تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

الحرية الإعلامية وصلتها بمبدأ البراءة وإثباتها !!

إن قيام دولة القانون يقتضي احترام المبادئ والقواعد الدستورية وانسجام القوانين النافذة في هذه الدولة مع تلك المحددات التشريعية خاصة في مسائل الحقوق والحريات، إذ يفترض بها أن تكون معبّرة بدقة عن جوهر الدستور وروحه عملاً  بمبدأ سمو الدستور.  

        إلا أن الأمر لا يبدو في بعض الأحيان بهذا اليسر والوضوح. فعند التدقيق في النصوص القانونية التي تنظم ممارسة الحقوق والحريات نجد فيها الكثير من الخروج على هذه القواعد, وخير مثال على ذلك "الحرية الإعلامية".  فالأصل أنّ لكل مواطن الحق في التعبير عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة و وسائل التعبير الأخرى كافة ، وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر وفقاً للقانون. كما أن قانون الإعلام السوري في المادة الثانية منه يؤكد ذلك بالقول: (الإعلام بوسائله كافة مستقل يؤدي رسالته بحرية ولا يجوز تقييد حريته إلا وفقاً لأحكام  الدستور والقانون).

فإذا قام الإعلامي بممارسة هذا الحق الدستوري والقانوني وانتقد أحد الأشخاص أو الهيئات، أو قام بنشر واقعة فيها مخالفة للقانون أو خروج عليه، أو قضية فساد أو ما شابه ذلك من تحقيقات صحفية، فإنه يفترض أن يكون  بمنأى عن أية ملاحقة جزائية تطاله طالما أنه يمارس حقاً كفله له الدستور والقانون، ولم يخرج على المحظورات الواردة في قانون الإعلام فيما لو أراد ذلك الشخص أو  تلك الهيئة الادعاء عليه بجرم الذم والقدح.

بيد أن تلك البديهية لا تتفق مع نص القانون الذي عاقب مرتكب جرم القدح بالحبس والغرامة في المادة /568/ من قانون العقوبات. وينبغي على الإعلامي حتى يتفادى العقاب، إثبات صحة كل واقعة يسندها إلى شخص أو هيئة حتى لا تعد المادة المنشورة جريمة ذم وقدح وذلك عملاً بالمادة /9/ من قانون الإعلام والمادة /377/  من قانون العقوبات والتي تنص على أنه: (في ما خلا الذم الواقع على رئيس الدولة يبرأ الظنين إذا كان موضوع الذم ذا علاقة بالوظيفة وثبتت صحته).

ولكن الأسوأ من ذلك ما ورد في  المادة /569/ من ذات القانون والتي عطفت عليها المادة /78/ من قانون الإعلام عندما يمارس الإعلامي حقه المنصوص عليه في المادة /13/ من قانون الإعلام فإنه بموجب المادة /569/ يعاقب حتى ولو كانت الواقعة المنشورة صحيحة!!!! والتي تنص على أنه: (لا يسمح لمرتكب الذم تبريراً لنفسه بإثبات حقيقة الفعل موضوع الذم أو إثبات اشتهاره). وهذه المادة وردت في فصل إفشاء الأسرار، باب التعدي على الحرية والشرف.

وبما أن جريمة الذم والقدح معاقب عليها في قانون العقوبات بالنصوص السابقة، الأمر الذي يؤدي من الناحية العملية إلى إهدار مبدأين دستوريين، هما؛ 1ـ حرية التعبير والصحافة. 2ـ قرينة البراءة أو أن كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم.

وهذا الإهدار  يتجلى  بشكل واضح وتظهر الصلة بينهما عند الوقوف على تطبيق قرينة البراءة في جرائم النشر. فالأصل في قرينة البراءة أن المتهم لا يلزم بإثبات براءته بل يقع عبء إثبات التهمة على عاتق سلطة التحقيق أو الادعاء وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية.  وبالتالي إن براءة الشخص مفترضة حتى تثبت إدانته بأدلة قاطعة لا يشوبها الشك. فلا يلزم المتهم تقديم دليل على براءته ولا يجوز اعتبار التزام الصمت أو اعتبار مناقشة الأدلة المعروضة أو تفنيدها أو التشكيك في قيمتها دليلاً على ارتكابه الجرم, إذ أنّ  مهمة القاضي الناظر بالدعوى لا تقتصر على مواجهة المتهم بالأدلة المبرزة في الدعوى، بل تتعدى ذلك إلى  إثبات الحقيقة. ذلك على اعتبار أن  فكرة العدالة لا يمكن أن تبنى على الوهم والاستنتاج والتخمين، بل لابد للمحكمة أن تتحرى عن الحقيقة من خلال تدقيق الأدلة. وعملية التحري هذه، تدور حول قدرة هذه الأدلة على دحض قرينة أن الأصل البراءة، فلا يقضي القاضي بعلمه الشخصي ولا يستند إلى إجراء باطل ليتمكن بعد كل ذلك من بناء قناعته على الجزم واليقين. وهذا معناه أن أي خلل أو ضعف في الأدلة المعروضة أو الإجراءات يعزز قرينة البراءة ويقويها وليس العكس.  

