تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

التأصيل القانوني للمصالحات الوطنية في سورية..!!

مصدر الصورة
SNS


20/10/2014       

       

أفرزت الأحداث التي تشهدها سورية في الأعوام الماضية الكثير من المتغيرات السلوكية والإنسانية وظهرت للوجود مفاهيم لم تكن متداولة من قبل، ومنها تعبير "المصالحة الوطنية" التي تقوم في مضمونها على فكرة العفو والتسامح بغية تشجيع أبناء الوطن الذين حملوا السلاح للعودة إلى حضن الوطن وإعفائهم من أي تبعات قانونية، مقابل التعهد بعدم مخالفة القانون أو الإخلال بالأمن والسلامة العامة.

وإذ كان هذا الطرح يبدو جديداً على حياتنا القانونية والقضائية والاجتماعية إلا أنه أثار العديد من الانتقادات باعتباره بدعة وخروجاً على مبدأ سيادة القانون ومبدأ فصل السلطات. لكن ذلك غير دقيق وفيه من الارتجالية والتجني الكثير وتعوزه الدقة والتمحيص، فالدارس المتأني لما تقوم به الدولة السورية ممثلة بوزارة المصالحة الوطنية وبالتعاون مع باقي الأجهزة في الدولة يجد أنها احترمت مبدأ سيادة القانون ولم تخرج عنه؛ فالمصالحة الوطنية بالتأصيل القانوني (كنشاط وسلوك إداري تقوم به الدولة) هي شكل من أشكال حسم المنازعات بالطرق الودية أو البديلة. وقد عرفها قانون الجزاء البلجيكي سنة 1935وعدل بقانون خاص عام 1984، والقانون الكندي بموجب المرسوم رقم 1271/1996، والتشريع الفرنسي بالقانون رقم 2/ 93 لعام .1993 وقد عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1937 كما العديد من البلدان كالصين واليابان وعدد من القبائل العربية التي تلجأ منذ مئات السنين إلى تسوية منازعاتها بصورة ودية وذلك إلى جانب الأساليب الحديثة في المنازعات عن طريق المحاكم.

والهدف منها هو تهدئة المنازعات والبعد عن تعقيدات الإجراءات القضائية فهي وسيلة غير قضائية ولكنها تتم بواسطة القضاة، والقانون السوري نص في المادة 156 من قانون العقوبات على أن: "صفح المجني عليه في الأحوال التي يعلق فيها القانون إقامة الدعوى العامة على تقديم شكوى أو الدعوى الشخصية يُسقط دعوى الحق العام ويوقف تنفيذ العقوبات إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك".

وبما أن الجرائم التي يجوز المصالحة فيها محددة في القانون على سبيل الحصر، فلا يجوز حسب المادة 519 من القانون المدني الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام، ولكن يجوز الصلح على المصالح المالية التي تترتب على الحالة الشخصية أو التي تنشأ عن ارتكاب إحدى الجرائم.

من هنا كانت المصالحة التي تتم بين الدولة والمطلوبين لا تشمل الدعاوى المرفوعة أمام القضاء أو التي فيها ادعاء شخصي، وإنما فقط الضبوط الشرطية والبلاغات الأمنية التي لم تعرض على القضاء بعد.  وبما أن النيابة العامة هي الجهة المخولة بموجب القانون بإقامة دعوى الحق العام ومباشرتها عملاً بالمادة الأولى من قانون أصول المحاكمات الجزائية، بصفتها ممثلاً عن الدولة والمجتمع الذي فوضها بإقامتها واستعمالها فحسب، وعليها أن تلتزم في تصرفاتها حدود هذا التفويض، فإن ذلك لا يحجب عن النيابة العامة حقها في حفظ الدعوى سواء بشرط أو بدون شرط. فالمادة المذكورة تعطي للنائب العام حق تقدير الشكوى أو الاخبارات التي تصل إليه بما في ذلك الحفظ على الرغم من عدم وجود نص قانوني يلزمه على اتخاذ هذا الاجراء الذي يمكن الرجوع عنه في أي وقت. وهذا الأمر واضح بشكل صريح في نص المادة 20 من قانون العقوبات العسكري والتي تنص على: "إذا تبين للنائب العام أن القضية لا تستوجب الملاحقة لسبب من الأسباب فله أن يقرر حفظها في الحال أو بعد إجراء تحقيق ولابد في كل حال من أخذ موافقة مدير العدلية العسكرية على قرار الحفظ".

وفي التطبيق العملي، وعندما تنجح الدولة في اقناع الفرقاء بتوقيع مصالحة في منطقة ما، يتقدم الأفراد المعنيون إلى القضاء(النيابة العامة) لتسوية أوضاعهم، وبعد أخذ افاداتهم والتأكد من عدم وجود ادعاء شخصي مباشر عليهم، أو ادعاء سابق يتم اطلاق سراحهم من قبل النيابة العامة. وهي في هذه الحالة تمارس ما يسمى مبدأ الملاءمة أو السلطة التقديرية التي هي من صميم عملها القضائي؛ فهي غير مجبرة على تحريك الدعوى العامة إلا في حالة وجود ادعاء شخصي أو قيام أدلة تؤكد ارتكاب المتهم للجرم المنسوب إليه. وفي الأعم الأغلب من الحالات تكون ملفات طالبي التسوية خالية من أدلة تشير إلى ارتكاب جرم ما بعينه، فيما خلا المعلومات الأمنية التي لا يستطيع القضاء الاعتماد عليها ما لم تكن مدعومة بأدلة أخرى تساندها.

