تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

القتـل بـوسـائل معنـويـة.. !! قضية (قدسي - كحالة ) نموذجا

مصدر الصورة
SNS


15/10/2014

يأتي حق الحياة في طليعة الحقوق الإنسانية، وهو من الحقوق الطبيعية للإنسان واللصيقة بشخصه، التي لا يماري فيها أحد، ولكن ذلك لا ينفي أن أول فعل غير مشروع أو اعتداء على الغير كان القتل الذي يكاد يجمع علماء القانون والاجتماع على أنه من أقدم الظواهر في سلوك الإنسان الأول في المجتمعات البدائية، وأن أول جريمة ارتكبها الإنسان على ظهر هذه المعمورة كانت القتل باستخدام الحجر كما تروي الأسفار والقصص. وبذلك كان الحجر أول أداة استعملها الإنسان لارتكاب جرم الاعتداء على الحياة وهو القتل. وقد يرتكب القتل طعناً بالسكين أو السيف أو بدس السم أو بإطلاق عيار ناري أو دهساً بآلية أو الصعق بالتيار الكهربائي أو نقل مواد جرثومية إلى المجني عليه أو فيروسات معدية قاتلة.

والسؤال الذي يطرح هنا؛ هل يشترط لقيام الركن المادي في جريمة القتل أن يقع القتل بوسيلة مادية تصيب جسم المجني عليه؟ أي بممارسة جرم القتل بفعل معنوي كالترويع وخلق الرعب والخوف أو بإحداث آلام نفسية وما إلى ذلك من أفعال غير محسوسة لا تحدث أثراً ظاهراً على جسم المجني عليه؟

هذا التساؤل ليس افتراضياً أو متخيلاً فقد عُرض على القضاء السوري في الدعوى المنظورة أمام محكمة جنايات دمشق والصادر فيها الحكم بتاريخ 18/6/1960 والمعروفة بدعوى (جان قدسي ـ فريد كحالة) حيث نسب إلى المدعى عليه فريد التسبب بوفاة جان. وفي الوقائع، أنه أثناء حفل جمع المغدور بالمتهم في القنصلية التركية وكان بينهما خلاف، جرى خلال الحفل عتاب وجدل عنيف فأقدم المتوفى على صفع المتهم الذي رشقه بدوره بمحتوى كأس الشراب الذي كان في يده. وبعد انصراف كل منهما في سيارته تلاقيا ثانيةً أمام دار المتوفى وبعد مشادة وملاسنة  انصرف المتهم. وبعد برهة من ذلك ظهرت على المتوفى علامات نوبة قلبية أدت إلى وفاته. وبالخبرة الطبية تبين أن سبب الوفاة احتشاء عضلة قلبية، ولكن دون القطع بأن المشادة والانفعال هما سبب الوفاة، حيث جاء في التقرير أن النوبة لا يمكن أن تكون نتيجة تحريض لأسباب خارجية كشرب الخمر والانفعال والاجهاد العضلي والفكري، وأن هذه الأمور قد تساعد على احداث النوبة. ويمكن للنوبة أن تحصل عفوية وبدون أي سبب مما ذكر. لكن جهة الادعاء الشخصي طالبت بإدانة المتهم بجرم القتل قصداً على اعتبار أن القانون لم يضع حداً للزمن الذي يجوز أن ينقضي بين الإصابة وحدوث الموت؛ فكل موت يعقب الإصابة ولو بعد حين يسأل عنه الجاني سنداً للمادة 533 (ق ع). بيد أن  النيابة العامة حركت الدعوى سنداً للمادة 536 وهي التسبب بالوفاة دون قصد. واعتبرت أن ما أقدم عليه المتهم كان بسبب ثورة غضب شديد ناتج عن صفع المجني عليه له في الحفلة. وعند عرض الموضوع على محكمة جنايات دمشق قضت الأخيرة ببراءة المتهم مما هو منسوب إليه وقد عللت المحكمة قرارها:

) أن الإثارة النفسية والإرهاق الأدبي والتعذيب والترويع والرعب المستمر، وأمثال ذلك من أنواع الإيذاء المعنوي الذي تنعدم فيه كلياً أو جزئياً وسائل الجريمة المادية، والتي أشارت إليها المادة 536 بعبارة (وكل عمل آخر مقصود)، والتي ساقها محامو الادعاء الشخصي على اعتبار أن أعمال الشدة والإيذاء الخفيفة نفسها لا تكفي لتوفر الركن المادي في جريمة التسبب هذه، ومن باب أولى استبعاد الإثارات المعنوية حيث يتفق أغلب الفقه الفرنسي على اعتبار أن الأداة اللامادية للجريمة لا توجب مساءلة الفاعل لاستحالة إثبات الرابطة السببية بين الفعل والجريمة. وحيث أن النصوص التشريعية في جرائم القتل في قانونناً منقولة عن قانون الجزاء الفرنسي، والقول أن نص المادة 533 عقوبات سوري لا يتضمن أن الوسيلة الجرمية لا يمكن أن تكون معنوية، فيه لعب بالألفاظ، لأن جميع الشراح السوريين وغيرهم أول ما يشترطون هو الركن الماديActe materiel . فهل هذا التعبير يتضمن أن الفعل يمكن ألا يكون مادياً؟ وهل يمكن أن نتصور ولو على سبيل الجدل ركناً مادياً لا مادياً بوقت واحد؟ صحيح أن هذا المذهب قد شاع واستفحل في ألمانيا وفي انكلترة، ولكن سبق القول أن الفقه الألماني يتأثر إلى حد لا يستهان به بالفلسفة العقلية الألمانية التي تتعمق وتتشعب إلى درجة أنها تبتعد عن الأسلوب القضائي الصحيح. وإذا راجعنا الأمثلة التي يوردها أصحاب هذا المذهب من قصة (آلن هيوارد) إلى المجرم الذي حكم عليه لأنه أرسل تابوتاً صغيراً إلى رجل مسن ومريض سبب له اضطراباً وضرراً، أصبح لنا الحق أن نتساءل: هل يجب أن تصل الملاحقة القضائية إلى هذا الحد؟ ولمَا لا نعتبر مجرماً قاتلاً من يحاول بالإيحاء أو التعاويذ أو كتابة الحجب للإيقاع بالناس والإضرار بهم؟!

وفي هذه الدعوى ترى أن الانفعال النفسي هو العامل الأساسي للإسناد وإذا ثبت الضرب أو الرشق أو التهديد أو أي عمل أو قول آخر بحق المتهم، فإنها كلها لم تنتج ولا يمكن أن تنتج أي أثر إلا عن طريق الانفعال النفسي. وقد تعب العلماء وعلى رأسهم شاركو وفرويد وبافلوف لاكتشاف أسرار ومقومات هذا الانفعال، ولكي يلقوا ضوءاً على الحدود العميقة المجهولة القائمة بين النفس والمادة، وبين الروح والجسد، فلم يفلحوا إلا ببعض النظريات التي لم تزل ميداناً للنقد والمناقشة، فكيف يمكن للقضاء أن يبني أحكامه على أسس مثل هذه؟! أما مساءلة الناس عما يصدر عنهم من إثارات نفسية تضر بالآخرين فهو من قبيل إدانة الفاعل بسبب نواياه الجرمية المجردة عن أي فعل مادي صحيح وهذا لا يجوز).

غير أن محكمة النقض السورية ذهبت عكس هذا الرأي بالقول: إن الحكم المطعون فيه قد أخطأ عندما ذهب إلى القول بأن الإمساك بالمجني عليه وهزه من صدره لا يشكل في ذاته الركن المادي للجريمة. وكان الحكم سليماً لو أنه دلل على أن الإمساك والهز لا يدلان بذاتهما وفي مثل ظروف الحادث على نية الاعتداء.

        وسارت هذه المحكمة على نهجها هذا بالقرار506 تاريخ 8/5/ 1982. واعتبرت أن تهديد الجاني للمغدور الذي نتج عنه انفعال عصبي أدى الى إحداث الوفاة، يمكن أن يعتبر عملاً من أعمال الشدة المقصودة في المادة 536 عقوبات.

