تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الدكتور وائل عواد يتابع الكتابة من الهند من وحي الحجر الصحي عن كورونا و -يوميّات قنّاص كركرونا  – لماذا نحيا أمواتاً؟ - 40 -

مصدر الصورة
خاص

لقد اعتدنا على الحجر اليوميّ وتأقلمنا معه،  كما أدمنّا قراءة الرّسائل الصّباحيّة وتصفّح صفحات التّواصل الاجتماعيّ لنتواصل مع الأصدقاء القدامى والجدد. نستذكر مع  البعض ذكرياتٍ رابيةً في حدائق أذهاننا، ونتعلّم من البعض الآخر كيف نتأقلم مع الوضع الجديد وغيرها من الأخبار والأحاديث المتداولة والتي تشغل بال المواطن بشكلٍ خاصٍّ.

ما أثار انتباهي ارتفاعُ نسبة الوفيّات بمختلف الأعمار دون سابق إنذارٍ. ثمّةَ من غادَرَنا وهو يتناولُ فطوره الصباحيّ، وثمّةَ من كان يشرب دواءه، ومنهم من ذهب للقيلولةِ (فترة نوم بعد الغداء) وغطّ في نومٍ طويلٍ .غادرنا من كان يتعذّب بسبب المرض، ومن كان يصلّي أو يزور البيت الحرام . مات من هرب للنجاة بنفسه في زوارق البحر وغرق،  ومن مات قهراً للحالة المزرية التي نعيشها. قلّما يمضي يومٌ ولا نشاهد فيه نعوةً بوفاة صديقٍ أو قريبٍ أو رضيعٍ. لم نعد نعلم السّبب إن كان ذلك طبيعيّاً أم بسبب مرضٍ أم جراء إصابةٍ بفيروس كورونا، فقد تعدّدت الأسباب والموتُ واحدٌ. تتحوّل الأفراح إلى أتراحٍ، ونعتزل المجتمع ونختلي بأنفسنا ساعاتٍ طوال نتذكّر من فقدنا، ونترحّم عليهم، ونناشد العناية الإلهيّة بالرّأفة على أرواحهم، ونتساءل لماذا فلانٌ وليس أنا؟ لماذا يصعدُ الأخيار باكراً إلى السّماء، أم أنّ أرواحهم تتوق السّماء أو أنّ الملائكةُ تشتاقهم؟

كثيرون كفروا وكثيرون آمنوا بأنّنا ضيوفٌ  في هذه الدّنيا، والحياة والموت يخضعان للإرادة الإلهيّة، ولا يمكننا أن نؤخّر أو نقدّم ساعة الموت كما قال تعالى في القرآن الكريم: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون". ولكن ما يثير الانتباه هو المكان الذي يموت فيه المرءُ، والقصص كثيرةٌ ...

عندما كنت طفلاً تسبّب المرحوم والدي بحرق محصول القطن الذي كان مكدّساً داخل المستودع في البناية التي بناها المرحوم جدّي لأبنائه، واستغرق الأمرُ ساعاتٍ طويلةً لإطفاء الحريق، وكان جدّي قد عاد في المساء وهو يركنُ سياّرة البك آب كعادته بالقرب من البناية، ونظر إلى آثار الحريق وألسنة الدّخان التي مازالت تتصاعد، وتساءلَ: "المال أم البنون؟" ، قيل له: "المال"، فقال: "المال يعوّض والحمد لله أنّه ليس في البنين".

