تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
x

عقد الذمة في الشريعة الإسلامية- الحدود التي تقف عندها سلطة القانون الإسلامي (3)

إن النظام القانوني الذي ساد في القرون الأولى لظهور الإسلام اتسم بالتعددية سواء لجهة التشريع أم لجهة القضاء، واستمر اعتماد هذا النظام في القرون التالية رغم العديد من الاستثناءات الهامة. وبموجب هذا النظام يعفى الكتابي بصفته عضواً في طائفته من الخضوع للقانون الإسلامي في أكثر الحالات، خصوصاً عندما تنحصر علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ضمن نطاق طائفته ولا تتعداها. في هذه الحال لا يخضع لغير قوانين طائفته الخاصة ولأحكام عقد الذمة خارج نطاق هذه القوانين.

هذه الأحكام ليست سوى اتفاقات تعاقدية صدقتها وأبرمتها طائفته كفريق في عقد لا كقوانين صادرة عن إرادة واحدة موحدة ومفروضة على الجميع. وفوق ذلك كله، فإن هذا العقد الصادر عن فريقين وإرادتين يؤلف الأساس القانوني للاستقلالية الطائفية التي ذكرناها. ولابد من الإشارة هنا إلى أن جميع الحكام المسلمين احترموا هذه الاستقلالية التي انبثق مفهومها عن مصادر الشريعة الكبرى، حيث تركوا لشعوب البلاد المفتوحة شرائعهم وقضاتهم وعينوا لهم حكاماً من بينهم يقومون بجباية الضرائب وبحل النزاعات التي يمكن أن تنشأ فيما بينهم.

 هذا الوضع استمر طويلاً يستمد قوته وشموله من مطابقته لمعطيات السنة الشريفة وكتاب الله عز وجل خصوصاً لجهة تطبيق القوانين المذهبية الخاصة، حتى في مادة الجزاء أحياناً. فقد كانت العهود أو الخطابات التي يعطيها الحكام لرؤساء الطوائف من أهل الكتاب ـ أثر تلقي خبر انتخابهم أو تعيينهم من قبل طوائفهم ـ تحوي تأكيداً وضماناً لهذه الاستقلالية في الشرع والقضاء. فالخطاب الصادر عن السلطة الإسلامية والذي صدّق تعيين أحد البطاركة النصارى الملكية يقول: "وليأخذهم بما يلزمهم من قوانين شرعتهم". وفي الصلاحيات المكرّسة في خطاب آخر إلى بطريرك اليعاقبة نقرأ: "ويفصل بينهم بمقتضى ما يعتقدونه في انجيلهم، ويمشي أحوالهم على موجبه في تحليلهم وتحريمهم ويقضي بينهم بما يعتقدونه من الأحكام... وليتحدث في مواريثهم إذا ترافعوا إليه". وفي خطاب آخر: "وليقمع غاويهم وليسمع دعاويهم".

وهذا الاستقلال القضائي والقانوني، الذي تكرسه تلك الخطابات يجد تعبيره الصحيح في الكثير من أحداث التاريخ الإسلامي. فالإمام علي بن أبي طالب (ع) كتب إلى محمد بن أبي بكر في موضوع مسلم تعاطى الزنا مع نصرانية طالباً إليه أن يطبق الحد على المسلم وأن ترسل المرأة الزانية إلى سلطات طائفتها الدينية لمحاكمتها. وهذا النوع من الوقائع التاريخية الشديدة الصلة بالاستقلال الطائفي أدى إلى رفع الطوائف الدينية إلى مرتبة الأمم في نظر بعض المؤرخين. ولكن رغم كل ذلك لم يكن القانون الإسلامي ليغيب عن الحياة اليومية لأهل الكتاب. فالعلاقات الاجتماعية وتداخل المصالح بين مختلف الطوائف كانت تفرض أحياناً الخضوع لأحكام القانون الإسلامي في سلبياته وإيجابياته على السواء. وواقع الأمور هذا، كان يطرح بدوره مسألة الحدود التي تقف عندها صلاحيات القاضي المسلم والقانون الإسلامي، ومسألة المدى الذي يمكن أن تبلغه استقلالية أهل الكتاب القانونية والقضائية.

فالحدود التي تقف عندها سلطة القانون الإسلامي:  

في جميع السنن الشريفة ذات العلاقة بنزاعات أهل الذمة، يلاحَظ أن القانون الخاص بكل طائفة كان يطبق في النزاعات التي تنشأ بين أتباعها في عهدي الرسول الأكرم (ص) والخلفاء الراشدين وذلك عبر أحكام التوراة والإنجيل دون اخضاع أهل الذمة لأحكام القرآن الكريم، حتى في الحالات التي يُدعى فيها القاضي المسلم لفض النزاعات القائمة بينهم. واستمر الوضع كذلك حتى بدايات العصر الأموي حيث بدأ يظهر كلام من الفقهاء حول حدود هذه الاستقلالية ودور القاضي المسلم في نزاعات أهل الذمة، فكانت القاعدة الراسخة عند الفقهاء "تركهم وما يدينون". وهذا رأي الإمام أبي حنيفة فهم مقرّون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها, ومن هذا المنطلق نستطيع القول أن سلطة القانون والقضاء الإسلاميين على أهل الذمة تنحصر في حالات ثلاث:

 الحالة الأولى: اختلاف الدين بين طرفي النزاع:

1ـ إذا كان أحد طرفي النزاع مسلماً فالعلاقة القانونية هنا تخضع لسلطة القانون الإسلامي مهما كان نوعها، ولقد أقر الفقهاء بالإجماع قاعدة تنص على صلاحية القاضي والقانون الإسلامي في هذا المجال استناداً إلى المبدأ القائل "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه".   

