تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الرقص الشرقي فن فرعوني قاوم الحجب وانتشر في أصقاع العالم

مصدر الصورة
العرب

سحر حلمي هلالي: الرقص الشرقي كنز وموروث حركي وفني وثقافي مصري.

للرقص الشرقي تاريخ طويل منذ انطلاقته في مصر، إذ أنه فن تعود جذوره إلى الحضارة الفرعونية، ولم تفلح حالات الحصار الأخلاقية في كبح انتشاره، لكن الثورة الحقيقية في هذا الفن جاءت بدمجه لفنون رقص وافدة وانتقاله إلى عوالم السينما والعروض المسرحية، ما جعله يظهر للعالم وينتشر في شتى الأصقاع، حتى أنه صار مدارس متنوعة لكنها تتفق في الجوهر.

تؤكد الكثير من حركات الرقص الشرقي أن لها أصولا فرعونية، كما تدل على ذلك رسوم المعابد واللوحات الأثرية التي تمتلئ بها المعابد، مثل معبدي طيبة والقرنة، التي تصور الجانب الراقص من الحياة الفرعونية عبر مشاهد رمزية وحفلات دينية ومواكب يصحبها موسيقيون بعضهم يغني وبعضهم الآخر يقوم بالعزف جنبا إلى جنب مع راقصات في أوضاع وحركات لا تختلف في شيء عن أوضاعهن وحركاتهن اليوم.

وهذا الكتاب “الرقص الشرقي المصري بين الماضي والحاضر”، الصادر عن دار سنابل، للباليرينا والأكاديمية المتخصصة في فنون الباليه والأوبرا سحر حلمي هلالي، يتتبع أصول الرقص الشرقي وولادته وتطوره وعلاقته انطلاقا من الرقص عند الفراعنة، مرورا بالحضارة القبطية والإسلامية وموقف المؤرخين الجادين منه، سعيا إلى أصول الرقص الشرقي ومن أين جاءت وكيف تسللت رغم قيود الدين والتزمت الأخلاقي إلى صلب الحياة العربية.

انتشار رغم القيود

المفتاح السحري لانتشار الرقص الشرقي كان في عبقرية الحركة التلقائية والعفوية في الأداء واعتماده الارتجال في الحركة

وقف الموقف الأخلاقي الصارم حائلا دون تسجيل أي دراسة عن الرقص الشرقي والتطور الهام الذي وسم حركاته، ما جعله معزولا تماما عن أي دراسة جادة أو تطور حقيقي أو حتى تسجيل بعض حركاته لنستمد منها فيما بعد تأريخا لحركة فن تحريك الجسد الذي أصبح الآن من أهم معالم فنون القرن الماضي والحالي.

تقول هلالي “لأن الفن هو لغة التواصل عالميا وفن الرقص هو لغة التخاطب بين الشعوب فقد استطاعت لغة الرقص الشرقي المصري الأصيل أن تتخطى حدود بلادها دون إذن أو رقيب أو حسيب أو قاعدة تحدد مستوى انتشارها، بل وأن تجد لها مكانا بلغتها الحركية المتميزة بين رقصات الشعوب العالمية دون أي تعمد لتوجيهها أو اختيارها كأحد أنواع الرقص الاجتماعي المنتشر استخدامه وأداؤه عالميا. الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات كان من أهمها: ما هو تاريخ الرقص الشرقي المصري وأصوله ونشأته؟ كيف كان يستخدم في مصر قديما؟ وكيف ازدهر في أوائل القرن العشرين؟ وما هي أسباب تدهوره وانحداره في أواخر نفس القرن؟ وكيف نحافظ عليه من التدهور؟ وكيف يمكن أن يكون مستقبله؟”.

وتضيف “أسئلة كثيرة جعلتني أقرر أن أبحث أسباب الإهمال والتقصير في هذا الموروث الثقافي الشعبي الراقص، خصوصا أن له لغة حركية وطابعا فنيا شديد التميز. وبما أنني أستاذة جامعية ومتخصصة في فن الباليه، بل وباليرينا أيضا في دار الأوبرا المصرية، كل ذلك أثار فضولي وشحذ من حفيظتي وعزيمتي بل واستهواني بصفتي فنانة تؤدي فنا عالميا كفن الباليه، ولأني عملت ورقصت مع العديد من مخرجي الباليه العالميين ومؤلفي حركة من بلدان مختلفة مثل أميركا وروسيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا، رأيت كيف يبدع هؤلاء المخرجون وكيف يستلهم كل منهم حركاته من بيئته ومن ثقافته بل ومن ثقافة الآخر، وكيف تمكنوا من استخدام حركات رقص مستمدة ومستلهمة من رقصات شعوبهم أو رقصات شعوب أخرى”.

