تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

التأجير التمويلي متى يشقّ طريقه إلى النـور!

 

محطة أخبار سورية

سعيد مهندس في بداية الطريق، أرهقه البحث عن ضمانات جديدة تقنع المصارف بأنه شخص مضمون ومثالي، يوفّي ديونه عن آخرها حتى للبقال والسمان على الرغم من ضيق الأحوال، ويدفع أقساطه المستحقة في أول كل شهر من راتبه الميمون، ووجد في وسط دوامة القروض والبحث عن أفضل الوسائل لشراء منزل العمر الذي سيستقر فيه بقية حياته، ويلتزم بأقساطه للعشرين عاماً القادمة.. وجد في خدمة يقدمها أحد البنوك الإسلامية فرصة أكثر عدالة، والفكرة بسيطة وعملية تقضي بأن يدفع سعيد جزءاً من ثمن المنزل الذي يتمنى أن يملكه «الربع في الأنظمة الحالية»، ويلتزم بأقساط إيجار للبنك لعشرين عاماً، يصبح بعدها البيت ملكاً له دون ضمانات معقدة أو إشارات رهن على البيت، أو تعقيدات بيروقراطية فيما يسمى «الإجارة المنتهية بالتمليك»، وهي خدمة تقدمها البنوك الإسلامية غير أنها نموذج لأسلوب تمويلي معتمد في العديد من دول العالم ودول المنطقة يُسمى «التأجير التمويلي»، وليست العقارات سوى وجه واحد فقط منها، فهناك أوجه عديدة وخدمات متنوعة يمكن أن تنضوي تحت عنوان «التأجير التمويلي» خاصة في المنشآت الصناعية، حيث يصبح التوسع في أية منشأة عبئاً كبيراً على صاحبها بسبب المبالغ الهائلة، التي سيتحملها لاستقدام آلات حديثة وتقنيات يحتاجها لتطوير إنتاجه، وربما لن يجد بنكاً يُقرضه مثل هذه المبالغ أو ضمانات كافية.. وهنا يصبح التأجير التمويلي الحل الأمثل لمثل هذه الحالات، حيث تشتري شركة التأجير التمويلي الآلات، وتؤجرها للصناعيين لتقلص من تكلفتها العالية وتخفف الأعباء المالية عنهم، وبعد انتهاء عقد الإيجار، الذي قد يمتد لعشرين أو ثلاثين سنة، يسدد ما تبقّى من ثمنها فتصبح ملكاً له أو يتخلى عنها.

 وقد وجد هذا الأسلوب في التمويل رواجاً شعبياً كبيراً في الدول التي طبقته، خاصة في الدول التي لا تسمح إمكانيات الشركات فيها باستقدام التقانات بسبب كلفتها المالية، وتفننت شركات التأجير التمويلي بتقديم خدماتها لكافة شرائح المستهلكين، فدخلت مجال تأجير السيارات لآجال زمنية طويلة، والمفروشات المكتبية والمنزلية، والآلات والتجهيزات الطبية، وكل ما يخطر على بال، مستفيدين من مرونة هذا الأسلوب التمويلي لأنه لا يمرّ بدوامة البحث من ضمانات وتعقيدات الكفلاء والإجراءات، طالما أن الأصل «أياً كان نوعه» الذي تنوي شركة التمويل تأجيره هو  ملك لها قانونياً، ولكنها تَعِدُ المستأجر ببيعه بعد انتهاء عقد التأجير، وإذا ما سارت الأمور على خير ما يرام دون مفاجآت ومطبات تظهر خلال التطبيق فسيكون مشهداً اعتيادياً أن تختار البيت الذي يعجبك، وتدفع جزءاً من ثمنه، وتوقّع عقداً لاستئجاره لعشرين أو ثلاثين عاماً، يصبح بعدها ملكاً لك، أو أن تقرر بدء مشروعك الخاص وتستأجر معداته وتباشر فيه بكلف معقولة!.. ولكن ربما يكون من المبكر أن نصل إلى هذا الحدّ من الحلم، فالموضوع برمته لا يزال حتى الآن مسودة أولية لمشروع قانون، وعلى الرغم من أن التحضير له بدأ منذ ثلاث سنوات، إلا نه استغرق سنتين ونصف ليتحول إلى صيغة أولية لمشروع قانون، وحوّل إلى الجهات الوصائية منذ نهاية العام الماضي، ولم يحرّك ساكناً حتى اليوم.