2ـ الحالة التي يكون فيها فرقاء النزاع الكتابيون من أتباع أديان مختلفة وهنا تنشأ سلطة القاضي والقانون الإسلامي لفصل الخلافات القائمة بينهم. والقاضي ملزم بالنظر في الدعاوى حتى في حال تلقي الطلب من فريق واعتراض الفريق الآخر على صلاحيته.

 الحالة الثانية: النظام العام الإسلامي وتطبيق القانون الإسلامي:

إن فكرة تطبيق القانون الإسلامي في هذه الحالة تنبثق عن طبيعة النزاع حيث أن بعض الجرائم الجزائية تتسبب بالفساد في الأرض فتلحق الضرر بالنظام العام الإسلامي. والأصل أن إقامة العدل بين أهل الكتاب في المسائل الجزائية كما المدنية، من صلاحيات الرئيس الروحي لكل طائفة. ولكن عندما يتعلق الأمر بالنظام العام فإن تطبيق القانون الإسلامي يكون مقدماً على القانون الخاص. غير أن فكرة النظام العام الإسلامي ليست واضحة المعالم في كتابات أهل الفقه، مما يعطي القاضي المسلم السلطة الواسعة في تقدير متى يتعلق الأمر بالمصلحة العامة أم لا.

 الحالة الثالثة: صلاحية القاضي والقانون الإسلامي الناجمة عن اختيار فريقي النزاع وقبول القاضي المسلم:

إذا اختار فريقا النزاع الذّميان تقديم طلب الفصل في النزاع إلى القاضي المسلم فإن ذلك يمنح هذا الأخير صلاحية الفصل في النزاع ويلزمه تطبيق القانون الإسلامي.

ولكن هل ثمة حالات تحد من تطبيق القانون الإسلامي في المحاكم الإسلامية؟

في الحقيقة إن تطبيق القانون الإسلامي على قضايا أهل الذمة عندما يمثلون أمام القاضي  يعود لتقديره. ولكن في بعض الأحيان وبسبب ظروف القضية كان يجد نفسه مضطراً إلى تطبيق القانون الطائفي الخاص عندما يكون طرفا الدعوى أو أحدهما من أهل الذمة. ويتعلق الأمر هنا بوجه عام باستثناءات تتصل بمبدأ تطبيق القانون الإسلامي من قبل القاضي المسلم في مسائل الزواج والإرث والمهور وتجارة الخمور وتجارة لحم الخنزير. ففي إحدى فتاويه يرى الإمام مالك أنه في حال قيام المسلم بإتلاف خمر الكتابي يتوجب على الأول تعويض الأخير بدفع ثمن الخمرة لأنها إذا كانت محرمة على المسلم فهي حلال للكتابي وهذه الاستثناءات تظهر في حالتين مختلفتين:

الأولى: بطريقة مباشرة:

1ـ حالة اختلاف الدين بين طرفي النزاع حيث يقوم القاضي العام (المسلم) في هذه الحالة باللجوء إلى تطبيق أحكام أهل الذمة على بعض جوانب القضية استناداً إلى الحديث الشريف الذي يقضي بتركهم وما يعتقدونه.

2ـ حالة كون فريقي النزاع من أهل الذمة ونذكر على سبيل المثال حادثة جرت أحداثها في عهد رسول الله (ص) حكم فيها حسب الشريعة الموسوية. وتتعلق بيهوديين مارسا جريمة الزنا حيث طبق النبي (ص) أحكام الزنا في الشريعة اليهودية عليهما.

والثانية: بطريقة غير مباشرة:

        وهذا الأمر يرتبط بحق القاضي المسلم بأن يرفض البت بالنزاع استناداً إلى الآية الكريمة: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين). وصلاحية القاضي هنا استنسابية فله أن يحكم أو يرفض الفصل بالنزاع. فإذا رفض النظر بالنزاع تتم احالتهم على رؤسائهم الدينين ليحكموا بينهم بموجب أحكام دينهم، وحالة الرفض هذه تؤدي من حيث النتيجة إلى تنحية القانون الإسلامي.

