تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

د. وائل عواد يكتب ...ولادة الهند الجديدة

مصدر الصورة
خاص

خلال وضع حجر الأساس لمعبد الإله رام عند الهندوس المزمع إقامته على أنقاض مسجد بابري المدّمر في الخامس من أغسطس /آب 2020، أكّد رئيس الوزراء الهنديّ - ناريندرا مودي - الذي شارك في الحفل بأنّ الهند الجديدة قد وُلدت وعاد الإله رام للوقوف من جديدٍ بعد قرونٍ من الزّمن في نفس مكان ولادته. ولا شيء غريب في تصريحاته هذه فقضيّة بناء المعبد هي ضمن الأجندة للحزب الحاكم، ومشاركته شخصيّاً هي رسالةٌ واضحةٌ أنّ الحكومة الهنديّة الحالية بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسيّ تدعم هذه الخطّة التي تعدّ منعطفاً تاريخيّاً في ولادة الهند الجديدة، فقد شارك الحزب منذ ولادته السّياسيّة من رحم المنظّمات الهندوسيّة الأمّ بالحملة لبناء المعبد وتدمير المسجد الذي بُنيَ مكان معبدٍ هندوسيٍّ يُعدّ مسقط رأس الإله رام على يد الإمبراطور المغولي بابر (1483-1530 (، على الرّغم من عدم وجود أيّ دليلٍ أثريٍّ يثبت ذلك، بعد حملةٍ شعواء في جميع أرجاء شبه القارّة الهنديّة من قبل قادة المنظّمة الهندوسيّة اليمينيّة الأم، وبمشاركة قادة الجناح السّياسيّ  لحزب بهارتيا جاناتا الذي ارتفع رصيده في صناديق الاقتراع. لقد دُمّر المسجد في السادس من ديسمبر| كانون الأول عام 1992 على يد متطرّفين هندوس بإشراف المنظّمات الهندوسيّة الأمّ التي شاركت في حفل وضع حجر الأساس بعد ان أقرّت المحكمة العليا في ظلّ الحكومة الحاليّة بقرارٍ مثيرٍ للجدل أنّ هناك دلائل تاريخيّةً لوجود معبد هندوسي مكان المسجد المدمّر، على الرّغم من إقرار المحكمة العليا بأنّ تدمير المسجد بابري يعدُّ جريمةً، ومع ذلك سُلّمت الأرض لنفس المجموعة المسؤولة عن تدميره والملاحقة قانونيّاً. وتمّ منح قطعة أرضٍ للمسلمين على بعد 30 كم من المكان لبناء مسجدٍ بديل للمسجد المدمّر، وسرّعت الحكومة القوميّة الهندوسيّة  بقرارات المحكمة والوساطة والضّغط على مجلس الأوقاف الإسلاميّ في الهند للتّنازل عن الأرض، وتمّ منحها من قبل مجلس الأوقاف الإسلاميّ للمنظّمة الهندوسيّة لبناء المعبد الذي سوف يكون من أكبر وأجمل المعابد في الهند، وسوف يضع مدينة أيوديا في ولاية اوتر براديش على خارطة السّياحة العالميّة. وبالتّالي تحوّل الصّراع من قضيّةٍ متنازعٍ عليها إلى حقٍّ للهندوس في المكان باعتباره مسقط رأس للإله رام عندهم!