وكانت في قضيتين سابقتين (745 قرار 168 تاريخ24 / 2 /1960 و القرار رقم /5/ أساس  526 تاريخ 9/7/ 1966 قد قضت بأنه لابد من قيام أعمال مفضية إلى الموت بطبيعتها ومرتبطة بنتائجها ارتباط العلة بالمعلول، والسبب بالمسبب. وعلى هذا لا يمكن أن يحصل القتل عادة بالأقوال والحركات، كما وأن الحزن والألم وجميع الأمور المعنوية لا تدخل في المعنى المراد من العنف والشدة، ولا ينالها العقاب إلا إذا كانت بنفسها جرماً مستقلاً كالتهديد أو التحقير، ولا يكون الفاعل مسؤولاً عن النتائج البعيدة وغير المباشرة التي نجمت عن حادث مستقل عن الفعل أو عن خطأ المجني عليه أو خطأ شخص ثالث.    

وبالتالي نجد أن اجتهاد محكمة النقض السورية قد ذهب إلى القبول بأثر الانفعالات النفسية والعصبية كإحدى الوسائل المعنوية في جريمة القتل وذلك في أحدث اجتهاد لها وكانت قد رفضت ذلك في الاجتهادات الأقدام.

          وقد رأى الدكتور محمد الفاضل أن قانون العقوبات السوري لم يتعرض في جميع النصوص التي تعاقب على القتل للوسائل المعنوية التي قد يستعملها الجاني في الاعتداء على حياة الآخرين، وإنما وضع جميع الوسائل على صعيد واحد وساوى بينها. ونصُّ المادة 533 لم يتصدَّ بتاتاً لوسيلة القتل، بل جاءت عامة وشاملة، ولكنه أكد أنه لا يسعنا إلا أن نقر بأن استخدام الوسائل غير المادية لتحقيق قصد القتل من الأمور النادرة عملياً. وإذا وقعت فمن العسير إثبات القصد الجرمي وإثبات قيام الرابطة السببية بين الوسيلة وحصول الموت، وبذلك ينتهي إلى ما انتهى إليه الحكم آنفاً، وهذا رأي العلامة عبد الوهاب حومد، في حين يرى الدكتور جاك الحكيم ـ وكان هو وكيل الادعاء الشخصي في الدعوى السابقة ـ أن الأفعال غير المادية يمكن أن تكون صالحة كعنصر من عناصر الركن المادي للقتل بشرط أن تكون التأثيرات النفسية التي يوقعها الفاعل على المجني عليه كحركات التهديد يمكن اعتمادها دليلاً على فعل الاعتداء، وأن يترك الاضطراب الفيزيولوجي المحدث لدى المجني عليه أثراً مادياً يمكن معاينته للتأكد من تسببه بالاعتداء.  

وبالتالي نجد أن الفقهاء يجمعون على عدم التفريق بين وسائل القتل من حيث المبدأ، غير أن تحفظهم على هذا الإطلاق هو الصعوبة في اثبات الرابطة السببية بين الوسيلة المعنوية والوفاة أولاً وصعوبة إثبات القصد الجرمي ثانياً. 

ولذلك فإننا نرى أنه حتى يطال العقاب مرتكب فعل معنوي أدى إلى الوفاة، فإنه يجب أن يتوفر تقرير طبي قطعي حاسم على الصلة السببية بين هذا الفعل وهذه النتيجة، كعامل وحيد، أو أنه أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت على حدوث النتيجة، وأن يتوافر القصد لدى الجاني، وهذا يستنج من ظروف الواقعة وملابساتها ويخضع لتقدير قاضي الموضوع. كما يرى العلامتان غارو وجارسون فإنه لا يقبل في ميزان العدالة أن يفلت مجرم من العقاب ما برح يكيل الأذى والازعاج النفسي لمريض حتى فاقم حالته الصحية وفارق الحياة متى ثبت قصده الجرمي، فإنه مجرم ولا شك.

 

إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.