وبناء على ما سبق، فإنه يفترض أن تسري هذه المبادئ ويفترض على الإعلامي كغيره من المواطنين عند مثوله بين يدي القضاء، باعتبار أن هذه المبادئ الدستورية والقانونية راسخة ومستقرة في ضمير العدالة, غير أن الأمر على خلاف ذلك، وفيه خروج على تلك القواعد. وخير مثال على ذلك ما سبق ذكره من نصوص قانونية، بحيث تنطبق عليها مخالفة قرينة البراءة في الجرائم الإعلامية؛ فالأصل أن عبء الإثبات في الجرائم عامة يقع على النيابة العامة، إلا أنه في جرائم النشر يقع على الإعلامي وهو ملزَم لإثبات براءته، إثبات صحة الوقائع المنشورة. وهذا ما يجعل مهمة الصحفي شاقة وعسيرة.

ولكي يفلت الإعلامي من العقاب، عليه أن يثبت صحة الوقائع المستقاة من جهة, وحسن نيته بإبتغاء المصلحة العامة من جهة ثانية, وأن تكون المعلومات ذات صلة وثيقة بأعمالهم. ولا يوجد لهذا الخروج عن قرينة البراءة في ميدان العمل الإعلامي وصفاً معيناً سوى اعتباره تقييداً لحرية الإعلام، لاسيما وأن الصحفي بمجرد نشره مادة إعلامية يكون قد قارب حد ارتكاب جرم الذم، وأضحت المادة المنشورة موضوع جريمة مفترضة. يضاف إلى ذلك التقييد لحرية الإعلام، الخروج على مبدأ شخصية العقوبة واتساع دائرة المساءلة الجزائية لتطال رئيس التحرير وصاحب الوسيلة الإعلامية، وهو ما ورد في المادة /78/ من قانون الإعلام التي تنص على أن: (1- رئيس التحرير والإعلامي وصاحب الكلام في الوسائل الإعلامية مسؤولون عن الأفعال التي تشكل جرائم معاقباً عليها في هذا القانون والقوانين النافذة ما لم يثبت انتفاء مساهمة أحدهم الجرمية.

2- صاحب الوسيلة الإعلامية مسؤول بالتضامن مع رئيس التحرير والإعلامي بالتعويض عن الأضرار التي تلحق الغير).

والحقيقة إن كان ثمة من يرى أنه يجب عدم فهم هذا الخروج بتلك النظرة السلبية والاعتقاد أن القانون يعتبر الفعل الإعلامي على بساطته جريمة معاقب عليها، فإنه يجب النظر بالمقابل بإيجابية إلى موقف المشرّع من إلغاء "عقوبة الحبس" واعتباره العمل الإعلامي رسالة تؤدي دورها في بناء المجتمع من خلال نشر الوعي والدفاع عن القيم الوطنية والقومية للمجتمع السوري والتعبير عن مصالح الشعب وتأثيرها البالغ والفعال في المجتمع. 

وبالخلاصة، يمكن القول إن هذا التحليل للقيود الواردة على حرية الإعلام في ميدان الإثبات ليس الغاية منه حصر ذلك المساس وبيان مدى تأثير ذلك على هذا النشاط، وإنما هو إبراز أثر مخالفة قواعد الإثبات في المواد الجزائية في جرائم الإعلام وما لذلك من بالغ الأثر في جعل ممارسة الحريات العامة أمراً متعسراً على الأفراد. وهو من قبيل دعوة المشرّع إلى المسارعة لتعديل هذه المواد وإصدار نصوص تكون أكثر انسجاماً مع المبادئ التي نص عليها الدستور النافذ، ولتكن عنواناً على الانفتاح  السياسي والإعلامي الذي تشهده سورية في الوقت الراهن.

 

                                                                                      القانونية: أمل عبد الهادي مسعود

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.