كنت أعملُ  في فترة الثّمانينات في مستشفىً حكوميٍّ يُدعى لوك ناياك جاي باركاش في العاصمة دلهي على تخوم دلهي القديمة وبالقرب من محطّة السّكك الحديديّة حيث يزورنا الفقراء وأبناء القرى من المرضى، وكنّا نستقبل العديد في العيادة الخارجيّة وقسم الطّوارئ، وخلال المناوبات الليليّة تكتظُّ العيادة بالمرضى، خاصّةً المصابين بذبحةٍ صدريةٍ ممّن يشعرون بضيق نَفَسٍ، ونقوم بالإسعافات الأوليّة، إذ نضع لهم أنبوب الأوكسجين، وننتقل بين المرضى نحاول إنقاذ ما أمكن منهم. لم تكن المهمّة سهلةً، فقد كان لدينا أسطوانتان أو ثلاثةً من الأوكسجينن، وعدد المصابين يفوق ذلك بشكلٍ مخيفٍ، ونضطرُّ لجلب أسطوانات الغاز من غرفة العمليّات من المستشفى للاستفادة منها في قسم الطّوارئ. وكنّا نضطرُّ لسحب كمّامة الأوكسجين من مريضٍ بعد استقرار حالته بعض الشيء لنضعها لآخر، ونعود للمريض الأوّل خلال دقائق ونراه قد فارق الحياة. كان المنظر رهيباً، ورائحة الموت تفوح من كلّ زاويةٍ، وكنتُ أذهب للطّبيب المشرف فيقول لي: "اكتب شهادة الوفاة وتابع عملك".. وكنت أتألّم بشدّةٍ وانا أشاهدُ الشّابّ الذي كنت أحدّثه قبل دقائق قد فارق الحياة، وهو الذي قال لي: "خذ كمّامة الأوكسجين وضعها للمريض الذي بجانبي، فحالتي أفضل من حالته"، وتراه قد فارق الحياة أمام ناظريكَ، وتفشل جميع المحاولات في إسعافه، وأنا أسأل نفسي: "تُراهُ اختار مكان موته وكان يدرك فعلاً أنّه سيفارق الحياة؟" وعندما كنّا نُعلم ذويه بوفاته، يتقبّلون الخبر بحزنٍ، ولكن قلّما نسمع النّحيب والبكاء والصّراخ والعويل.

وأثناء تغطيتي للكوارث الطّبيعيّة والحروب في آسيا، شاهدت بأمّ عيني الجثث على الطّرقات، والأجسام تتطاير من القصف، والبيوت المهدّمة فوق رؤوس سكّانها، والأرض تبتلع المنازل بمن فيها، وشاهدتُ من سقط برصاصةٍ أو صاروخٍ، وكنتُ ممّن ذاق طعم الموت في أكثر من مكانٍ أثناء تغطيتي للحرب في الجزيرة السريلانكيّة وأفغانستان وكشمير وخلال تعرُّضي للاعتقال في أفغانستان والعراق. كان قرار القتل برصاصة غاضبٍ لمقتل زعيمه أحمد شاه مسعود يتربّصُ بي في أفغانستان، كما كنتُ أنتظرُ ساعة الإعدام في العراق أثناء تغطيتنا الغزو الأمريكيّ واعتقالنا من قبل الحكومة العراقيّة عام 2003، وكان قد صدر قرار الإعدام بحقّنا من قبل "علي الكيماوي" المسؤول عن جنوب العراق خلال حكم الرّئيس الرّاحل صدّام حسين.

يذكّرني الحديث عن الموت بتقريرٍ كنت قد أعددته عن طائفة الجين، وهي من أقدم الدّيانات في العالم شأن الدّيانة البوذيّة،  وكنت في مدينة هاريدوار من ولاية أتراخانت بالقرب من نهر الغانج،  وهي مدينةٌ قديمةٌ ومقرٌّ للحجّ بالنسبة للهندوس، إذ يتدفّقُ نهر الغانج المقدّس من سفوح جبال الهيمالايا، ويقامُ فيها مهرجاناتٌ سنويّةٌ لما يعرف بمهرجان كانوار. كان هناك معبدٌ لطائفة الجين ويوجد في داخله رجالٌ ونساءٌ زهدوا في الحياة  من أبناء الطّائفة، وقدموا إليه  كي يصلوا إلى مرحلة الزّهد في الحياة، وهذا ما نصبو إليه جميعاً، فاختاروا أن يموتوا هناك ببطءٍ ويمتنعوا عن تناول الطّعام ويبقوا لعدّة أيّامٍ، ومن ثمّ يودّعون الحياة، ويُعرف هذا بسالخانا أو سانثارا (Santhara) أو سانياسانا مانارا، وتعني باللّغة السنسكريتيّة التّخفيف والاستخاف والنّحيف، وهي طريقةٌ وممارسةٌ دينيّةٌ طوعيّةٌ في الصّوم حتّى الموت من خلال التّقليل التّدريجي للطّعام والماء. ويُنظر إليها في الدّيانة الجينيّة على أنّها الطّريقة النّهائيّة لمسح جميع الذّنوب وتحرير الرّوح من دورة الولادة والموت والولادة وترقّق المشاعر والعواطف البشريّة  والجسد من خلال سحب جميع الأنشطة البدنيّة والعقليّة، ولا يُعتبر ذلك انتحاراً لأنّ الانتحار مصحوبٌ بالكثير من الألم والمعاناة. كما يُعتبرُ الانتحار إثماً من قبل النسّاك، وما يقومون به  ليس عملاً عاطفيّاً أو ردّة فعلٍ، بل هو الانتصار على الموت والاختيار طوعيّاً أن تنهي حياتك، وهذه قمّة النّشوة والنّقاء والجمال بالنّسبة لهم. و قد تستغرقُ هذه  الطّقوس الدّينيّة أيّاماً أو سنين. وكانت هذه العادة تُمارس في الماضي، وأثارت الكثير من ردود الفعل حاليّاً، خاصّةً من قبل المدافعين عن الحقّ بالعيش وحريّة الأديان؛ وحظرت المحكمة العليا في ولاية راجستان هذه الطّقوس عام 2015، واعتبرتها انتحاراً، وتمّ نقض قرار المحكمة من قبل المحكمة العليا في دلهي، ورفعت الحكم. تتميّز طائفة الجين بخمسة نذرٍ على النّفس وهي اللّاعنف، ولا تسرق، ولا تكذب، ولا تمتلك (اللّا حيازة)، والعفّة. وهناك سبعة بذورٍ تكميليّةٍ  مثل الامتناع عن الخطايا التي لا فائدة منها  والمواد الاستهلاكيّة وغير الاستهلاكيّة  والتأمّل والتّركيز لفتراتٍ محدودةٍ والصّوم لفتراتٍ محدّدةٍ وتقديم الطّعام إلى الزّهد، ولديهم كتابٌ مقدّسٌ يتقيّدون بالتّعليمات فيه، وهي نصوصٌ أدبيّةٌ مقدّسةٌ تعرف بأغم سوترا (Agam Sutra).