الرقص أصبح مثيرا للغرائز اليوم في عودة بالزمن إلى الخلف أو نكسة فنية، فابتعد عن الجماليات الحركية

وتؤكد أن الرقص الشرقي المصري استطاع أن يستمر ويتطور عبر القرون والعصور والحضارات المختلفة. ذلك أنه استطاع أن ينتشر عبر المحيطات والقارات بشكله الكلاسيكي المتعارف عليه في الأفلام المصرية الكلاسيكية، أفلام الأبيض والأسود، وبجمالياته وتقنياته الحركية التي توفر له خصوصية الشكل والهوية والتي تعد من أهم سمات شيوع استخدام رقصات شعوب أخرى كتب لها الانتشار وحسن الاستغلال فنيا وثقافيا على المستوى العالمي.

ومن أهم الحركات التي يتسم بها الرقص الشرقي المصري حركات الحوض أو الهنش والوسط والتي تتميز بليونة وانسيابية ونعومة في الأداء الحركي، فاستخدام الجذع وطريقة تحريكه بسلاسة لا توجد في أنواع أخرى كثيرة متواجدة على خشبة مسرح الباليه، بل إن تحريك منطقة الحوض أو الهنش لأمر محظور استخدامه ومنطقة ممنوع تحريكها في الرقص الكلاسيكي بشكله التقليدي الصارم المعروف.

تمازج تاريخي

u

تلفت هلالي إلى أنها حين بحثت في تاريخ الرقص الشرقي المصري وجدت أن الرقص في العالم العربي على مدى عصور طويلة كان مادة فرعية هامشية مهملة، فلم يتحدث عنها علماء ومفكرو ومؤرخو العرب، ولم يدرجها أدباء العرب في ما كتبوه من مؤلفات عرفت عن الأدب العربي أثناء الحضارة العربية والفتوحات الإسلامية. وبالرغم من أن الوعي بالتاريخ كان هو الشاغل الأول لدى الحضارة العربية إلا أنه أهمل فن الرقص فلم يوثقه أو يطوره كما طور الأدب والشعر وفنون العمارة والزخرفة والخط، وقد يكون إهمالا متعمدا نظرا لتاريخ هذه الحضارة.

لقد وجدت أن العرب لم يذكروا في تاريخ الرقص أو استخدام الحركة المعبرة عبر العصور إلا في إطار التعبير عن الفكر الصوفي بشكل يخدم الصوفية فقط، حيث استخدمه أتباع الفكر الصوفي للوصول إلى درجة رفيعة المستوى من التناغم والكون من خلال استخدام الدوران والقيام ببعض الحركات المفصلة خصيصا لأداء رقص الدراويش وحلقات الذكر وكذا الحضرة التي يستخدمها بعض رواد الفكر الإسلامي المتصوف.

وتتابع “ما عدا ذلك لم يهتم علماء العرب بتوثيق أي نوع من أنواع الرقص الأخرى، وخصوصا الرقص الشرقي المتعارف عليه كتعبير حركي اليوم تحت اسم الرقص الشرقي أو البلدي، أو هز البطن كما يطلق عليه الغرب”، إذ انتشر استخدامه في شمال أفريقيا وبعض الدول العربية. ذلك الرقص الذي أتقنه الكثيرون بأشكال متنوعة ومختلفة إلا أنها متشابهة، ذلك التشابه الذي تم عن طريق الاتصال الحضري اليقظ الذي تناقلته الشعوب عبر الحضارات المختلفة دون قصد أو ترتيب متعمد.

