تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

البراءة وعدم المسؤولية: بين النص والمفهوم الشائع..!!

 

29/10/2014

إذا كان المشرع يريد بكل لفظ معنى تتكفل اللغة بتحديد دلالته والمقصود به، فإنه بلا شك يريد بهذه الألفاظ والتعابير غرضاً معيناً. وهذا الغرض لا يمكن تعيين المقصود منه وبيان المراد به بالأساليب اللغوية فقط، بل لا بد من العودة إلى طرائق التفسير المتبعة في الفقه واستنباط المقصود منها وترجيح كفتها عند الاختلاف وإصدار الأحكام القضائية. ومثال ذلك تحميل بعض الألفاط مدلول قانوني قد لا يتوافق مع المدلول اللفظي الشائع عند استخدام هذا التعبير من قبل المشرع الذي غالباً ما يسعى إلى المقاربة بين اللغة ومدلولاتها الشائعة بغية تأمين أقصى حماية للحق موضوع التجريم.

غير أنه في بعض الأحيان قد تتشابه دلالات بعض الألفاظ على الرغم من اختلاف مدلولها القانوني، الأمر الذي يلبسها الغموض عند العامة من الناس فلا يُدرك الفارق بين اللفظ والمعنى، ومثال ذلك تعبير البراءة وعدم المسؤولية في القضايا الجزائية، فهو عند عموم المواطنين توصيف لحالة معينة هي إخلاء السبيل، ولكنه في مفاهيم علم القانون والقضاء مختلف ويوجد بينهما فرق شاسع.

فمن المسلّم به في أبجديات القانون أنه إذا وجد القاضي في ملف الدعوى أدلة يقينية تثبت ارتكاب المتهم للجرم المنسوب إليه أعلن إدانته، أما إذا لم تتوافر الأدلة الكافية لإدانة المدعى عليه قرر البراءة. وإذا وجد أن الفعل المسند للمتهم لا يشكل جرماً معاقباً عليه جزائياً أو أن المدعى عليه يستفيد من مانع من موانع العقاب أو قيام سبب من أسباب التبرير، قضى في هذه الحالة بعدم مسؤولية المدعى عليه. 

وهنا يثور التساؤل عن الفارق بين البراءة وعدم المسؤولية؟

للإجابة، لابد من بيان الحالات التي يطبق فيها كل من التعبيرين وصولاً إلى الفارق بينهما.   

فقد جاء في المادة 309 فقرة /2/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية أنه: "تقضي المحكمة بالتجريم عند ثبوت الفعل، وبالتبرئة عند انتفاء الأدلة أو عدم كفايتها، وبعدم المسؤولية إذا كان الفعل لا يؤلف جرماً أو لا يستوجب عقاباً".

واستناداً لأحكام هذه المادة تحدد حالات البراءة وعدم المسؤولية على الشكل التالي:

أولاً ـ حالات البراءة:

1ـ انتفاء الأدلة أو عدم كفايتها: لأن الإدانة بالجرم يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الاستنتاج والتخمين، والشك يفسر لمصلحة المدعى عليه.

2ـ ثبوت عدم وقوع الفعل: كأن يُتهم شخص بقتل آخر وأثناء المحاكمة يظهر الشخص المدعى قتله حياً، وبالتالي فإن فعل القتل لم يحدث وعلى المحكمة في هذه الحالة إعلان براءة المدعى عليه.

ثانياً - حالات عدم المسؤولية:

يجب على المحكمة أن تقضي بعدم المسؤولية في الحالات التالية:

1ـ إذا كان الفعل لا يؤلف جرماً فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.

ومن الصور الشائعة لهذه الحالة، والتي تتمثل باستفادة الفاعل من أحد أسباب التبرير التي يعرّفها الفقهاء بأنها "حالات انتفاء الركن القانوني بناء على قيود واردة على نطاق التجريم تستبعد منه بعض الحالات"؛ ومنها في التشريع السوري ممارسة الحق (م 182 ق ع) والدفاع الشرعي (م 183 ق ع) وأداء الواجب (م 184 ق ع) وإجازة القانون (184ق ع) ورضاء المجني عليه (186ق ع). وأسباب التبرير هذه تخرِج الفعل من نطاق التجريم ويغدو مشروعاً ويستحيل تبعاً لذلك توقيع العقاب.

2 ـ في حال وجود أدلة قاطعة على ارتكاب الفعل من قبل المدعى عليه دون التمكن من فرض العقوبة عليه للأسباب التالية:

أ ـ في حال وجود أحد موانع المسؤولية الجزائية (موانع العقاب) في القوة القاهرة 226 ق ع والقصر بالنسبة للأحداث الذين لم يتموا السابعة من عمرهم (م2 من قانون الأحداث الجانحين) والسكر (234ـ 235 ق ع) والجنون (م 230 ق ع) بحيث يترتب على مانع المسؤولية انتفاء الأهلية للعقاب.  

ب ـ في حالة استفادة الفاعل من أحد الأعذار المحلّة التي عينها القانون على سبيل الحصر على اعتبار أن العذر المحل يعفي المجرم من كل عقاب (م 240).

أما في حالة التقادم، فالمحكمة تقضي بسقوط دعوى الحق العام وليس بعدم المسؤولية كما ذهب الدكتور عبد الوهاب حومد على اعتبار أن التقادم هو أحد أسباب سقوط دعوى الحق العام، وذلك بموجب المادة 434 فقرة /1/ أصول جزائية، والتي تنص: " تسقط دعوى الحق العام بوفاة المدعى عليه أو بالعفو أو بالتقادم ".

وبعد هذا العرض يمكننا القول أن الفارق بين البراءة وعدم المسؤولية أن قرار البراءة ليس نهائي حيث يجوز للنيابة العامة إثبات عكسه في حال ظهور دليل يشير إلى ارتكاب الجرم والطعن به ما دامت مواعيد الطعن مفتوحة. ولكن بعد انقضاء المدة القانونية للطعن لا يجوز طلب إعادة المحاكمة في الأحكام التي قضت بالبراءة عملاً بالمادة 376 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. فالعدالة لا تتأذى بإفلات مجرم بقدر ما تتأذى بمعاقبة بريء والأحكام الصادرة بالبراءة لا يجوز إعادة المحاكمة فيها مهما شابها من أخطاء موضوعية واضحة وجلية. 

أما الأحكام الصادرة بعدم المسؤولية فهي قرارات نهائية حاسمة للدعوى وللوقائع التي يتناولها موضوع النزاع، فالجاني أو المدعى عليه يقر بأنه ارتكب الفعل، لكن القضاء عندما قرر عدم مسؤوليته فذلك يعود لأسباب نص عليها القانون الذي محى الصفة الجرمية عن نشاط الجاني ومنحه أسباب التبرير أو العذر المحلّ عند ارتكاب الواقعة؛ فلا يناقش أطراف الدعوى والمحكمة ارتكاب المدعى عليه الفعل أو عدمه ومدى قيام الأدلة على ذلك، وإنما النقاش يكون على قيام أسباب التبرير وتوافر الظروف الموضوعية والقانونية لتطبيقها على النزاع القضائي. ومن هنا تكتسب الصفة النهائية فيما فصلت به وبذلك يتجلى الفارق بينهما في نهائية الثبوت والبت فيما قضى به.

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.