هندكة الهند الحديثة

حافظت الهند منذ استقلالها على علمانيّة الدّولة، وفصل الدّين عن السّلطة، والحفاظ على مسافةٍ متساوية من كافّة الطّوائف الدّينيّة، على الرّغم من الميول بين الحين والآخر للأغلبيّة الهندوسيّة لأغراض سياسيّةٍ وكسب أصوات الناخبين، بيد أنّ مشاركة  رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في مراسم وضع حجر الاساس، ليست  مجرّد حدثٍ عابرٍ، بل على العكس، بداية مرحلةٍ جديدةٍ للهند تعكس تناغم السّلطة السّياسيّة مع الدّينيّة بما يعرف بخلط الدّين مع السّياسة. وحلّ زعيم منظّمة راشتريا سوايام سيفاك سانغ ( ار.اس .اس RSS) ، موهان باغوات، ضيف شرفٍ في مراسم التّدشين، وهو الذي قاد الحملة لبناء المعبد لأكثر من ثلاثين عاماً، وقال إنّه ينبغي على الجميع أن يتّبع خطى الإله رام (ملك الكون) لإعادة المجد للهند مرّةً ثانيةً وسط ترحيبٍ واسعٍ للهنود الهندوس في جميع أنحاء العالم، خاصّةً أبناء الطّبقات العليا الهندوسيّة الذين كانوا يتابعون مراسم التّدشين عبر شاشات التّلفزة مشيدين بجرأة رئيس الوزراء المعروف بمواقفه وتعاطفه الدّينيّ الذي يتمتع بشعبيّةٍ داخل الشّارع الهنديّ الذي يرى فيه الزّعيم القويّ الجريء القادر على اتّخاذ قراراتٍ حاسمةٍ لصالح الهند خلال الدّورتين الانتخابيتيّن لرئاسة الحكومة، والتي شملت منع الطّلاق الثّلاثي عند المسلمين، وإلغاء المادّتين 370  و35- أ من الدّستور الهنديّ، إذ تزامنت الذّكرى السّنويّة الأولى للقرار مع يوم تدشين المعبد، هذا القرار الذي ألغى الحكم الذّاتيّ للإقليم المضطرب لتتحوّل القضيّة من متنازعٍ عليها مع باكستان إلى شأنٍ هنديٍّ داخليٍّ، ويغدو إقليم جامو وكشمير، بما فيه الجزئين الباكستانيّ والصّينيّ، جزءاً لايتجزّأ من الوطن الأمّ، وفصل الإقليم إلى جزئين منفصلين، وهو رئيس الوزراء القويّ الذي وقف في وجه التّغلغل الصّينيّ في الأراضي الهنديّة في جبال الهيمالايا وطالبت حكومته الصّين بعدم التّدخل في الشّأن الكشميريّ الدّاخليّ للهند. واليوم يمرّ عامٌ على معاناة الشّعب الكشميريّ الذي مازال معظم قادته وسكّان الوادي قيد الإقامة الجبريّة والعديد منهم في السّجون، وقد تمّ قطع وسائل التّواصل الاجتماعيّ والاتّصالات بشكلٍ جزئيٍّ وممنهجٍ ، ودمّر الاقتصاد المحليّ للإقليم مع الإغلاق التّامّ وشلل قطّاع السّياحة وإغلاق الفنادق وأماكن التّرفيه، كما فرض حظر التّجوال ليومين لمنع وقوع مظاهراتٍ ضدّ الحكومة مع مراسم التّدشين التي يعتبر العديد من المحلّلين السّياسيّين والمراقبين أنّها سياسة الحكومة الجديدة التي تهدف إلى استقطاب الشّعب الهنديّ على أسسٍ دينيّةٍ، فقد اتّخذت الحكومة المركزيّة سلسلةً من القرارات شملت إعادة تأهيل العائلات الهندوسيّة المهجّرة من الأقليم، وإلغاء كافّة التّسهيلات والحماية الشخصيّة للقادة الكشميريّين، وإلغاء الإشراف على الجامعات والأماكن الهندوسيّة المقدّسة، وحتّى مجلس الأوقاف للمسلمين في الإقليم، وجميع وسائل التّرفيه والغابات والأراضي التي كانت تحت إشراف الحكومة المحليّة في الإقليم، وفرضت هذه الإجراءات بالقوّة في الوقت الذي مازال معظم القادة الكشميريّون قيد الاعتقال والإقامة الجبريّة، وأُلغيت الاحتفالات السّنويّة بذكرى الزّعيم الكشميريّ الشّيخ محمد عبد الله، وتمّت إعادة تسمية العديد من المناطق بأسماء جديدةٍ لطمس الهوية الكشميريّة وتوليد شعورٍ بالنّصر للحكومة المركزيّة الحاليّة، ممّا ولّد شعوراً بالإهانة والذلّ والقهر للشعب الكشميريّ، سكان الإقليم، وخوفاً لدى أبنائهم في بلاد الاغتراب والمشتّتين في أرجاء شبه القارّة الذين يواجهون صعوباتٍ في الوصول لذويهم أو التّواصل معهم عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ .

لم يكن بناء المعبد الهندوسي للإله رام يحتاج إلى سفك الدّماء وإشعال النّعرات الطّائفية بين المسلمين والهندوس، والتي ترسّخت خلال الاحتلال البريطانيّ للهند وتفاقمت بعد استقلال الهند والانفصال في شبه القارّة، وكان بالإمكان التّوصّل إلى تفاهمٍ مع المسلمين وتسليم مكان المسجد بالطّرق السّلميّة دون الحاجة إلى تدخّل الأحزاب السّياسيّة، ولذلك فإنّ بناء المعبد اتّخذ طابعاً سياسيّاً أكثر منه دينيّاً، حيث يحاول الحزب الحاكم خطف الأضواء للبقاء في السّلطة ممتطياً موجة التّعاطف العارمة في الشّارع الهندوسيّ مع رمزيّة الإله رام في نفوسهم؛ ولذلك تحاول الأحزاب السّياسيّة المعارضة تحقيق مكاسب لها من خلال التّأكيد أنّ الإله رام هو للجميع وليس لحزب بهاراتيا جاناتا حصريّاً،  خاصّةً حزب المؤتمر الوطنيّ الذي حاول التّلاعب بمشاعر المسلمين والتودّد للأغلبيّة الهندوسيّة ورجال الدّين الذين أجبروا حكومة راجيف غاندي آنذاك في الثّمانينات على فتح بوّابة المسجد والسّماح بأداء الطّقوس الهندوسيّة ووضع التّماثيل والمجسّمات بالدّاخل لإله الهندوس رام باعتبار أنّ هذا المكان مسقط رأسه.