 

حين يتكلم المركزي

التوجه الحكومي يبدو واضحاً نحو اعتماد هذا الأسلوب التمويلي في تشجيع تأسيس المشاريع المتوسطة والصغيرة، ويعتبر الدكتور أديب ميالة، حاكم مصرف سورية المركزي في حديث خاص «للبعث» التأجير التمويلي أحد أهم وسائل التمويل الاستثماري، ويرى أنه ينفرد بمحاسن جليّة تميزه عن الإقراض التقليدي، ما يعطي مرونة أكبر، وسرعة في منح التمويل خلال مدة قصيرة مقارنة بإجراءات منح القروض التقليدية، لا سيما أن التأجير التمويلي يحمل في ذاته ضمانات التسديد، فالممول يحتفظ بملكية المأجور، وله الحق باسترجاعه في حال تعثر التسديد مباشرة من خلال فسخ العقد، لذلك لا يحتاج إلى الضمانات التي تطلبها المصارف لدى منحها القروض، كما أن هذا النوع من التمويل يُعتبر ميسراً لعدم التزام المستأجر بتقديم الضمانات التي قد تكون سبباً لعدم إمكانية الحصول على القروض لدى بعض المستثمرين فيما لو رغبوا بالاقتراض من المصارف.

وعن دور مصرف سورية المركزي في هذا النوع من التمويل، يؤكد الدكتور ميالة أن المركزي يلعب الدور الأكبر والأهم في ترخيص وتنظيم شركات التأجير التمويلي، حيث تضمّن المشروع نصاً يجعل سلطة الترخيص النهائي لمصرف سورية المركزي وفق ضوابط يضعها مجلس النقد والتسليف، وقد منح مشروع القانون المصرف المركزي حق الرقابة والإشراف على شركات التأجير وفروع الشركات الأجنبية التي تسجل نفسها في سورية لممارسة عمليات التأجير التمويلي، وبذلك سيكون مصرف سورية المركزي رقيباً على قطاع التمويل عموماً، وسيكون له دور توجيهي لنشاط هذه الشركات ما يتماشى مع السياسة العامة للدولة، لا سيما السياسة الاقتصادية، لجعل هذا النشاط إحدى ركائز التنمية الاقتصادية وتكريسه لخدمة الاقتصاد القومي.

 وقد منح مصرف سورية المركزي أدوات هامة لضبط عمل شركات التأجير التمويلي من خلال إصدار التدابير والتعليمات التي ستتقيد بها الشركات، من خلال إمكانية فرض الجزاءات التي تصل إلى حدّ إلغاء التراخيص في حال عدم الامتثال إلى هذه التعليمات، والخروج عن الأهداف المتوخاة من القانون المزمع إصداره.

أما فيما إذا سيكون نشاط التأجير التمويلي مسموحاً للمصارف وجزءاً من نشاطها أو حكراً على مؤسسات تأجير تمويلي مستقلة، يوضح الدكتور ميالة أنه يمكن ممارسة هذه النشاطات من قبل المصارف وشركات التأجير التمويلي، فالمشروع خصّ المصارف بنصّ يسمح لها أن تساهم بتأسيس شركات تأجير تمويلي لكي تكون داعمة لها، من حيث الإدارة ورأس المال «هاجس التشريع».

ويتفق الخبير الاقتصادي الدكتور عبد القادر حصرية في الرأي مع الدكتور ميالة، ويعتبر أن أسلوب التأجير التمويلي هو أسلوب سريع لا يحتاج بيانات أو ضمانات إضافية، ويناسب البلدان التي تنتقل من اقتصاد التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق، لأن مؤسساتها تكون في الغالب مؤسسات صغيرة ليست لديها القدرة لإعطاء ضمانات أو بيانات إضافية.

الهاجس الأول الذي يقلق الأوساط الاقتصادية المقبلة على هذا النوع من التمويل، هو التشريعات التي ستحكمه ومدى دقتها وحسمها للنزاعات التي قد تنشأ لدى التطبيق ومراعاتها لحقوق الطرفين.

ويشير هنا الدكتور عبد القادر حصرية إلى أن «أي قانون تأجير تمويلي يجب أن يتيح تشريع إجراءات الاسترداد في حال التعسر وسرعة التقاضي، والفصل في النزاعات وتنظيم السجل الصناعي، بحيث لا يُلزم الصناعي بأن تكون الآلات كلها باسمه، ولا بدّ أن يكون هناك سجل خاص بهذا النوع من التأجير تمسكه جهة عامة، بحيث تمنع تصرّف المستأجر بالأصل».

