تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

المجنـي عليه فـي القانـون وعلـم الإجـرام..!!


27/10/2014

يثير مصطلح المجني عليه عدة تساؤلات خاصة بوضعه ودوره وأهميته في مجال الدراسات الجنائية، حيث أن مفهومه وأهمية دراسته في القانون الجزائي يختلف في اتجاهاته الرئيسية عنه في علم الإجرام. وقد اختلف الفقه الجنائي في تعريف من هو المجني عليه خاصة أن التشريعات الجزائية أغفلت دائماً تعريفه بصورة مستقلة. لذلك هنالك من يعرًفه من منطلق الضرر الذي أصابه من جراء الجريمة، وبالتالي هو الشخص الذي أصابه ضرر من الجريمة، أو أنه الشخص الذي يلتزم الجاني بتعويضه عن الضرر الناشئ عن فعله. ولكننا لا نستطيع حقيقة الأمر أن نتبنى هذا التعريف لأنه يخلط بين المجني عليه والمضرور من الجريمة حيث أنه من الممكن وجود مضرور من الجريمة دون أن يكون هو المجني عليه. فعلى سبيل المثال في جريمة القتل يعتبر القتيل هو المجني عليه ولكن المضرور فيها والذي يستحق التعويض هم ورثة القتيل. وفي جريمة السرقة المجني عليه هو مالك الشيء المسروق ولكن المضرور من الجريمة قد تكون أسرته بصورة غير مباشرة أو أحد دائنيه الذي له حق امتياز على هذا الشيء. وبالتالي ليس هناك ارتباط حتمي بين المجني عليه والمضرور، ولهذا لا يجوز تعريف المجني عليه بالرجوع إلى فكرة الضرر الناتج عن الجريمة.

من هنا اتجهت بعض الآراء لتعريف المجني عليه بالنظر إلى النتيجة التي تسببها الجريمة أو بالنظر إلى القصد الجنائي منها أي أن المجني عليه هو ذلك الشخص الذي قصد الجاني الاعتداء على حقوقه، أو الذي مست الجريمة بحق من حقوقه التي يحميها النظام القانوني للدولة.

ويمكننا أن نعرف المجني عليه في ضوء ذلك بأنه الشخص الذي أوقعت الجريمة اعتداءاً مباشراً على حق من حقوقه، وبالتالي لا يدخل الضرر في هذا التعريف كمعيار رئيسي أو وحيد في تحديد المجني عليه سواء أصابت المجني عليه أو شخصاً آخر، لأن المعوّل عليه فقط هو وقوع النشاط الإجرامي سواء عمداً أو خطأً بما يشكل اعتداء على حق يحميه القانون لأحد المخاطبين بأحكامه. وبناء على ذلك يمكن أن يكون المجني عليه شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً، كامل الأهلية أو ناقصها، من مواطني الدولة أو من الأجانب ....الخ.

وإذا كان هذا هو تعريف المجني عليه بصفة عامة إلا أن الاهتمام به كطرف في الجريمة قد اختلف بحسب الفكر القانوني وتطوره عبر العصور المختلفة، بل إن النظر إليه ودراسة حالته يختلف في وجهة نظر الفقه والتشريع الجزائي عن النظريات والأفكار المنهجية لعلم الإجرام باعتبار أن دور المجني عليه في نظر فقهاء القانون الجزائي يختلف عن دوره وأهميته لدى الباحثين في علم الإجرام.

فالمجني عليه في القانون الجزائي لم يحظ كطرف في المشروع الإجرامي بالاهتمام الكافي في كتابات شراح القانون الجزائي في مختلف العصور ولا في المدارس العقابية المختلفة. وبالرغم من هذا الإهمال لوضع المجني عليه في الدراسات الفقهية القانونية إلا أنه وجدت عدة قواعد يظهر فيها تأثير المجني عليه ودوره في قيام المسؤولية الجنائية، وإذا كانت الفرضية البديهية في قيام الجرائم وجود جاني ومجني عليه فإن ثمة حالات توجد فيها جرائم تتحد فيها شخصية الجاني مع المجني عليه؛ أي أن القانون افترض أن ما قام بها الجاني من أفعال تضر بمصالحه بالرغم من أن الجاني هو المجني عليه في هذه الأفعال، كالشروع في الانتحار، أو من يقطع أحد أعضاء جسده للتهرب من الخدمة العسكرية.