وبالنسبة لمعتقدات المذهب الجينيّ (اليانية) هي دين المساعدة الذاتيّة، ولا يوجد آلهةٌ أو كائناتٌ  بمقدورها أن تساعد بني البشر، وهي مبنيّةٌ على ثلاثة مبادئ أساسيّةٍ، الإيمان الصّحيح  والمعرفة الصّحيحة  والسّلوك الصّحيح . وتختلفُ الرّوح عن معتقدات الأديان الأخرى وهي جيفا، وبعد الوفاة تنتقل جيفا إلى جسد إنسانٍ آخر لتعيش حياةً أخرى حتى يتحقّق التّحرير. ويؤمن أبناء الطّائفة بأنّ الرّوح موجودةٌ في الحيوانات والنّباتات، وأنّ جميع الأرواح متساويةٌ ويجب معاملتها باحترامٍ وتعاطفٍ. وتنقسم طائفة الجين إلى قسمين الديغامبارا (Digambara) وتعني "السّماء ملتقةً" أي يرتدون السّماء  وسفيتامبارا (Svetambara) وتعني "يرتدون الأبيض". ويعيش معظمهم في شبه القارّة الهنديّة ويقدّر عددهم بحوالي 4.5 مليون نسمةٍ،  وهناك المئات منهم في الولايات المتّحدة وبريطانيا .

وحسب مفهوم الجين فإنّ الموت ليس نقطة النّهاية في  رحلة الرّوح، بل نقطة اتّصالٍ حاسمةٍ. وعندما يرغب المرء  من طائفة الجين بممارسة طقوس (ساليخانا) أو الموت المقدّس ينخرط في طقوس الغفران أو اللّوم الذّاتي، ويبدأ المعلّم في المعبد بتقليل الأطعمة والشّراب عنه تدريجيّاً كلّ يومٍ حسب قدرة الشّخص إلى أن يُعطى الماء فقط في النّهاية ويذهب الى الصّيام الكامل،  ويكون هناك انفصالٌ كاملٌ ونبذٌ لجميع المسائل الدنيويّة، ويهتف بتراتيل دينيّة هو بنفسه أو أقربائه ومن حوله إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ وهي طريقةٌ لتعلّم كيفيّة الموت بتوازنٍ.

ثمّة الكثير من الكتب عن هذه الطّائفة المسالمة، ولكنّني أنصح بقراءة كتاب المؤرّخ الانكليزي وليام دالريمبل  (الأرواح التّسع .Nine Lives by William Dalrymple (

لكلّ ديانةٍ تفسيرها للموت والحياة، ولماذا نموت أو نحيا. وقد اختلفت التّفسيرات حتّى بين أتباع الدّيانة الواحدة. هناك من يعتبر الموت عقاباً بسبب ذنبٍ ارتكبه الإنسان أو ذنبٍ ورثه عن أبيه آدم. ويتساءل آخرٌ إذا كان البشر يموتون بسبب ذنب أبينا آدم فلماذا تموت الحيوانات وباقي الكائنات الحيّة  إذاً؟ وهناك من يعتبر الحياة عقاباً بسبب ذنبٍ ارتكبته النّفس كما حدث لأبينا آدم وأمّنا حوّاء إذ سقطا من الجنّة، وهي النّظرية الأفلاطونيّة التي أيّدها بعض الفقهاء والعلماء ومنهم ابن سينا إذ يقول في وصف ماهيّة النّفس:

هبطت إليكَ من المحلّ الأرفعِ           ورقاءُ ذات تعزّزٍ وتمنّعِ

محجوبةٌ عن كلّ مقلة عارفٍ           وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ

وصلت على كرهٍ إليكَ وربّما           كرهت فراقكَ وهي ذات تفجّعِ

ومن أنصار هذه النّظرية إخوان الصّفا الذين زهدوا الحياة وتفرّغوا للعلم والدّين، فالموتُ عندهم يسمّى "البعث الأصغر"، بينما تسمّى عودة النّفس الكليّة إلى بارئها بـ "البعث الأكبر"، والموت عندهم ولادةٌ وانعتاقٌ للرّوح وتحرّرٌ من سجن الجسد ولهم في ذلك جدالٌ وبراهين وقصصٌ رمزيّةٌ في الرّسالة الخامسة عشرة التي تبحثُ "في ماهيّة الموت والحياة".

والدّين الإسلاميّ عموماً يعتبر الموت هو خروج الرّوح (النّفس) من الجسد نهائيّاً، وهناك الكثير من الآيات القرآنية عن انتقال الحياة من عالم الشّهادة إلى عالم الغيب حيث الجنّة والنار كما ورد في الآية (185) من سورة آل عمران:"كلّ نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز وماالحياة الدّنيا إلّا متاع الغرور ". صدق الله العظيم

وتختلف التّفسيرات في الموت هل هو فرحٌ أم حزنٌ؟ ولكنّنا نحن من نحزن على فراق عزيز، وندرك أنّ من يغادرنا سيترك فراغاً لا يمكن لشخصٍ آخر أن يملأه .

والهدف من هذه المقالة هو التعرّف على الدّيانات الأخرى الشرقيّة وكيفية معالجة وتفهّم فكرة الموت والحياة، وزيادة الوعي والإدراك، وتعزيز الرّوحانيات والتّقليل من المادّة والأمتعة لتحقيق الخلاص، والمقارنة بين العلم والرّوحانيات في التّعامل مع قضية الموت والحياة. ولكن يمكننا في الحقيقة أن نجد الحقائق الرّوحيّة في كليهما. وتخبرنا الرّوحانيات عن أشياء نجهلها ونحن نحارب ونقاتل ونحزن ونبكي .

علينا أن نتعلّم ونؤمن بأن الموت حقٌّ وانتقالٌ للرّوح، وأنّ الله هو من يبعثنا وإليه النّشور؛ هو الذي يبعث الأنفسَ بعد موتها وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ. ولذلك دعونا نعود إلى  ممارسة حياتنا الطّبيعية ونتذكر موتانا بالحسنى والدّعاء ونحمد الله ونعمل لدنيانا كأنّنا نعيش دهراُ ولآخرتنا كأنّنا نموتُ غداً.

كنتُ ألملم قرطاسيّتي وأنا أحتسي المتّة على شرفتي لأعلن انتهاء مقالتي اليوم، وإذ بي ألمح يرقةً بين الورق. نظرتُ إليها مليّاً وفكّرتُ في إبداع وحكمة الخالق، تراها تخافُ من الانتقال من شرنقتها التي تأويها لتتحوّل إلى فراشةٍ تطيرُ بين الزّهور والحدائق! ربّما لوعلمت أنّها ستمتلك هذين الجناحين وهذا الجمال الذي تتمتّعُ به الفراشة لأنفت الشّرنقةَ منذ البداية! أليست تلك صورةٌ مجازيّةٌ عن انتقال النّفس من عالم المادّة إلى عالم الرّوح. ولربّما كان الموتُ ولادةً حقيقيّةً والحياةُ وهمٌ وحلمٌ، وربّما يرانا أحبّتنا من السّماء ويرسلون إلينا رسائلهم عبر التخاطر وفي انعتاق الرّوح في النّوم أو ما يُسمّى بالأحلام، وصلواتنا وصدقاتنا تصلهم يقيناً.

وللقصّة تتمّةٌ...

                                     الدّكتور وائل عوّاد

                         الكاتب والصّحفيّ السّوريّ المقيم في الهند

 

مصدر الخبر
محطة أخبار سورية

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.