لذلك فإن النيابة العامة تقوم بالمواءمة بين سلطتها التقديرية في تحريك الدعوى العامة وبين السعي إلى استقرار المجتمع وحفظ أمنه، وهذا الأمر لا ينطوي على مساس بمبدأ سيادة القانون ومبدأ المساواة، بل على العكس من ذلك؛ إن هذا السلوك يهدف إلى تأكيد هذه المساواة؛ فمن الخطأ النظر إلى المتهمين بوصفهم مجرد أرقام كمواد قانون العقوبات، بل يتعين فوق ذلك تقدير ملامح شخصيتهم وخطورتهم الاجرامية، حيث أن من واجب النيابة العامة كأداة لحماية الشرعية الجنائية أن تتصرف وفقاً للسياسة الجنائية التي تطبقها الدولة. فإذا كانت هذه السياسة الجنائية تقتضي التسامح وتقدير الجزاء وفقاً لشخصية الجاني وخطورته على أمن المجتمع، كان لا مناص للنيابة العامة بوصفها حامي الشرعية القانونية أن تراعي هذا الاعتبار عندما تقرر تحريك الدعوى العامة، وبالتالي لا صحة للقول أن النيابة العامة عندما تحفظ الدعاوى في هذه الحالات تقوم بالاعتداء على الاحترام الواجب للقانون، ذلك أن استعمالها لهذه السلطة لا يكون إلا لتحقيق غاية مشروعة هي الصالح العام والمصلحة العامة للدولة التي لا تتوقف على حل معين دون غيره، فهي متغيرة وتختلف باختلاف ظروف كل قضية على حدة. فلا تناقض بين حفظ الدعوى طبقاً لمبدأ الملاءمة وبين واجب الدولة في العقاب، وممارسة هذا الواجب لا تعني وفقاً للسياسة الجنائية الحديثة توقيع الجزاء القاسي على مرتكب الجريمة وإنما يتعين تفريد هذا العقاب وفقاً للشخصية الاجرامية  للجاني.

وهذا التفريد يجب أن يقابله في مرحلة الاتهام تفريد مماثل يجنب بعض المتهمين مخاطر المحاكمة الجنائية متى اقتضت ذلك اعتبارات الصالح العام. فالقاضي ليس بوقاً يردد كلمة القانون كما هو الحال في المدرسة التقليدية وإنما يطبق هذه الكلمة عن وعي وتقدير يراعي فيه ملاءمة العقوبة للمجرم. والنيابة العامة بوصفها الحارس الأمين والأداة الفعالة لحماية القانون تمارس نفس السلطة، فلا تقيم الاتهام عفواً أو على نحو آلي بل عن إدراك كامل للوقائع والظروف المحيطة بالدعوى. وهذا الأمر من مسلمات مدرسة الدفاع الاجتماعي التي لا تقتضي رفع الدعوى في جميع الأحوال، بل أن مقتضيات هذا الدفاع قد تحتم في بعض الأحوال التغاضي عن رفعها عند الاقتضاء في حدود الصالح العام، وبالتالي لا صحة للقول بأن مزاولة النيابة العامة لهذا الدور فيه افتئات على مبدأ فصل السلطات، فهذا الانتقاد خاطئ يٌبنى على فرض خاطئ هو انتماء النيابة العامة للسلطة التنفيذية وهو ما لا يمكن التسليم به وذلك لسببين:

الأول: أن تحديد علاقة النيابة بالجهاز التنفيذي للدولة يتوقف أساساً على التكييف القانوني لوظيفتها وهل هي وظيفة تنفيذية أم قضائية؟

فالنيابة العامة كأداة لحماية القانون تقتضي منها التحرك عند كل مخالفة للقانون بقصد حماية هيبته وتوقيع الجزاء على من يخالفه، وبالتالي فإن وظيفتها لا تكون في هذا الشأن تنفيذ القوانين بقدر ما تكون تطبيقاً لها على ما ينشأ من المخالفة القانونية. وتنوب النيابة العامة عن الدولة في ممارسة سلطتها الإجرائية في تحريك الدعوى العامة، ولما كان جوهر هذه السلطة الإجرائية هو تطبيق قانون العقوبات فلا يمكن مطلقاً اعتبار هذه السلطة محض عمل تنفيذي، بل إنه ينتمي في حقيقة الأمر والواقع إلى أعمال السلطة القضائية، ذلك على اعتبار أن هذه السلطة وحدها هي المختصة بتطبيق القانون على المنازعات والخصومات. وإذا كان من وظيفة السلطة التنفيذية السهر على تنفيذ القوانين ورعاية أمن المواطنين، إلا أن كل ذلك يجب أن يتم في نطاق القانون ولا يتيسر التحقق من ذلك إلا بإيجاد هيئة مستقلة تراقب حسن تنفيذ القانون، وهي النيابة العامة.