لغة الرقص الشرقي المصري الأصيل استطاعت أن تتخطى حدود بلادها دون إذن أو رقيب أو حسيب أو قاعدة

وحينما بحثت هلالي وجدت أن المفتاح السحري لانتشاره كان في عبقرية الحركة التلقائية والعفوية في الأداء، كذلك اعتماده على الارتجال في التأليف الحركي الذي يعتمد بشكل أساسي على الإحساس الشخصي لمؤدي الحركة ومدى توافقها والإيقاع الموسيقي وكيفية توظيفه لشعوره وإحساسه بالموسيقى كما يتراءى له. فهو رقص اجتماعي يؤدى في المناسبات الاجتماعية ويكون في إطار تلبية الدعوة لإحدى الحاضرات في إحدى المناسبات الاجتماعية لممارسة الرقص، وهنا نشاهد مدى لياقة ونعومة وجمال المؤدية من خلال تتبعها لنظام حركي دقيق ينم عن ثراء الموروث الحركي للغة جسدية تعتمد في أساسها على المنظور الجمالي لثقافة وفكر شعوب الشرق الأوسط.

وهذا التصريح بالجمال الحركي لدى شعوب المنطقة والمجتمع المصري خصوصا هو أحد مفاتيح التكوين النفسي للمجتمع المصري. وهنا أخص مصر في منطقة الشرق الأوسط لكونها عملت على تطوير هذا النوع من الرقص واستخدمته في فنونها المرئية من خلال شاشة السينما والتلفزيون والمسرح بشكل واضح.

 

كنز ثقافي وفني قاوم الاندثار

كنز ثقافي وفني قاوم الاندثار

 

وترى هلالي أنه من خلال البحث والتنقيب “وجدت أن الرقص الشرقي بالشكل الموجود عليه اليوم هو رقص العوالم والغوازي في العصور السابقة، حتى أن هناك بعض المؤرخين الذين صنفوا وفرقوا بين رقص الغوازي وأصولهن وبين رقص العوالم. فوجدت أن سعد الخادم قد صنف الرقص المصري برقص العوالم والغوازي، فرقص الغوازي له صنوف متنوعة أولها رقص مصري الابتكار وهو يدل على ما هناك من الجرأة في أداء الحركات. وثانيها خليط من الرقصين المصري واليوناني إذ يتخلله التنقل بالخطوات. وثالثها الرقص المعروف برقص النحلة وتؤديه العوالم”.

وتتابع “أما ماجدة صالح فقد تناولت تاريخ رقص الغوازي فقالت عنه ‘إن أصل هذا النوع من الرقص غير معروف فعليا، إنما على ما يبدو أنه اختلط بالعديد من الأجناس والأصول البشرية حيث اختلطت لغاتهم وكذلك أدواتهم التي تعد غريبة عن المجتمع المصري’. كما توضح أن الغوازي من قبائل أقامت في مصر منذ عام 1517 إذ جاءت مع جيوش السلطان العثماني عثمان سليم الأول وهي من عائلة نوار المقيمة بالصعيد، وهي عائلة من أصل فارسي، وذلك عن تصريح من عائلة الغجر مازن الساكنة بالأقصر”.

وتلفت إلى أن أهم ما يميز رقص الغوازي هو هز الهنش (الحوض) وحركات البطن التي تعتمد على رعش القدمين والذي يحدث بدوره رعشا واهتزازات سريعة في الهنش. وقد كانت الغوازي يقدمن رقصاتهن في المناسبات الاجتماعية وفي الأعياد وأيضا في الحفلات الخاصة مثل احتفالات العرس والسبوع والختان، وكذلك المناسبات والاحتفالات الخاصة بالرجال فقط.

موروث حركي

 

موروث فني له تاريخه

موروث فني له تاريخه

 

تقول هلالي إن امتزاج الأجناس والأعراق وتعدد الحضارات جعل الرقص الشرقي يتخذ شكل العروض الأوروبية وكان ذلك في العشرينات من القرن العشرين. فكان أول ملهى ليلي عرفته مصر في عام 1926 على يد بديعة مصابني، وسمي كازينو بديعة، التي استلهمت فيه الشكل الغربي المستوحى من البارات والملاهي الليلية الأوروبية واستبدلته عن البارات والحانات المصرية التقليدية التي كانت موجودة في ذلك الوقت، فكان نوعا من أنواع المسرح الاستعراضي الذي يقدم الموسيقى والغناء والتمثيل والرقص والفكاهة.