بعض الأطراف التي شاركت في صياغة القانون تقول: إن هذا التشريع القادم، ولو بعد حين، سيكون حضارياً يناسب بيئتنا وخصوصية اقتصادنا، ويلبي متطلبات التأجير التمويلي، ويلبي حقوق جميع الأطراف، ويُخضع شركات التأجير التمويلي لمصرف سورية المركزي.

 

الخلل ليس في التمويل

على الرغم أن المنطق يقودنا للتفكير بأن هذا النوع من التمويل سيكون جزءاً من عمل المصارف، لكن العارفين ببواطن الشأن الاقتصادي يقولون: إنه في ظلّ القوانين التي تحكم عمل المصارف سيكون ذلك غير ممكن، لأن هناك مادة في قوانين المصارف لا تسمح لها بمزاولة أي نشاط تجاري، ولكننا في الوقت ذاته أمام مشكلة، وهي أن هذا النوع من التمويل الذي يمسّ كل احتياجات الحياة، يحتاج إلى مؤسسات مالية مليئة، يمكنها أن تشتري أصولاً بمختلف أنواعها وبقيم كبيرة، وتؤجرها إلى مدى زمني طويل، ويحتاج إلى تشريع قانوني واضح ودقيق يضمن حقوق الأطراف التي ستدخل في هذا النوع من التمويل.

ويشير الدكتور رغيد قصوعة، الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق إلى أن مشكلة التشريع القانوني أنه يحتوي أربعة عقود متداخلة: عقد إيجار، وعقد تمويل بالانتفاع، وعقد وعد بالبيع، وعقد بيع، منوهاً إلى أنه حتى في فرنسا حيث لهذا النوع من التمويل تاريخ عريق، واجه التشريع الفرنسي مشكلات عديدة في هذا الموضوع.

 ويعتبر الدكتور قصوعة أن أسلوب التمويل هذا أصبح في كثير من دول العالم بديلاً عن التمويل التقليدي لأنه يخفف العبء عن رأس المال العامل، فإذا كان البنك يغطي في القروض التقليدية من 60 - 80٪ من قيمة الأصل، فتصل التغطية في هذا النوع من التمويل إلى 100٪ أحياناً.

وعلى الصعيد الاقتصادي، يضيف قصوعة: «لهذا النوع من التمويل عدة مزايا أخرى، فهو يحقق وفراً ضريبياً، لأن الإيجار الذي يدفعه المستأجر للمؤجر يخفض من دخله الخاضع للضريبة، كما أنه يخفي الديون، فلا تظهر الديون الناجمة عن التأجير التمويلي من الدخل الخاضع للضريبة، لذلك قد يؤدي شيوع أسلوب التأجير التمويلي على الصعيد الاقتصادي إلى تشجيع ظهور شركات كبيرة، وتشجيع الناس على إنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة بكلف معقولة، مع أن الدكتور رغيد يعتقد أن الخلل لا يكمن في التمويل، فالمشكلة تتعدى توفر الفوائض المالية إلى القوانين والتشريعات والبيئة الاستثمارية الجاذبة.

 

تردد يشوبه الحذر

ثلاث سنوات من الدراسة والنقاش والبحث، ولم يخرج قانون التأجير التمويلي إلى النور بعد، فالمشروع بصيغته القانونية المقترحة تجثم في مكان ما ولسبب ما تنتظر الحسم، والفكرة بمجملها لا تزال غائمة عند العديد من الأوساط الاقتصادية على الأقل عند المستفيدين المحتملين منها، فمنهم من يجد فيها حلاً حقيقياً لمشاكلهم، وحافزاً لهم ليتوسعوا في منشآتهم الصناعية، وهناك من يعتبر أن التسرع في اعتماد هذا النوع من التمويل قد يجلب المتاعب أكثر من الفوائد، طالما أن التشريع غائب حتى الآن ولا يعرفون عنه أية تفاصيل، وقد التزم السيد أيمن مولوي، أمين سرّ غرفة الصناعة الحذر في إبداء أي رأي، لأنه لم يطّلع على أي من البنود التشريعية المقترحة، واستغرب ألا يُؤخذ رأي الصناعيين أو غرفة الصناعة في قانون يُفترض أن يستهدفهم، ويشكل أحد قنوات التمويل التي سيعتمدون عليها.