وفي هذه الحالات يجتمع الجاني والمجني عليه في شخص واحد والقانون يجرم النشاط الإجرامي في هذه الحالة لخطورته على المصلحة العامة، حيث  القانون الجزائي يعتد بالأفعال التي تمثل اعتداء على مصلحة يحميها بمظلته التشريعية، وسواء كان صاحب هذه المصلحة محددا أو غير محدد. ويكون المجني عليه محدداً سواء كان شخصاً طبيعياً كما الاعتداء على حق الحياة  في القتل أو الشرف في جرائم السب والقذف والاغتصاب، أو على ذمته المالية في جرائم السرقة وإساءة الأمانة أو كياناً اعتبارياً عاما ً كالدولة بمختلف هيئاتها ومؤسساتها العامة، أو شخصاً معنوياً خاصاً كالشركات والبنوك حيث يمكن أن توقع الجريمة إضراراً بهم و يعتبرون في هذه الحالة مجنياً عليهم.

أما المجني عليه غير المحدد فيكون في بعض الجرائم التي لا تقع على مصلحة محددة ولكن على مصلحة عامة لا تتعلق بأشخاص معينين. والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها جرائم الإخلال بواجبات الوظيفة العامة (جرائم الرشوة واستغلال النفوذ وجرائم الإخلال بالثقة العامة كجرائم التزوير والتزييف). فهي أفعال تعد جرائم بصرف النظر عن أن شخصاً طبيعياً قد أضير من جراء ارتكابها. وكذلك جرائم الإضرار بالصحة العامة والجرائم ضد الأديان والمعتقدات كلها جرائم محددة في القانون وعقوباتها بالغة الشدة، ولكن لا يمكن أن نقول بأن المجني عليه محدد ومعين كما في القتل أو السرقة أو هتك العرض.  

وبعد هذا العرض لمفهوم المجني عليه لابد من الإضاءة على دوره في قيام الجريمة وأثر ذلك على المسؤولية الجنائية من خلال الإشارة على فكرة رضاء المجني عليه أو عدمه كسبب من أسباب الإباحة لبعض الجرائم أو التجريم، وذلك في الحالتين التاليتين:

 الحالة الأولى- عدم رضاء المجني عليه كعنصر في بعض الجرائم:

حيث يشترط القانون في بعض الحالات لقيام الجريمة عدم رضاء المجني عليه ومثال ذلك جرائم السرقة والإتلاف والاغتصاب وهتك العرض، فإن القانون بعد سن معينة لا يعاقب على الفعل إذا تم برضاء المجني عليه، وبالتالي عدم تحقق رضاء المجني عليه شرط وعنصر في التجريم.  

ولكن علينا أن نوضح مسألة أولية، وهي أن رضاء المجني عليه لا ينتج أثره في جميع الجرائم فهو منتج في بعض الجرائم فقط، حيث يملك المجني عليه التنازل عن هذا الحق كالسرقة بين الأصول والفروع أو الإيذاء البسيط. لكن في الأعم الأغلب من الجرائم، لا يعتد به كما في جرائم القتل والمساس بالسلامة الجسدية. فإذا وافق المجني عليه على الاعتداء لا يعتد برضائه ويبقى الفاعل مسؤولاً عن فعلته.

وبطبيعة الحال لكي ينتج رضاء المجني عليه أثره لا بد وأن يكون صادراً عن إرادة حرة مميزة عاقلة ومدركة لمدى الرضاء وأثره فلا يشوبها أي من عيوب الإرادة كالإكراه أو الخطأ.

