تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

المـوت الدمـاغـي بين الفقـه والقانـون..!!


خلق الله الإنسان ووهب له الحياة، وسخّر ما في الكون لخدمته والحفاظ على حياته، وأرشد الانسان إلى اختراع العديد من الأدوات الطبية التي تساعد الطبيب في الحفاظ على هذه النفس البشرية. فإذا أصيب شخص بتوقف القلب أو التنفس نتيجة لإصابة الدماغ بأذية يتم إدخاله غرفة الإنعاش "غرفة العناية الفائقة" بوسائلها الحديثة كالمنفسة ونحوها من أدوات الطب المتطورة، لكن قد تتطول فترة الإنعاش هذه  إلى أجل غير محدود، وهذا يتطلب بذل المزيد من الجهد والمال مما يسبب الإرهاق للمريض وأهله وللطاقم الطبي والمستشفى والدولة. فتكاليف العلاج ومنها الإنعاش باهظة الثمن وصرف ملايين الليرات لجعل جثة تتنفس أمراً ليس له معنى، كما أن هذه الأجهزة باهظة الثمن وقليلة العدد ويحتاجها كثير من المصابين وتعطيلها على مجموعة من المرضى أمر يؤدي إلى فقدان مجموعة من الأشخاص كان بالإمكان إنقاذهم لو استخدمت معهم هذه الأجهزة في حينها، وترك شخص يموت لعدم وجود جهاز إنعاش أو لأن الجهاز موضوع على شخص مات دماغه أمر ليس له ما يبرره.

وهذه الحالات والأسباب وغيرها دفعت العلماء ورجال الفقه والقانون إلى التفكير في وضع هذا الشخص والبحث في تحديد حالات الموت الدماغي للوصول إلى إمكانية رفع الجهاز عن هذا المريض.

وبما أن الموت والحياة لغز من ألغاز الطبيعة البشرية التي لم يحط بها الإنسان بعد رغم أنه شاهد هذه التجربة مراراً وجربها الملايين من البشر منذ أن خلق الله الإنسان ولم يكن الأمر يحتاج إلى طبيب ليعلن لهم بدء الحياة أو نهايتها. فالملايين من النساء أنجبن أطفالهن دون تدخل طبيب، وملايين الناس خرجوا من هذه الحياة دون حاجة لشهادة طبيب تثبت وفاتهم. لكن في حالتنا هذه، نحتاج للطبيب وأهل المريض لاتخاذ هذا القرار المصيري.

وأول من نبه إلى هذا الموضوع المدرسة الفرنسية عام 1959 ثم تبعتها المدرسة الأمريكية عام 1968، ثم أخذت الأبحاث تتسع وتنتشر فيما بعد إذ عقدت لهذا المؤتمرات والندوات. وقبل هذا التاريخ بالتحديد عام 1952 قبلت إحدى المحاكم الأمريكية (في ولاية كنتاكي) النظر في الدعوى الخاصة بشخص كان قلبه لا يزال يدق لأنه يدفع بالدم من الأنف فطبقت معيار موت جذع الدماغ كلياً معياراً قانونياً للموت، وعدَلت عن معيار توقف القلب والتنفس، وهو ما أقره المؤتمر الثاني للأخلاق الطبية بفرنسا، حيث أكد أن معيار الموت هو الموت الكامل لخلايا المخ وأن الموت ليس نتيجة حتمية لوقف حركات القلب في الجسم. وكان أول من وضع المواصفات العلمية والطبية الخاصة بتحديد موت الدماغ هي لجنة (آدهوك) في جامعة هارفرد عام 1968. ولولا تطبيق هذا المعيار الحديث للموت لمَا أمكن إجراء عملية زرع قلب كامل عام 1967 لأنه قبل ذلك لا يعتبر ميتاً أثناء العملية الجراحية.

وقد انقسم الفقه والطب في مريض الإنعاش (حالة موت جذع الدماغ) إلى فريقين:

الفريق الأول: يقول إن موت دماغ الشخص دون قلبه لا يعد موتاً، بل لا بد من توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموت الإنسان.

الفريق الثاني: يعتبر موت دماغ الشخص دون قلبه موتاً حقيقياً، ولا يشترط توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموت الإنسان، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء والأطباء المعاصرون.

ويرجع سبب اختلاف العلماء في حكم الرفع إلى اختلافهم في الحكم على حياة المريض؛

ـ فمن نظر إليه باعتباره ميتاً أجاز الرفع؛

ـ ومن نظر إليه باعتباره حياً حرّم رفع الأجهزة.