وهذا الاستقلال القانوني الذي يتمتع به أهل الكتاب يتجلى بشكل واضح في مسائل الأحوال الشخصية ومنها:

أولاًـ الزواج وهنا يجب التميز بين حالتين:

اـ زواج أهل الذمة فيما بينهم حيث يخضع للقانون الخاص بهم. وقد اعترف الإسلام بشرعية الزواج المعقود بين فريقين من أهل الذمة وأقرها. وكذلك الحال عند التحول إلى الإسلام حيث لم يطلب إلى من اعتنقوا الإسلام من المشركين أو أهل الكتاب أن يجددوا عقود زواجهم، وكذلك عند وجود فاصل زمني بين اعتناق أحد الزوجين والآخر للإسلام. وهذه الحالات لم تؤد إلى فسخ عقد الزواج أو إلغائه كما في حالة زوجة عكرمة بن أبي جهل التي اعتنقت الإسلام قبل زوجها، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في شرعية هذه العقود بين الاعتراف بها وبين الاعتراض عليها؛ فالإمام الشافعي يرى الاعتراف بها عند اعتناقهم الإسلام، أما الفقيه ابن زفر فيجزم بأن كل عقد زواج هو غير شرعي بين زوجين كتابيين إذا اعتنقا الإسلام وبأنه يجب في هذه الحال التفريق بينهما.

وهنا لابد من التساؤل عما إذا كان هذا الرأي برفض الاعتراف بشرعية عقود الزواج هذه يتوافق مع موقف السنة الشريفة الواضح لجهة الاعتراف بشرعية الزواج المعقود بين فريقين من أهل الذمة وإقرارها إذا اعتنقا الإسلام؟!

2ـ عقود الزواج المختلط وهي التي تقوم بين رجل مسلم وامرأة من أهل الكتاب، لأن تلك التي تقوم بين المرأة المسلمة والكتابي من أهل الذمة غير شرعية ومحرمة في نظر الإسلام، حيث يجيز الإسلام الأولى ويحرّم الثانية، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا حول مشروعية هذا الزواج بين الرفض الضمني وبين الرفض الأخلاقي، لكن سنة الرسول وزواجه من ماريا القبطية كانت الحائل دون إجهارهم بالتحريم؛ فالشافعية والمالكية تدين هذا النوع من الناحية الأخلاقية، وأما الزيدية فقد حرموا هذا النوع من الزواج، ولكن الشيعة الامامية فيقولون بالصحة المطلقة!

        فما هي حقوق الزوجة الذمية في هذه الحال؟

جميع الفقهاء الذين يقرّون هذا النوع من الزواج يؤكدون على تمتع الزوجة الذمية بجميع الحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة مع حقها بالبقاء على دينها، وبتطبيق شرائع ذلك الدين. فأبو حنيفة ومالك يريان أن الزوج المسلم لا يستطيع منع زوجته الذمية من التردد إلى أماكن العبادة الخاصة بأهل دينها. كما أنه لا يستطيع منعها من أكل لحم الخنزير وشرب الخمرة ولا يستطيع إكراهها على الاغتسال من العادة الشهرية. أما الشافعي يرى حق الرجل في منع زوجته الكتابية من الذهاب إلى أماكن عبادة أهل دينها وغيرها من محرمات الإسلام قياساً على حق الرجل المسلم منع زوجته المسلمة من الذهاب إلى المسجد. ولكن هذه الممنوعات لم يكن لها في مجال التطبيق سوى حيز ضئيل، والشواهد التاريخية تؤكد على الحرية اللامتناهية التي أعطيت للزوجات غير المسلمات في ممارسة شعائر دينهن.

ثانياً- حق الإرث الخاص بأهل الذمة: إن الشرع الإسلامي يقرّ حق الذمي بأن يرث أتباع دينه بالإضافة إلى تطبيق القوانين المذهبية الخاصة في موضوع الإرث، ولكن عند اختلاف الدين لا يقع التوارث.

وبالخلاصة نجد أن أهل الذمة كانوا يتمتعون بحرية مطلقة في ممارسة النشاطات التي يقومون بها سواء من الوجهة الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية غير منقوصة، وأن عدم التدخل في شؤون أهل الكتاب ساهم إلى حد كبير في تأمين نوع من الاستقلال الذاتي. وهذا الاستقلال سهّل لهم سبل ممارسة جميع حقوقهم العامة والخاصة في ظل شرائعهم المذهبية دون ضغط أو إكراه، وفي هذا الإطار كانت جميع الضمانات موفورة لممارسة جميع الحريات لاسيما الحرية الدينية.  وهنا نسأل هل اطلع علماء الفضائيات وأرباب الفتن ومفتو "الناتو" وأتباعهم من رعاع المنظمات الإرهابية على هذا الفقه العظيم للإسلام، وما هو مطبق منه في التشريع السوري النافذ من قواعد وأحكام بهذا الخصوص حتى يتهموا الدولة السورية بالكفر والخروج على الإسلام ويجيزوا لأنفسهم حربها والخروج عليها بذريعة الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية؟! 


إضافة تعليق جديد

نص عادي

  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.
اختبار رمز التحقق هذا السؤال هو لاختبار ما إذا كنت زائرًا بشريًا أم لا ولمنع إرسال الرسائل غير المرغوب فيها تلقائيًا.