صناعي آخر أبدى تفاؤله بقرب صدور مثل هذا القانون، ورأى أن المشكلة الأهم في عدد سنوات الامتلاك لأنها هي التي ترفع الأجرة، وأوضح أن ما يهمّ الصناعي اليوم هو رأس المال العامل أكثر من رأس مال الآلات، غير أن صدور التشريع القانوني لم يمنع بعض المؤسسات المالية والعقارية من مقاومة إغراء اللجوء إلى أسلوب تمويلي يقترب من التأجير التمويلي، لأنهم يتوقعون أن يلاقي رواجاً كبيراً بين الناس على غرار ما حصل في عدد من الدول العربية، حتى أصبحت من أكثر الوسائل التمويلية نجاحاً في تمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة وامتلاك البيوت والسيارات بشروط ميسّرة، وقد وجدت بعض الشركات العقارية التي دخلت مؤخراً إلى السوق السورية في هذا الأسلوب التمويلي، فرصة جديدة لتقديم عروض طويلة الأجل تحت عنوان «التأجير المنتهي بالتمليك» للترويج للمساكن التي تنجزها وتشجيع الزبائن على الإقبال عليها.

وليست هذه التجربة الوحيدة، فالدراسة التي قدمها المصرف التجاري السوري عن «القرض لشامل»، وهو يختلف عن «العادل»، يشتمل في بنوده على ما يشبه التأجير التمويلي مع تعديلات طفيفة في التفاصيل، ولكنه لا يزال قيد البحث والدراسة.

وحدها البنوك الإسلامية يسمح لها قانون إحداثها بأن تقدم هذه الخدمة لجزء من خدمات الصيرفة الإسلامية تحت مسمى «الإجارة» والمنتهية بالتمليك، وكانت لمصرف سورية الإسلامي بضعة تجارب في هذا المجال فيما يتعلق بالمجال العقاري.

ويشير السيد عبد القادر الدويك، الرئيس التنفيذي لبنك سورية الدولي الإسلامي في حديث خاص «للبعث»، أن هذا الأسلوب «الإجارة المنتهية بالتمليك» هو عبارة عن عقد إجارة ترتبت عليه جميع أحكام الإجارة، واقترن فيها وعد بالتمليك وعقد هبة معلق في نهاية مدتها، وهي من الصيغ الإسلامية الجديدة التي لقيت رواجاً كبيراً في المجتمع السوري من مختلف الفئات والشرائح أفراداً وشركات بسبب جاذبية الإنتاج وتلبيته لطموح الراغبين بالحصول على التمويل اللازم، سواء لامتلاك منزل أو الحصول على تمويل المشروعات ذات الجدوى الاقتصادية، وهذه الأخيرة تحظى باهتمامنا لأنها تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ويشير الدويك إلى أن صدور قانون التأجير التمويلي سيكون له دور في تشجيع بيئة الأعمال، وهو يشكل حلقة أساسية لاستكمال القنوات التمويلية في سورية، وأداة مهمة في تمويل المشاريع وتخفيف التكلفة على رجال الأعمال وجميع المتعاملين، وبالتالي زيادة إنتاجية الصناعة وتطور الخدمات، ويضع حداً للصعوبات، التي تواجه المستثمرين في الحصول على التمويل وعلى رأسها الضمانات، ويساعد على إنجاز عمليات توثيق عقود التمويل التأجيري لدى الجهات المعنية، وسيساعد القانون الجديد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في تنفيذ مشاريعها، وسيدخل القطاع المصرفي في هذا النوع من التمويل، بغض النظر عن الأملاك التي يملكها المستأجر.

ويضيف السيد دويك: نحن نتمنى صدور القانون في أقرب وقت ممكن، فهو سيساهم بشكل كبير في دفع عجلة التمويل وفق هذه الصيغة، ويلغي ازدواجية الرسوم المفروضة على عمليات شراء وتملك الأصول والمشتراة لغايات التأجير المنتهي بالتمليك في حال إعادة نقل ملكيتها للمستأجر لها.

 

وأخيراً..

قد نكون بحاجة لاستكمال أدواتنا التمويلية، غير أن التشريع هو الأرضية الأهم التي سنبني عليها صروح الأحلام، فإذا لم تكن بنيتها قوية، ستصبح أحلامنا التنموية التمويلية مهددة بالانهيار، ولذلك ننتظر صدور التشريع ومشاركة الجميع فيه لكي يضمن حقوق جميع الأطراف.

 

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.