وأتذكّر هنا ما  قام به الزّعيم اللّيبيّ الرّاحل معمّر القذافي، للتنقيب عن الآثار بدفن مجسّماتٍ وعملةٍ وحجارةٍ في  التّراب الصّحراويّ والتّنقيب عنها فيما بعد لتصبح آثاراً!

ولاشكّ بأنّ وضع حجر الأساس يعدّ عودةً للإله رام المنتصر إلى المدينة المحرّرة وسوف يؤدّي إلى إنعاش السّياحة الدّينيّة في الهند حيث سيضع مدينة  أيوديا على الخارطة العالميّة لارتباطها دينيّاً وروحيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً بتاريخ الهند القديم، إذ يحتلّ الإله رام مكانةً مرموقةً في نفوس الهنود، وهناك الكثير من الرّوايات والأساطير في الميثولوجيا الهنديّة حول شخصيته وارتباطه بالإلهة سيتا التي وقع في حبّها، وبدأت الملحمة في الصّراع بين الخير والشّرّ والنّفي إلى الغابة مع شقيقه لاكشمان، ومن ثمّ خطف سيتا من قبل الشّيطان رافان وكيفيّة تحريرها من الأسر من قبل الإله رام بمساعدة جيشٍ من القردة بقيادة الإله هانومان، والعودة بها منتصراً إلى مدينة أيوديا، مسقط رأسه. ولذلك فإنّ هذه الملحمة  التي تروي انتصار الخير على الشّرّ ارتبطت بشكلٍ مباشرٍ حتّى بالحياة اليوميّة للهنود، ويتكرّر اسمه بشكلٍ طبيعيٍّ على لسان كلّ هندوسيٍّ، وفي جميع المناسبات. والسّياحة من شأنها أن تدرّ أموالاً طائلةً سوف تساهم في إنعاش الاقتصاد المحلّيّ للولاية، والإسراع في تحسين البنية التحتيّة وشقّ الطّرقات والجسور وبناء الفنادق والمنتزهات، وبالتّالي توفير وظائف للكثيرين في ظل جائحة فيروس كورونا التي أثّرت بشكلٍ سلبيٍّ على الحياة المعيشيّة وجميع القطّاعات الحيويّة في البلاد.

ممّا لا شكّ فيه أنّ قوّة الهند تكمن في التّعدديّة العرقيّة والدّينيّة والإثنيّة والثّقافيّة، وهذا ما جعلها مهداً لازدهار جميع الأديان على مدى قرون فائتةٍ، ولكنّ الخطر يكمن في خلط الدّين مع السّياسة، خاصّةً وأنّ الهند بدأت تجد مكانتها على السّاحة الدّوليّة كقوّةٍ ناعمةٍ صاعدةٍ تحظى باحترام وتقدير معظم دول العالم. ويحقّ لها أن تفتخر بماضيها وتعيد مجدها بسواعد أبنائها جميعاً تحت دستورٍ يحمي الجميع ويساوي بين بعضهم البعض. وبناء معبدٍ للإله رام يجب أن ينظر إليه من منظار إحياء التّراث للهند الحضاريّة القديمة وأن يبقى الارتباط روحانياًّ وليس سياسيّاً، وبالتالي عدم خلط المفاهيم الدينيّة والقوميّة والوطنيّة وصهرها في بوتقةٍ واحدةٍ لإعطاء قدسيّةٍ لرجال الدّين والكهنة ليشكّلوا سبيلاً في التعبّد للوصول إلى  الإله الواحد. وتحتاج الهند لسنواتٍ من العمل والبحث لبناء دولةٍ عصريّةٍ قويّةٍ تقضي على الفقر والجهل والأمراض. ومن شأن الخلط بين الدّين والأسطورة والسّياسة أن يزيد الطّين بلّةً، ولن تفيد محاولة تقريب الأساطير للعقل بشيءٍ وربط النّصوص بأنّها حقائق على أرض الواقع، فليس لذلك سوى التّأثير السّلبيّ على قوّة الهند وتعدّدها، ومن المعروف أن الفلسفة الهندوسية بنيت على الأساطير وتعدّديّة الآلهة ومحاولة إعادة المسار، وسوف يؤدّي بنهاية المطاف إلى زعزعة الأمن، وتدمير النّسج الاجتماعيّة في الهند، واستغلال الكهنة للسّلطة السّياسيّة للاحتفاظ بالسّلطة والنّظام الطّبقيّ الاستغلاليّ، وهناك  أكثر من3300 مسجدٍ للمسلمين في الهند  سيكون مصيرها مثل  مسجد بابري ذاته ويتمّ هدمها وإنشاء معابد للآلهة الهندوسيّة بحجّة أنّها جميعها بنيت على أنقاض معابد هندوسيّةٍ، وبالتّالي ستؤدّي عملية الاستقطاب إلى التّهلكة، فهل هي ولادةٌ للهند الحديثة أم بداية النّهاية للدّولة العلمانيّة؟

                                          الدّكتور وائل عوّاد

                                الكاتب والصّحفيّ السّوريّ المقيم في الهند

 

 

 

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.