، إلى جانب التفاهم حول وحدة التراب العراقي، وخاصة رفض قيام حكم كردي فدرالي في شمال العراق، والذي يمتلك منذ بداية التسعينيات كل مؤسسات الدولة، تحت مسمى الحكم ذاتي.
وهذه نقطة للتوافق في الرؤية الإستراتيجية لكلٍ من الدولتين، ذلك أن فدْرلة العراق، على أساس إثني قومي، يعني بالنسبة إليهما تقسيما للعراق، وبما يؤثر على وضع الأكراد في البلدين، ويعزز ذلك مسعى القيادات السياسية الكردية لضم كركوك إلى كردستان، والذي يتخذ طابعا انفصالي التوجه، ودامي الأدوات، الأمر الذي سيترك بصماته الدامية على علاقة التعايش التاريخية في هذه المدنية ما بين الأكراد والتركمان والآشوريين والعرب، والتي منحت هذه المدينة هوية مركبة على مرّ العصور.
آمال التعاون
يؤكد تطور العلاقات بين البلدين عزمهما على المضي قدما في اتجاه تعزيز التعاون بينهما، ونقله إلى مرتبة التفاهم الإستراتيجي الذي يُفعّل مستويات عليا من التعاون. وذلك لأن تطور مستوى التعاون الإستراتيجي يُمكن لتركيا من خلاله أن تدخل إلى العالم العربي عبر البوابة السورية، وفي الوقت ذاته إذا تعاملت القيادة السورية مع تركيا وفق منظور إستراتيجي، فإنها تدرك أهمية العلاقات مع تركيا، الدولة الأطلسية، لذلك توجب العمل على إعادة النظر إلى تركيا بوصفها جارا يمكن أن يلعب دورا هاماً في دعم سوريا.
والمأمول من الاتفاقات الموقعة أن تندرج في سياق الرهانات الإستراتيجية بين الدولتين، والتي تنهض على المنفعة وتبادل المصالح بينهما، مصالح الشعبين السوري والتركي، وليس مصالح الفئات المافيوية والفئات والأجهزة المتنفذة. والمأمول كذلك هو أن يأخذ المسار الديمقراطي، الذي جرى الحديث عنه، طريقه إلى التطبيق، والأجدى أن يجد كلام السيد رجب طيب أردوغان آذانا صاغية حول مشاركة سوريا "في هذا الانفتاح الديمقراطي، وفي حال وصول هذا الانفتاح الديمقراطي إلى النجاح فإننا سنكون سعيدين جدا".
النموذج التركي
"
 
لا شك أن فاعلية تركيا اليوم وتنامي دورها في ظل حكم حزب العدالة والتنمية يشير إلى أنها تمكنت من حل معظم مشاكلها الداخلية، وسارت في طريق ديمقراطي، يصلح لأن يكون نموذجا، وما يدعمه هو نجاحها في سياساتها الاقتصادية، وسلوكها طريقا إيجابيا في التعاون الدولي.
ومن الطبيعي أن الدولة حين تحل مسألة التداول السلمي للسلطة، وتسير في ركبها، فإنها ستحظى بدعم شعبي كبير، وستسلك طرقا عقلانية وفاعلة، وبما يجعلها قادرة على تحقيق مصالح شعبها، وعلى جذب الآخرين نحو طريقها الصحيح، لذلك تصالحت تركيا مع شعبها ونفسها وتاريخها، وباتت تشكل جسرا للتواصل بين عوالم مختلفة: الأطلسي والإسلامي، والغربي والشرقي، والأوروبي والآسيوي.
وقد حققت تركيا اليوم بقيادة حزب العدالة والتنمية ما عجزت عن تحقيقه في مختلف مراحلها السابقة، وليس غريبا أن هذا البلد الذي كان ينسق ويتعاون عسكريا مع إسرائيل غيّر رؤيته تجاه دولة الاحتلال الصهيوني، وباتت سوريا بوابته الآسيوية والعربية.
      
 
 *- عمر كوش
 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.