وقد صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي القرار رقم (5) تاريخ 16/10/1986 وعن المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بجواز رفع أجهرة الإنعاش عن الشخص الميؤوس منه، ذلك لأنه لا يوقف علاجا ًيرجى منه شفاء المريض، وإنما يوقف إجراء لا طائل من ورائه في شخص محتضر، بل يتوجه أنه لا ينبغي إبقاء آلة الطبيب والحالة هذه لأنه يطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار.

وكان هذا رأي الفقه في حالة المريض الميؤوس منه ولا يوجد من يطلب الجهاز عوضاً عنه، فهل يختلف الحال إذا كان ثمة مريض آخر يحتاج هذا الجهاز ويغلب على الظن إنقاذه (التزاحم على استخدام أجهزة الإنعاش).

في الحقيقة، فقد اختلف الفقه كذلك بين مؤيد ومعارض للرفع؛ فمن قال بالرفض استند إلى القاعدة الفقهية (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) والمصلحة هنا هي نزع الأجهزة عن المريض الميؤوس من شفائه لوضعها على مريض يرجى بقائه حياً، ولذلك لا يجوز رفع الأجهزة عنه عملاً بالقاعدة الشرعية (لا ضرر ولا ضرار)، والمفسدة هنا تحمل معنى القتل ودرئها أولى من جلب المنافع. وقد قال ابن نجيم في كتاب الأشباه والنظائر: "إذا تعارضت مفسدة ومصلحة، قدّم دفع المفسدة غالباً، لأن اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، ومن ثم جاز ترك الواجب دفعاً للمشقة ولم يسمح في الإقدام على المنهيات خصوصاً الكبائر". ويرى هذا الفريق أنه في حال رفع الأجهزة من الأول إلى الآخر نكون قد باشرنا قتل الأول لمعرفتنا أنه يموت برفع الأجهزة عنه وهذا من قبيل مباشرة القتل.  

أما القائلون بجواز رفع الأجهزة في حالة التزاحم فقد استدلوا بالقاعدة الفقهية (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما)، فيكون من يرجى شفائه أولى بالعلاج من المريض الميؤوس منه. وقد قال العز بن عبد السلام في كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" أنه: "إذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير بين المتساويين. وهذا الرأي صحيح فيما لو تساوت المصالح  وكانت تعود لشخص واحد، لكنها في مسألتنا غير متساوية والجمع متعذر ومصلحة الثاني أعظم لأنها تتمثل في إنقاذ حياته، فيما الآخر ميؤوس منه، وهي مصالح لأشخاص متعددين والأصل أن المسلمين متساوين في العصمة ووجوب المحافظة على الحياة.

ومن هنا فلا يقدم أحدهم على الآخر إلا بسبب كون الثاني أكثر انتفاعاً من الأول، فإن ذلك لا يبرر رفع الأجهزة عن الأخير، لأن رفع الأجهزة عنه ارتكاب لمحظور.

 وهذا الموقف هو ما  أخذ به  القانون السوري حيث جاء في المادة 50 من واجبات الطبيب وآداب المهنة الصادرة عن المؤتمر العام لنقابة الأطباء المنعقد عام 1987 والمصادق عليه من وزارة الصحة بموجب الكتاب رقم 3ـ 1 ـ 7962 تاريخ 25/ 6/ 1987 على أنه: "لا يجوز إنهاء حياة مريض مصاب بمرض مستعصي غير قابل للشفاء مهما رافق ذلك من ألم أو أصبح هذا المريض عبئاً على من يحيط به".

كما أن قانون العقوبات في المادة 538 نص على أن "يعاقب بالإعتقال عشر سنوات على الأكثر من قتل إنساناً قصداً بعامل الإشفاق بناء على إلحاحه بالطلب"(ما يسمى القتل الرحيم). 

وبعد كل ما تقدم، نجد أن موقف القانون السوري كان صحيحاً في رفض رفع أجهزة الإنعاش واعتبرها جريمة جنائية معاقباً عليها. فالموت والحياة بيد الله سبحانه وتعالى يهبهما لمن يشاء، والطب مهما تقدم لم يستطع منع الموت ولا إيقافه، وبالتالي لا يمكن تحديد زمن لبقاء المريض على جهاز الإنعاش. وأخيراً، فقد طُرح على البرلمان الفرنسي قانون يبحث في حق الإنسان في الموت إذا تعرض لحادث أو أصيب بمرض لا أمل بالشفاء منهما، وذلك بإعلان المريض رغبته في عدم المعالجة أو ما يسميه البعض "الموت الأسهل". وقد لقي هذا المشروع مقاومة كبيرة في البرلمان وذلك لأسباب كثيرة منها أنه لا يمكن لأي قانون البحث في الحالة الفردية الدقيقة والمعتمدة التي يواجه  فيها المصاب والطبيب مسألة الموت وجهاً لوجه.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.