الحالة الثانية - رضاء المجني عليه كسبب للإباحة:

لا يجوز كقاعدة عامة إباحة النشاط المجرم برضاء صاحبه اللهم إلا في بعض الجرائم، عندما يكون عدم رضاء المجني عليه عنصراً يجب توافره لتكامل أركان الجريمة. ولكن هناك ظروف موضوعية إذا ما تحققت شروطها فإنها تسبغ على النشاط الإجرامي صفة السلوك المباح وهي ما تعرف بأسباب الإباحة. وهذه الظروف قد تكون أسباب عامة للإباحة كالدفاع الشرعي وأداء الواجب، وقد تكون خاصة ببعض الجرائم ومثالها ممارسة الأعمال الطبية ومزاولة الألعاب الرياضية وخاصة العنيفة منها مثل الملاكمة والمصارعة حتى لو شكلت جريمة من الناحية القانونية. فالملاكمة بما تتضمن من ضرب وجرح والوفاة أحياناً، فإن اللاعب لا يسأل عن هذه الجريمة طالما أنه مارسها في حدود قواعدها الفنية وبحسن نية. وكذلك فقد ينشأ عن ممارسة الأعمال الطبية جروح كما هو الحال في العمليات الجراحية فهذا السوك هنا مباح إذا مورس طبقاً للقواعد المتعارف عليها في هذه المهنة ولم يرتكب الطبيب خطأ جسيماً في ممارستها.

أما المجني عليه في علم الإجرام فهو مختلف عنه في القانون الجنائي ويتميز بسمات خاصة، حتى أن الدراسات الحديثة في هذا العلم أفرزت تخصصاً جديداً هو علم المجني عليه وهذا الفرع من العلم يهتم بالمجني عليه لمعرفة دوره الأساسي ومدى مساهمته في ارتكاب الجريمة، حيث بدأت الدراسات الأولى له بكتاب للعالم (Von Hentig) واسمه (The Criminal and victim ) والصادر سنة 1948 وقرر أن الدراسة النظرية لمكافحة الجريمة ليست لها أي أهمية إلى جانب المعرفة الحقيقية للمجني عليه، حيث يمكننا معرفة الكثير عن الجاني ودوافعه وسبب الجريمة والسوك المتبادل بينهما يمكن عن طريقه الكشف عن الظاهرة الإجرامية.

وقد قسم  Von Hentig تحت عنوان (مساهمة المجني عليه في نوع الجريمة) المجني عليه إلى عدة أنواع أساسية منها  المجرم المجني عليه ـ المجني عليه الخفي ثم العلاقة بين الجاني والمجني عليه. وأخذ الباحثون في علم الاجرام هذه المعطيات وطوروها في دراساتهم ليوضحوا المفاهيم التي أشار إليها Von Hentig   في دراسته. فبالنسبة للمجرم المجني عليه توجد حالات تشير إلى أن الجاني قد يكون مجنياً عليه في نفس الوقت؛ فالطفل الذي تربى تربية سيئة قد يصل إلى حد ارتكاب الجرائم وكذلك السجين الذي تمت مساعدته على الهرب قد يستغل من ساعده وبالتالي قد تكون الصدفة هي التي تحول جانياً إلى مجني عليه والعكس. وبخصوص تعبير المجني عليه الخفي فيطلقه علماء علم الاجرام على الأشخاص الذين لا يشعرون بأنهم مجني عليهم بالرغم من دورهم في تحقيق الجريمة كالشواذ جنسياً.  

أما العلاقة الخاصة بين الجاني والمجني عليه فقد تنشأ من أمراض عصبية أو نفسية أو من علاقة خاصة تربطهما مثل المرأة الساقطة ومن يقوم بتشغيلها في البغاء أو الزوجين المدمنين على الخمور أو المخدرات إذا كان أحد الزوجين يحضرها للآخر لتناولها معه.