الثاني: أن اختصاص النيابة على النحو السابق ليس فيه تدخل في أعمال القضاء لأن التدخل المحظور عليها يبدأ منذ اللحظة التي ترفع فيها الدعوى العامة، وتنتقل إلى حوزة المحكمة. أما قبل ذلك، فالدعوى لا زالت في يد النيابة العامة ولها أن تتصرف فيها بوصفها الجهاز القائم على حماية المشروعية الجنائية في حدود الصالح العام.

فالمصالحة الوطنية كإجراء سياسي واجتماعي وأمني يبقى تحت إشراف القضاء حسب القواعد القانونية العامة ويكون المطلوب حاضراً. ويمكن القول في هذه الحالة أن إحدى الغايات منها تخفيف الأحكام الغيابية وتحقيق سرعة الحسم في الضبوط الشرطية الواجب عرضها على القضاء وهذا يساعد على تحقيق رد الفعل الاجتماعي المطلوب وهو الاستقرار والأمن الاجتماعي. فالتأخير في حسم هذه النزاعات يولد الشعور بالإفلات من العقاب، والواضح أن الصلح في هذه الحالات يصدر عن عدالة (قضاء) رضائية لأنه يعطي مكاناً هاماً لرضاء أصحاب العلاقة الذي يأخذ الشكل الإيجابي للقبول على عكس الأمر الجزائي الذي يقتصر على شكل سلبي هو عدم وجود الرفض. بالمقابل يمكن أن نلحظ في بعض أشكال المصالحات تنازلات متبادلة من قبل الفاعل والمجني عليه تحت إشراف القضاء ذي الصلة بالعدالة التفاوضية، وفي بعضها الآخر جوانب من العدالة التعاقدية حيث يقبل الفاعل عرض الدولة بإتباع معالجة أو حل معين أو تنفيذ أعمال تتعلق بالمصلحة العامة.

والمصالحات هنا تحمل شكل العدالة الرضائية أكثر منه العدالة التفاوضية باعتبار أن النيابة العامة تحتفظ بحق ممارسة الدعوى العامة بحق من يوجد عليه إدعاء، وتقرر من جانب واحد ضمن الحدود المعينة في القانون، ويوافق الفاعل عليه. وباعتبار هذا الأمر يجري خارج القواعد الكلاسيكية للإجراءات الجزائية، فإنه لا يمكن وصف القرار بحق المطلوب بأنه براءة كاملة؛ فالحفظ الشرطي لا يطفئ الحق العام، ومادام الأمر كذلك لا يمكن اعتباره نهائياً وقطعياً ونجد بالتالي الحق العام سيد الموقف.

وعليه فالإجراءات التي تتم عبرها المصالحات هي بكل تأكيد حلول بديلة للملاحقة الجزائية التقليدية، وتلبي بلا شك الأهداف المتوخاة منها، وخاصة عودة الكثير من أبناء الوطن إلى حضن الدولة والتخفيف من ظاهرة الاجرام التي استفحلت في المجتمع السوري. لكن في المقابل، ثمة من يتضرر من هذه الأعمال الإرهابية وتؤدي هذه المصالحات إلى الإضرار به. لذلك نجد أن الدولة عندما أحدثت لجنة تعويض الأضرار الناشئة جراء الأعمال الإرهابية، راعت هذا الجانب وحفظت حقوق المتضررين ولم تطبق القواعد التقليدية في الادعاء بالضرر حيث يتطلب معرفة مسبب الضرر واثباته، فحققت التوازن العادل بين الجناة والمجني عليهم وحافظت على الدور التقليدي للدولة كراعية وحامية للجميع.

وبالتالي لا بد من الاعتراف أن الدولة السورية استطاعت من خلال هذه المصالحات والآليات المتبعة فيها أن تتكيف مع الأحداث الجارية، ولم تبق جامدة ضمن الأطر التقليدية وحافظت في الوقت نفسه على مبدأ سيادة القانون وإشراف القضاء على تنفيذه. وهذا هو المطلب الأساسي في الأمور الجزائية. وفي الوقت نفسه، كرست نهجاً بدأ يشق طريقه في عالم القانون الجزائي وهو حسم النزاعات بالطرق البديلة. وحبذا لو تكرس هذا النهج بتشريع خاص ينظّم الجهود المبذولة في هذا المجال إذ لا يمكن القول أن جهود وزارة المصالحة الوطنية هي وسيلة لتسوية الخلافات بالمعنى الفني للكلمة، بل هي عبارة عن فن الاقناع الذي ينتهي إلى الحكمة، لأن مساعي التسوية تلك هي عبارة عن بحث، عن التماس، عن مسيرة، عن إرادة خيرة، عن مساع حميدة تحاول إعادة السلام وإخماد الفتن. لكن السؤال هل يستطيع الحق أن يثبَّت السلام؟!  

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.