وتذكر أن بديعة كانت أول من نقل الرقص الشرقي من خصوصية ممارسته في المنازل وأدائه في الشوارع والموالد والاحتفالات الاجتماعية إلى خشبة المسرح. فأصبح يقدم في الكباريهات والملاهي الليلية بعد أن كان يقدم في الحانات والبارات بشكل تقليدي محلي. فاتخذ في ذلك الوقت شكل الصولو النسائي المتعارف عليه حاليا.

كما أضافت إليه بعض الحركات، فبعد أن كان يعتمد على هز الهنش والقفص الصدري طلبت من أحد مؤلفي الحركة الأجانب المقيمين في مصر آنذاك أن يطعّمه ببعض الحركات من أنواع الرقص الأخرى كرقص الصالون ورقص الباليه، وأنواع أخرى من الرقص الغربي حتى يتسنى لها وضعه على خشبة المسرح أسوة بباقي أنواع الرقص الغربي الأخرى. فأُضيفت إليه حركات اللف والتنقل من مكان إلى آخر بخطوات مستلهمة من رقص الباليه ورقص الصالون، كما وُضع في شكل الصولو المتعارف عليه الآن.

ب

وتوقفت هلالي عند أبرز رواد الرقص المصري الشرقي الذي كان يطلق عليه قبل تطويره وإضافة بعض الحركات إليه اسم “الرقص البلدي”، ومنهم الفنانات الراقصات تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاطف، مؤكدة أن هؤلاء الفنانات مثلن عصرهن بحركات راقصة مليئة بالأنوثة والجمال الحركي والأدائي وقدمن رقصا فنيا في إطار غني وجيد دون اللجوء إلى الابتذال وإثارة الشهوات.

وتشير إلى أنه في عام 1970 بدأ مدرسو الرقص الشرقي في تعليمة وتقديمه للتلاميذ الموهوبين، فأصبح تعبيرا حركيا محترفا يعلم في معظم دول أوروبا الغربية وأميركا إذ انتشر من خلال السينما في ذلك الوقت. ونعود إلى فترة 1960 حيث كان كل خريجي الرقص الشرقي الموهوبين إما راقصين أو عازفين أو مطربين متخرجين من شارع محمد علي، وتتعمد استخدام كلمة متخرجين لأني بعد البحث والدراسة وجدت أن شارع محمد علي كان بمثابة مدرسة وجامعة وأكاديمية للفنون الشعبية المصرية الأصيلة.

وتتابع “هذا الشارع كان يتميز بحفاظه على تراث الفن الشعبي المصري من موسيقى وغناء ورقص تتناقله الأجيال وتتوارثه أبا عن جد لمدة قرنين من الزمان، فخرّج لنا هذا الشارع العديد من موهوبي الفن المصري الأصيل الذين مثلوا في الأفلام القديمة حيث العصر الذهبي لازدهار السينما المصرية حينما كان يطلق عليها هوليود الشرق. وفي الفترة ما بين 1940 وحتى 1960 كانت السينما المصرية تسجل أهم أشكال ظهرت للرقص الشرقي حتى يومنا هذا ومن الواضح أن صناع السينما المصرية كانوا على دراية ووعي بأهمية إنتاج أفلام مصرية تقدم هذا النوع من الرقص في إطار فني راق”.

وتضيف هلالي “إلا أنه في الوقت الحالي مع الأسف أصبح الرقص مثيرا للغرائز في عودة بالزمن إلى الخلف أو نكسة فنية، فابتعد عن الجماليات الحركية التي كان يتميز بها وبشكلها السلس المرن، ذلك الطابع الذي لا يتوفر في أي نوع من أنواع الرقص العالمية الأخرى. ذلك الفن الذي أعتبره سر الكنز للموروث الحركي الفني الثقافي المصري الراقص الذي يتميز به الرقص المصري. حيث اختفى مصممو الرقص الشرقي الجميل أمثال المصمم والمؤلف الحركي الرائع إبراهيم عاكف الذي كان أحد أعلام من قدموا الرقص الشرقي بصورة فنية مميزة غنية بالمهارات الجديدة على شاشة السينما المصرية، التي كانت أهم روادها تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف.

محمد الحمامصي كاتب مصري

مصدر الخبر
العرب

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.