ولكن قد يكون المجني عليه أحد العوامل الدافعة لإرتكاب الجريمة أو أحد العوامل المانعة وبالتالي قد يكون المحرك الأساسي لها، وبذلك ينخفض دور الجاني في ذلك لأن قوة الإقدام على ارتكابها قد تجاوزت قوة المانع، والذي شجعه المجني عليه. وبناء على ذلك حين يحقق في جريمة معينة فإن النظر إلى المجني عليه لمعرفة وضعه وصفته قد يؤدي إلى إيضاح الكثير من الأمور المتعلقة بالفاعل. ويفرق الفقهاء بين وجود مجني عليه أصلاً كعامل من عوامل الإقدام على الجريمة وبين المجني عليه فعلاً. فالدولة كمجني عليه هنالك شعور بأنها شخص مليء لا يوثر فيه اطلاقاً واقعة سرقة أو إضرار بأمواله وبالتالي نجد أن جرائم السرقة التي تقع على المال العام كثيرة ويرتكبها أشخاص من مستويات لا ينتظر منهم اطلاقاً ارتكاب نفس الجريمة إذا كان المال مملوكا للأشخاص العاديين. وكذلك نجد الجاني الذي يصرح للآخرين ويتفاخر بأنه تمكن من التهرب الجمركي لبعض الأجهزة التي أدخلها معه وهو يرتكب هنا جريمة يعاقب عليها القانون لا يمكن أن يصرح عن واقعة سرقة بسيطة من أحد الأشخاص، وذلك لأن الجريمة الأولى المجني عليه فيها هو الدولة بينما الثانية المجني عليه شخص طبيعي محدد.

وقد يكون سلوك المجني عليه هو الدافع لارتكاب الجريمة من قبل الجاني لصفة من صفات المجني عليه أو لإهماله وعدم تحرزه، كما في جرائم النصب والاحتيال، إذ لا يكمن ارتكاب هذه الجريمة إلا ضد مجني عليه يتميز بقدر من السذاجة أو الطمع حتى يمكن خداعه والحصول على ماله.. ومن يترك سيارته مفتوحة وبها مفاتيح التشغيل يشجع بلا شك الجاني على ارتكاب السرقة.

كل هذه الأمور تُظهر بوضوح دور المجني عليه في ارتكاب الجريمة وهنا يثور السؤال التالي هل يمكن مساءلة المجني عليه إذا كان سلوكه أحد العوامل الدافعة لارتكاب الجريمة؟

بطبيعة الحال لا نستطيع أن نقرر المسؤولية الجنائية لأحد الأشخاص إلا إذا اشترك في ارتكاب الجريمة بإحدى طرق المساهمة المنصوص عليها في القانون. أما أن وجوده أو مسلكه قد ساعد وشجع على ارتكاب الجريمة فإن هذا لا يكفي لمساءلة أحد الأشخاص جنائياً. وعليه فلا يمكن لأحد التذرع بالأوضاع الحالية والاجتهاد في إعلان البراءة عمن يستغلون هذه الظروف لارتكاب جرائم السلب والنهب والسرقة والقتل واغتصاب السلطة وممارسة الإرهاب على الآمنين أو التهرب من دفع رسوم الكهرباء والمياه والضرائب، خصوصاً أن أحكام القانون الجزائي لا تسمح باستعمال القياس أو التفسير الواسع. والاعتقاد أن سلوك المجني عليه ـ الدولة ـ المتسامح هو من يغري بارتكاب هذه الجرائم غير صحيح، وحبذا لو تعاون الإعلام والقضاء في التوعية والتركيز على هذه القضية التي بات شبه قناعة لدى لأفراد الذين يعتقدون أنهم لن يطالهم العقاب وأن الفوضى كفيلة بإخفاء معالم الجريمة وأثرها.. فإذا كانت أبواب التسامح مفتوحة فإن قصور العدل شامخة بسلطان الحق لا تغفل عن مخطئ أو مسيء.  

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.