تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

استشراف المستقبل في إدارة الأزمات

مصدر الصورة
عن الانترنيت

د. إدريس لكريني

حدوث الأزمات أمر طبيعي بل وصحيّ أحياناً، يتيح الاستفادة من التجارب القاسية، وعلى الرغم من صعوبة الحيلولة دون حدوث الأزمات بالنظر إلى فجائيتها، فإن هناك مداخل لمنع خروجها عن السيطرة، بل وتحويلها إلى فرص؛ من خلال ترسيخ ثقافة التعامل مع الأزمات، وتوظيف التكنولوجيا المتطورة في هذا الخصوص، إضافة إلى استشراف المستقبل في إدارة الأزمات.

إن التنبؤ الذي ينحو إلى تحقيقه الاستشراف، بصدد الأزمات لا يتم بشكل اعتباطي أو عشوائي، بل يتأتى عبر استحضار مجموعة من المؤشرات، حيث أصبحت صناعة القرارات في الوقت الراهن، تتطلب استشراف المستقبل. فيما أولت الجامعات ومراكز الأبحاث اهتماماً كبيراً للدراسات المستقبلية، التي أصبحت تقوم على أسس علمية ومناهج متطورة ومؤشرات دقيقة.

تنحو إدارة الأزمات إلى التعامل مع الأوضاع الصعبة بسبل علمية غير مرتجلة، كما تقوم في جزء كبير منها على التنبؤ والترقب، وتعود الأصول الأولى لاستشراف المستقبل إلى الفيلسوف والقائد العسكري الصيني «سون تزو» في القرن الخامس قبل الميلاد، قبل أن تتعزز بإسهامات عدد من المفكرين ك«هنري لويد» والمنظّر العسكري المعروف «كارل فون كلاوزفيتز»، خلال القرن التاسع عشر، والجنرال «أندري بوفر»، وبروز دراسات علمية استشرافية بالولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، طالت المجالات الاستراتيجية والعسكرية، لتنصب الأبحاث والدراسات بعدها إلى مجالات التجارة والاقتصاد والسياسة والأمن بمفهومه الشامل.

أصبحت الدراسات الاستشرافية تمثّل حقلاً معرفياً قائماً بذاته، مع ظهور مراكز ومؤسسات تعنى بالموضوع، ومع إدراجها ضمن برامج واهتمامات الجامعات، وتوجه صانعي القرار السياسي في الدول المتقدمة إلى الاستئناس بمخرجات المراكز المعنية بالدراسات المستقبلية في عقلنة القرارات والسياسات العمومية، ومحاولة التحكّم في الأحداث والأزمات. ينطوي استشراف المستقبل على أهمية قصوى في ظل تزايد التحديات والمخاطر التي تواجه العالم، فهو خيار يسمح بركوب المغامرات المختلفة بقدر كبير من الجاهزية والثقة بالنفس، كما يوفر شروط اتخاذ القرارات بصورة محسوبة، علاوة عن كونه عاملاً يحفز على الاجتهاد والإبداع والابتكار، وعلى اعتماد أساليب التخطيط الاستراتيجي في المجالات المدنية والعسكرية.

إن الاهتمام بالمستقبل وبقضاياه المختلفة هو نتاج طبيعي للفضول الإنساني والخوف، والسعي لتحصين الذات والمحيط، ولذلك انشغل كثير من الفلاسفة والمفكرين برصد العلاقة القائمة بين الماضي والحاضر والمستقبل.

لا يمكن تحقيق التنمية الإنسانية أو الأمن الإنساني والمستدام إلا في سياق الانفتاح على المستقبل، واستثمار المؤشرات والمعلومات المتوافرة بشكل دقيق في هذا الخصوص. ثمة علاقة وطيدة بين إدارة الأزمات واستشراف المستقبل، فالأزمات تقترن عادة بالفجائية والخطر، وهو ما يقتضي اعتماد آليات متطورة لإدارتها. يقوم أسلوب إدارة الأزمات في جزء كبير منه على التوقع والتنبؤ، والاستشراف يتيح إلى حد كبير التحكم في الوضع، ومنع خروجه عن نطاق السيطرة، كما يسمح باستحضار احتمالات عدة، بما فيها السيئة. ولا يتوقف هذا الأسلوب على التعامل مع الأزمات القائمة، بل يتجاوز إلى التفاعل مع تلك التي يمكن أن تحدث في المستقبل، عبر توفير خيارات واحتمالات جاهزة، بصدد أزمات وكوارث محتملة.

إن كسب هذا الرهان، يتطلب وضع خطط استراتيجية متوسطة أو بعيدة المدى، بصورة تضع الأزمات والكوارث في قلب اهتمام هذا الأسلوب، بما يزيد من فاعلية التعامل مع الأحداث الطارئة والضاغطة.

ومن متطلبات توظيف التخطيط على مستوى إدارة الأزمات، هناك وضع الأهداف بدقة، ورصد عدد من المخاطر والسيناريوهات المحتملة، والوعي بالإمكانات البشرية والمالية والتقنية المتاحة، إضافة إلى استيعاب الإشكالات والحواجز المطروحة، ثم جمع المعلومات الدقيقة، وتشجيع البحث العلمي وتوظيف التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي في هذا السياق، من خلال تطوير نظم الإنذار المبكر، والاستشعار عن بعد، إضافة إلى الاهتمام بالأوضاع التي تبرز بعد إدارة الأزمة القائمة، لاستخلاص الدروس وتوظيفها في الخطط المستقبلية.

إن استشراف المستقبل في إدارة الأزمات يظل بحاجة إلى كفاءات إدارية وتقنية وفنية وعلمية، وإلى تعبئة صارمة للموارد والإمكانات المتاحة، مع الاستناد إلى مرتكزات علمية، وطرح تصورات وتوقعات مرنة وملائمة وقابلة للتحقق، كما تقتضي كذلك وجود عقل استراتيجي، يؤمن بأهمية التخطيط.

مصدر الخبر
الخليج الإماراتية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.